تنقیح الاصول المجلد 2

اشارة

سرشناسه:تقوی اشتهاردی، حسین، - 1304

عنوان و نام پدیدآور:تنقیح الاصول: تقریر ابحاث الاستاذ الاعظم... روح الله الموسوی الامام الخمینی قدس سره/ تالیف حسین التقوی الاشتهاردی

مشخصات نشر:تهران: موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی(س)، 1378.

مشخصات ظاهری:ج 4

شابک:964-335-146-7(ج.1) ؛ 964-335-147-5(ج.2) ؛ 964-335-148-3(ج.3) ؛ 964-335-149-1(ج.4)

یادداشت:عربی

یادداشت:ج. 4 - 1 (اول: 1418ق = 1376): بهای هر جلد متفاوت

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1368 - 1279

شناسه افزوده:موسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی(س)

رده بندی کنگره:BP159/8/ت7ت9 1378

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:م 78-12310

ص: 1

[تتمة المطلب الاول]

اشارة

الجزء الثانی تنقیح الاصول

تقریر ابحاث الاستاذ الاعظم و العلامة الافخم

آیة اللَّه العظمی السید روح اللَّه الموسوی

الامام الخمینی قدس سره

تألیف

آیة اللَّه الشیخ حسین التقوی الاشتهاردی

مؤسسة تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی قدس سره

ص: 2

هویة الکتاب

* اسم الکتاب: ... تنقیح الأصول/ ج 2*

* المؤلف: ... حسین التقوی الإشتهاردی*

* تحقیق و نشر: ... مؤسسة تنظیم و نشر آثار الإمام الخمینی قدس سره*

* سنة الطبع: ... خرداد 1376- صفر المظفر 1418*

* الطبعة: ... الاولی*

* المطبعة: ... مطبعة مؤسسة العروج*

* الکمیة: ... 3000 نسخة*

* السعر: ... ریال*

جمیع الحقوق محفوظة و مسجّلة

لمؤسسة تنظیم و نشر آثار الإمام الخمینی قدس سره

ص: 3

ص: 4

ص: 5

الفصل الثانی عشر فی مقدّمة الواجب

اشارة

اختلفوا فی وجوب مقدّمة الواجب و عدمه علی أقوال، و تحقیق القول فی ذلک، و بیان أنَّ البحث عقلی أو لفظی(1)، یحتاج إلی تقدیم امور:

الأمر الأوّل: فی تنقیح محطّ البحث:

و لا بدَّ أوّلًا من ملاحظة الإرادة الفاعلیة کی یُعلم منها حال الإرادة التشریعیة فنقول:

لو أراد شخص شیئاً، کلقاء صدیقه فی مکان مُعیّن، لاشتیاقه إلیه، فرأی أنّه یتوقف علی عمل أو أعمال، کالذهاب إلی مکانه، فأرادهُ- أیضاً- فهنا إرادتان: تعلّقت إحداهما بذی المقدّمة، أی لقاء الصدیق؛ و ثانیهما بالمقدّمة، أی الذهاب إلی مکانه، و لا فرق بین هاتین الإرادتین إلّا فی غایتیهما، فإنَّ غایة الاولی هی لقاء الصدیق الذی هو المقصود بالذات، و غایة الثانیة الذهاب إلی مکانه، و لیس هو المقصود بالذات، بل لأجل التوسّل به إلی مقصوده الأصلی و هو لقاء الصدیق، فالإرادة الاولی نفسیّة،


1- هدایة المسترشدین: 198، مطارح الأنظار: 83، درر الفوائد: 124، وقایة الأذهان: 205.

ص: 6

و الثانیة غیریة.

و من هذا تعرف و یظهر ما فی قولهم: إنّه یترشّح من إرادة ذی المقدّمة إرادة اخری متعلّقة بالمقدّمة(1).

هذا بالنسبة إلی الإرادة الفاعلیة التکوینیّة.

أما الإرادة التشریعیّة فالآمر حیث یری أنَّ ایجاد الفعل الفلانی من الغیر ذو مصلحة، فتتعلّق قوّته الشوقیة به، لکن حیث یری أنّه لا وسیلة له لإیجاد الغیر إیّاه إلّا بأن یبعثه نحوه و یأمره بإیجاده، و رأی أنَّ إیجاده من الغیر یتوقّف علی وجود شی ء آخر، فینقدح فی ذهنه إرادتان: إحداهما متعلّقة ببعثه إلی ذی المقدّمة، و ثانیتهما بالمقدّمة، کما فی الإرادة الفاعلیة.

فنقول: یمکن تصویر محطّ البحث بصور کلّها مخدوشة، فإنّه لو قیل: إنَّ محطّ البحث هو فی ثبوت المُلازمة الفعلیة بین الإرادة الفعلیة المتعلّقة بالبعث إلی ذی المقدّمة، و بین الإرادة الفعلیة المتعلِّقة بالبعث إلی المقدّمة، فهو سخیف جدّاً، فإنَّ الآمر قد یغفل عن المُقدّمات، و لا یتوجّه إلیها کی یریدها فعلًا.

و کذا القول بأنَّ النزاع فی ثبوت المُلازمة الفعلیة بین الإرادة الفعلیة المتعلِّقة بذی المقدّمة و بین الإرادة الفعلیة المُتعلِّقة بعنوان المقدِّمة.

و کذلک لو قیل بأنَّ النزاع إنّما هو فی ثبوت المُلازمة الفعلیة بین البعث الفعلی إلی ذی المقدّمة و بین البعث الفعلی إلی المقدّمة، أو إلی عنوانها؛ لما ذکرنا من أنَّ المقدّمات و عنوانها مغفول عنها فی کثیر من الموارد، مع أنَّ الإرادة و البعث إلی شی ءٍ یحتاج إلی خطوره و التصدیق بفائدته و صلاحه و غیر ذلک، و المفروض أنّها مغفول عنها.

و لو قیل: إنّ البحث إنّما هو فی ثبوت الملازمة الفعلیّة بین الإرادة الفعلیة لذی المقدّمة و بین الإرادة التقدیریة للمقدّمة بمعنی أنّه لو التفت إلیها أرادها، أو ثبوت


1- انظر نهایة الأفکار 1: 258، کفایة الاصول: 117، فوائد الاصول 1: 385 و 387.

ص: 7

الملازمة الفعلیّة بین البعث الفعلی إلی ذی المقدّمة و بین البعث التقدیری إلی المقدّمة بالمعنی المذکور، فهو غیر معقول؛ فإنّ الملازمة عبارة عن التضایف، و هو یستدعی وجود المتضایفین فعلًا، کما فی العلّة و المعلول، و لا یمکن التضایف الفعلی بین الموجود و المعدوم فإنّ المتضایفین متکافئان فعلًا و قوّة، فالابوّة الفعلیّة إنّما تتحقّق مع وجود الابن، و بدونه لا یمکن تحقّقها، و ما نحن فیه من هذا القبیل.

فإن قلت: الیوم مقدّم علی الغد فعلًا، و لا ریب فی أنّ التقدّم- أیضاً- من التضایف مع أنّ الغد غیر موجود فعلًا.

قلت: التقدّم فیه- أیضاً- غیر معقول، و إطلاق العرف له فیه مسامحة و من الأغلاط المشهورة. هذا کلّه لو قلنا بأنّ النزاع فی المسألة عقلیّ.

و یظهر من صاحب المعالم: أنّ النزاع فی المسألة لفظیّ؛ حیث استدلّ لعدم الوجوب بانتفاء الدلالات الثلاث، و أنّ البحث إنّما هو فی دلالة لفظ الأمر و عدمها، و أنّه لا دلالة مطابقیّة فیه قطعاً؛ لأنّ مادّة الأمر لا دلالة لها إلّا علی الطبیعة لا بشرط، و هیئته- أیضاً- لا تدلّ إلّا علی البعث، و شی ء منهما لا یدلّ علی وجوب المقدّمة(1).

أقول: و أمّا التضمّن و الالتزام فهما لیستا من أقسام الدلالات اللفظیّة، فإنّ دلالة الالتزام هی دلالة المعنی علی المعنی، فإنّ قولنا: «الشمس طالعة» یدلّ علی طلوع الشمس بالمطابقة، لکن لمّا استلزم طلوع الشمس لوجود النهار یُعلم بالالتزام أنّ النهار موجود، و کذلک التضمّن. هذا، و لکن یمکن تصویر النزاع العقلی بنحوٍ آخر بأن یقال: إنّ محطّ البحث إنّما هو فی ثبوت الملازمة الفعلیّة بین إرادة ذی المقدّمة و بین ما یراه مقدّمة، و لا یرد علیه الإشکالات المذکورة.

توضیح ذلک: أنّ الآمر یتصوّر ذا المقدّمة أوّلًا، و أنّ فیه مصلحة و فائدة، ثمّ یشتاق إلیه، فتتعلّق إرادته به، و هذه المصلحة إنّما هی بنظره، و إلّا فیمکن خطاؤه فی


1- انظر معالم الدّین: 61.

ص: 8

التشخیص، بل کان ذا مفسدة، ثمّ یری أنّ وجوده یتوقّف علی مقدّمات بنظره، فیریدها أیضاً، و یمکن خطاؤه فی المقدّمات، و أنّ ما هو الموقوف علیه ذو المقدّمة واقعاً غیر ما هو الموقوف بنظره. هذا بالنسبة إلی غیر الشارع من الموالی العرفیّة، فإنّ البحث أعمّ.

و أمّا بالنسبة إلی الشارع تعالی فإنّ الخطاء فیه غیر متصوّر، فیمکن أن یُقال بثبوت الملازمة بین إرادة ذی المقدّمة و بین إرادة ما یراه مقدّمة، و یمکن أن یقال- أیضاً- بعدم الملازمة، بل یکفی الإرادة الاولی، و القائل بثبوت الملازمة إنّما یقول بوجوب الإتیان بالمقدّمة إذا لم یُعلم خطاؤه فی ما یراه مقدّمة، و أمّا مع العلم بخطائه فلا یجب الإتیان بالمقدّمة التی یراها مقدّمة، بل یجب الإتیان بما هو مقدّمة واقعاً، لکن بملاک آخر، و هو وجوب تحصیل غرض المولی و إن لم یُردها لخطائه فیها، کما لو غرق ابن المولی و هو غافل عنه، فإنّه یجب إنقاذه تحصیلًا لغرضه و إن لم تتعلّق إرادته به؛ بحیث لو لم یغفل عنه لَأَراده. و هذا بالنسبة إلی غیر الشارع من الموالی العرفیّة، و إلّا فلا یتصوّر الخطاء بالنسبة إلی الشارع المقدّس، فما یراه مقدّمة و هو مقدّمة واقعاً.

الثانی من الامور: أنّ هذه المسألة هل هی من المسائل الاصولیّة، أو من المبادی الفقهیّة، أو من المسائل الکلامیّة أو غیرها؟

فإن قلنا: إنّ موضوع علم الاصول هو عنوان الحجّة فی الفقه، کما عن بعض المعاصرین(1)، و علیه فالمسائل الاصولیة هی ما یُبحث فیها عن العوارض الذاتیّة للموضوع؛ و هو عنوان الحجّة، و علیه فهذه المسألة من المبادی الفقهیّة، لا من المسائل الاصولیّة؛ لعدم رجوع البحث فیها إلی ما ذکرناه.


1- انظر نهایة الاصول 1: 12 و 142.

ص: 9

و إن قلنا: إنّه لا یلزم أن یکون لکلّ علمٍ موضوعٌ معیَّن یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة، مثل أفعال المُکلَّفین فی الفقه؛ لما عرفت فی أوّل الکتاب أنّ الوجوب و الحرمة لیسا من الأعراض؛ کی یقال: إنّها من الأعراض الذاتیّة، أو من الأعراض الغریبة، مضافاً إلی أنّ کثیراً من المسائل الفقهیّة لیست کذلک، مثل قولنا: «الماء الکرّ لا ینجّسه شی ء» أو «أنّ القلیل ینجس بالملاقاة للنجس»، بل کلّ علم عبارة عن عدّة مسائل مرتبطة واحدة سنخاً.

و قلنا: إنّ علم الاصول علم آلیّ یمکن أن تقع نتیجته کبری فی مقام استنباط الأحکام الفقهیّة أو التی یُنتهی إلیها فی مقام العمل.

فعلیه فهذا البحث من المسائل الاصولیّة؛ لإمکان وقوع نتیجته فی مقام الاستنباط و إن لم یکن واقعاً بالفعل، نظیر القیاس. هذا کلّه بالنسبة إلی ما ذکرناه من أنّ هذا البحث عقلیّ.

و أمّا بناء علی ما ذکره صاحب المعالم قدس سره(1) و تسلیم أنّ الدلالة الالتزامیّة من الدلالات اللفظیّة، فهو من المباحث اللفظیّة لعلم الاصول.

لکن فیه إشکال و لو مع فرض تسلیم أنّ الدلالة الالتزامیّة من الدلالات اللفظیّة؛ للفرق بین الدلالة الالتزامیة و بین الملازمة المبحوث عنها فی المقام؛ لأنّ المناط فی الدلالة الالتزامیّة دلالة اللفظ علی معنیً مطابقیّ ملازم لمعنیً آخر بحیث یستکشف من اللفظ بما هو لفظ المعنی اللازم بواسطة المعنی الملزوم، مثل قولنا: «الشمس طالعة»، فإنّه یدلّ بالمطابقة علی طلوع الشمس، فیدلّ علی وجود النهار بالالتزام.

و بعبارة اخری: الدلالة الالتزامیّة هی دلالة المعنی من حیث إنّه مدلول مطابقی للّفظ علی معنیً خارجٍ لازمٍ له، و ما نحن فیه لیس کذلک، فإنّ هیئة الأمر تدلّ علی البعث إلی المادة، و المادّة تدلّ علی الطبیعة لا بشرط، و هذا المعنی- أی البعث إلی


1- انظر معالم الدین: 61.

ص: 10

الطبیعة- و إن دلّ علی وجود الإرادة لذی المقدّمة، و هی- أیضاً- مستلزمة لإرادة المقدّمة، لکن هذه الدلالة لیست بما أنّها لفظ؛ بأن یستکشف من اللفظ من حیث إنّه لفظ هذا المعنی بواسطة، بل بما أنّه فعل من الأفعال الاختیاریة؛ لما ثبت فی محلّه: أنّ کلّ فعل اختیاریّ صادر عن عاقل فهو مسبوق بإرادته، فی قبال الأشاعرة القائلین بالجزاف، و لیس فیه مناط الدلالة الالتزامیّة؛ لما عرفت أنّ المناط فیها استکشاف المعنی من اللفظ بما هو لفظ بالواسطة، لا بما هو فعل.

الثالث من الامور: المقدمة الداخلیة و الخارجیة

اشارة

أنّ المقدّمة علی قسمین: داخلیّة و خارجیّة، و الخارجیّة- أیضاً- علی أقسام، و المقدّمة الداخلیّة عبارة عن أجزاء المرکّب المأمور به، کأجزاء الصلاة، و الخارجیّة عبارة عمّا هو خارج عن المأمور به، لکنّه یتوقّف علیه بحسب الوجود، و حینئذٍ فهل القسمان کلاهما محطّ البحث، أو یختصّ البحث بالمقدّمات الخارجیّة مطلقاً، أو بعض أقسامها؟

فنقول: قد استشکل فی القسم الأوّل بأنّ المقدّمة عبارة عمّا یتوقّف علیه ذو المقدّمة، فلا بدّ و أن تکون متقدّمة- و لو بحسب الرتبة- علی ذی المقدّمة، و المقدّمات الداخلیّة- الّتی هی أجزاء المرکّب- لیست کذلک؛ لأنّه یلزم تقدّم الشی ء علی نفسه؛ لأنّ الکلّ عین الأجزاء بالأسر(1).

و أجاب عنه فی «الکفایة» بما حاصله: أنّ الأجزاء بالأسر لا بشرط هی المقدّمة، و هی بشرط الاجتماع ذو المقدّمة، ففرق بینهما و لو بالاعتبار، نظیر الفرق بین المادّة و الصورة و بین الجنس و الفصل، فإنّ الفرق بینهما کذلک اعتباریّ(2).


1- انظر هدایة المسترشدین: 216 نسبهُ الی بعض الأفاضل.
2- کفایة الاصول: 115.

ص: 11

و اورد علیه أنّ غایة ما ذکره قدس سره أنّ الفرق بینهما هو بالاعتبار، فیلزم أن یکون مقدّمیّة المقدّمة اعتباریّة لا حقیقیّة، مع أنّه لا ریب فی أنّ مقدّمیّة المقدّمة و تقدّمها حقیقیّة لا اعتباریّة، و أیضاً یلزم ممّا ذکره أن یتعلّق إرادتان بشی ء واحد حقیقةً، و هو اجتماع المثلین، و هو مستحیل، أو لغویّة إحدی الإرادتین، و هی- أیضاً- محال بالنسبة إلی الحکیم(1).

أقول: المرکّبات علی أقسام:

منها المرکّبات الحقیقیّة: و هی فیما إذا التأمت الأجزاء بحیث صار المجموع طبیعة ثالثة، کالإنسان المرکّب من الجنس و الفصل، فإنّهما من الأجزاء التحلیلیّة، و هذا القسم من الموجودات التکوینیّة لا یمکن أن یتعلّق به البعث لعدم قدرة المکلف علی إیجادها.

و منها المرکّبات الاعتباریّة: و هی- أیضاً- علی قسمین:

منها: ما لمجموعها و هیئة أجزائها اسم خاصّ عرفاً، مثل المسجد الذی هو مرکّب من أجزاء مختلفة ملتئمة؛ بحیث یعدّ المجموع مسجداً لا الأجزاء، و هو واحد عرفاً، لا بالدقّة العقلیّة.

و منها: ما لیس کذلک، و لیس مجموع أجزائها شیئاً واحداً عرفاً، مثل الفوج و العسکر المرکّب من مائة فرد- مثلًا- فإنّها مائةٌ آحادٌ، و لیست ملتئمة کما فی القسم الأوّل منهما و مع ذلک فرق بین مائةٍ آحادٍ و بین المائة الواحدة، فتعتبر الوحدة فی الثانی دون الأوّل.

إذا عرفت هذا فلا بدّ من ملاحظة الإرادةِ الفاعلیّة فیما لو ارید إیجاد مرکّب من المرکّبات، و کیفیّةِ تعلُّق الإرادة بالأجزاء و الکلّ؛ کی تتفرّع علیها الإرادة التشریعیّة.

فنقول: الداعی إلی إرادة بناء المسجد نفس المسجد لما فیه من المصالح، فیریده


1- انظر حاشیة القوچانی علی کفایة الاصول: 84.

ص: 12

البانی. ثمّ إنّه لمّا رأی أنّ بناءه یتوقّف علی تحصیل اللبن و الآجر- مثلًا- فیرید تحصیلها لذلک، فإرادة بناء المسجد سبب لهذه الإرادة، فلا فرق بین الإرادتین إلّا فی أنّ الاولی نفسیّة و الثانیة غیریّة، ثمّ لو تعدّدت المقدّمات تعدّدت إراداتها أیضاً، و لو اتّحدت تتّحد.

فیظهر ممّا ذکرنا ما فی قول بعض الأعاظم: من أنّ إرادة ذی المقدّمة منبسطة علی المقدّمات، و أنّه لیس هنا إلّا إرادة واحدة منبسطة(1)؛ و ذلک لشهادة الوجدان علی خلافه، و أنّ هنا إرادتین أو إرادات.

و الحاصل: أنّه لا فرق بین المقدّمات الداخلیة و الخارجیّة فی أنّ لکلّ واحد منها إرادة مستقلّة، و أنّ تعدّد الإرادة مستلزم لتعدّد المراد و بالعکس، مضافاً إلی قیام البرهان علی ذلک.

توضیحه: أنّ الإرادة من ذوات الإضافة، و لها إضافة إلی النفس، و بدونها لا یمکن تحقّقها، ثمّ إنّها تحتاج إلی المراد؛ لأنّها نظیر الحبّ و الشوق، فکما أنّ تحقّقهما فی الخارج یتوقّف علی ما یتعلّق به الحبّ و الشوق، کذلک تحقّق الإرادة یحتاج إلی المراد، ثمّ إنّ الإرادة تابعة للمراد وحدةً و تعدّداً و بالعکس، فالإرادة الواحدة تستلزم مراداً واحداً، و تعدّدها مستلزم لتعدّده و بالعکس، و لا یمکن تعلُّق إرادتین بمراد واحد، و لا إرادة واحدة بمرادین، فإذا کان هناک مرکّب معجون له مصلحة واحدة تتعلّق به إرادة واحدة لإیجاده، فلمّا رأی أنّ إیجاده متوقّف علی إیجاد کلّ واحد من أجزائه یتعلّق بکلّ واحد منها إرادة مستقلّة غیریّة؛ لأنّ المجموع من الأجزاء مغایر لکلّ واحدٍ من الأجزاء، و لهذا یمکن أن یتحقّق فی الکلّ مصلحة لا توجد فی کلّ واحد من الأجزاء، و یتوقّف إیجاد الکلّ علی إیجاد کلّ واحد من أجزائه، فیتعلّق بالکلّ إرادة نفسیّة، و بکلّ واحد من الأجزاء إرادة غیریّة، و مقتضی استلزام تعدُّد الإرادة لتعدّد المراد، هو


1- انظر نهایة الاصول 1: 144.

ص: 13

مغایرة کل واحد من الأجزاء للکلّ حقیقةً، و هو المطلوب.

و بالجملة: هنا ملاکان للإرادة: أحدهما فی المجموع، و هو ملاک الإرادة النفسیّة، و ثانیهما فی کلّ واحد من أجزاء الکلّ، و هو ملاک الإرادة الغیریّة، و هذه الإرادة إنّما هی فی کلّ واحد واحد من الأجزاء، لا الأجزاء بالأسر، فإنّ الأجزاء بالأسر عین الکلّ، و وجود الکلّ یتوقّف علی وجود مجموعها، مضافاً إلی کلّ واحدة.

و لا فرق فیما ذکرنا بین الإرادة الفاعلیة و بین التشریعیّة، و لا بین المقدّمات الداخلیّة و بین الخارجیّة، فمحطّ البحث هو کلتاهما، فیبحث فی الداخلیّة فی أنّ إرادة ذی المقدّمة المرکّبة هل تستتبع إرادة اخری متعلّقة بالأجزاء أو لا، بل یکفی إرادة ذی المقدّمة؟

و ممّا ذکرنا یظهر ما فی «الکفایة» من خروج المقدّمات الداخلیّة عن محلّ النزاع، مستدلّاً بأنّه لو تعلّق بها إرادة مستقلّة یلزم اجتماع المِثلین؛ لأنّ الأجزاء عین الکلّ حقیقةً، و إنّما الفرق بینهما بالاعتبار(1).

و ذلک لأنّا لا نُسلّم أنّ الإرادة مع الإرادة و کذا البعث مع البعث من قبیل المتماثلین، و علی فرض التسلیم فاستحالة اجتماع المثلین إنّما هی فی الموضوع الواحد، و الموضوع للإرادتین فیما نحن فیه متعدّد؛ لما عرفت من أنّ کلّ واحد من الأجزاء مغایر للکلّ.

و قال المحقّق العراقی قدس سره فی المقام ما حاصله: إنّ المرکّبات الغیر الحقیقیّة علی قسمین: أحدهما ما یعتبر الوحدة فیه قبل تعلّق الإرادة، و ثانیهما ما لیس کذلک، بل الوحدة تتحقّق من قِبَل الإرادة و بعدها.

و محلّ البحث هو القسم الأوّل لا الثانی؛ لأنّ الکلّیّة فی القسم الثانی إنّما جاءت من قِبَل الإرادة، و قَبْلَها لیس کلٌّ و لا جزء، فلا معنی لدعوی الملازمة بینهما کما


1- کفایة الاصول: 115.

ص: 14

لا یخفی(1).

أقول: لا إشکال فی أنّه لیس المراد من الوحدة مفهومها بل مصداقها، و حینئذٍ فإذا فرض مجموع آحاد له مصلحة لیست هی فی کلّ واحد واحد من الأجزاء، کفتح البلاد فی العسکر، فلا یعقل تعلّق الإرادة به بدون اعتبار الوحدة؛ لما عرفت من أنّه لیس المراد مفهومها بل مصداقها، و تقدّم الجزء علی الکلّ إنّما هو فی مرتبة الذات و فی الوجود، و إلّا فعنوانا الکلیّة و الجزئیّة من المتضایفین و لا یعقل تقدّم أحد المتضایفین علی الآخر نظیر العلّة و المعلول، فإنّ عنوانیهما من المتضایفین، و المتضایفان متکافئان فعلًا و قوّةً، مع أنّ ذات العلّة و مصداقها متقدّمة علی المعلول، فملاک البحث لیس عنوان الکلّیّة و الجزئیّة کی یرد علیه ما ذکره قدس سره بل الملاک هو التوقّف بحسب الوجود، و لا فرق فی ذلک بین القسمین من المقدّمات.

الرابع من الامور: ثبوت النزاع فی العلّة التامّة

هل النزاع فی جمیع المقدّمات الخارجیّة بأقسامها حتّی العلّة التامّة و السبب التامّ، أو أنّ النزاع فی غیر العلّة التامّة؟ قولان:

استدلّ لثانیهما: بأنّ المعلول للعلّة التامّة لیس مقدوراً للمکلّف کالإحراق، فلا یتعلّق به البعث و الإرادة، و المقدور هو إیجاد العلّة، و حینئذٍ فلو فرض تعلّق أمر بمعلول فهو أمر صوریّ لا بدّ من إرجاعه إلی العلّة؛ لاعتبار القدرة فی متعلّق الأمر، فمع عدم تعلّق الإرادة بالمعلول لا معنی للبحث عن ثبوت الملازمة بین إرادتها و بین إرادة المعلول(2).

و فیه: أنّ المسألة لیست عقلیّة، بل عرفیّة عقلائیّة لا بدّ من ملاحظة المتفاهم


1- بدائع الأفکار( تقریرات العراقی) 1: 314.
2- انظر فوائد الاصول 1: 269- 271.

ص: 15

العرفی و حکم الوجدان فی ذلک فنقول: لا إشکال فی أنّ ایجاد العلّة بنفسها مقدور، و المعلول بلا واسطة غیر مقدور و لکنّه مقدور مع الواسطة، فإذا فرض أنّ زیداً عدوّ فالوجدان شاهد علی أنّه یمکن إحراقه لکن بواسطة جمع الحَطَب- مثلًا- فیتعلّق به إرادته، فیبحث عن أنّها هل تستلزم إرادة علّته أولا؟

هذا فی الإرادة التکوینیّة، و کذا فی الإرادة التشریعیّة، فلا فرق بین المقدّمة التی هی علّة تامّة و بین غیرها فی أنّ البحث شامل لکلیهما.

و حاصل الإشکال: أنّه لا ریب فی أنّه یشترط فی صحّة التکلیف قدرة المکلّف علی إیجاد متعلّقه، و المفروض أنّه غیر قادر بالنسبة إلی متعلّقه فی الأفعال التولیدیّة و المعلولات، فهی خارجة عن البحث بنحو الاستثناء المنقطع.

و حاصل دفع الإشکال: أنّه إنّما یرد لو قلنا: إنّ مناط حسن التکلیف و صحّته هو قدرة المکلّف علی متعلّق التکلیف بلا واسطة، و أمّا لو قلنا بأنّه یکفی فی صحّته القدرة علیه و لو مع الواسطة- کما هو الصحیح- فلا، و إلّا فلو اعتبر القدرة علی متعلّق التکلیف بلا واسطة فی صحّته، لزم خروج جمیع المقدّمات عن محطّ البحث، فإنّ لقاء الصدیق أو الکون علی السطح لیس مقدوراً للمکلّف بدون الذهاب إلی مکانه أو نصب السُّلّم، فعلی ما ذکره لا وقع للبحث عن المقدّمات کلّها.

الخامس من الامور: المقدّمة المتأخرة

اشارة

أنّ المقدّمة تنقسم إلی أقسام بحسب تقدّمها و تأخّرها عن ذی المقدّمة و اقترانها: إلی المقدّمة المتقدّمة بحسب الوجود عن ذی المقدّمة، و المتأخّرة، و المقارنة.

و اختلفوا فی تصویر المتأخّرة و إمکانها، و عبّروا عنها بالشرط المتأخّر(1)، کالأغسال اللیلیّة للمستحاضة بالنسبة إلی صحّة صوم الیوم الماضی، و کالإجازة


1- فوائد الاصول 1: 271، کفایة الاصول: 118.

ص: 16

فی البیع الفضولی علی القول بالکشف الحقیقی، بل و کذلک فی الشرط المتقدّم(1) علی أقوال:

أحدها: إمکانهما مطلقاً، سواء کان فی التکوینیّات، أم فی التشریعیّات.

و ثانیها: عدم إمکانهما مطلقاً.

ثالثها: التفصیل بین التکوینیّات فلا یمکن، و بین التشریعیات فیمکن.

و استدلّوا علی عدم الإمکان: بأنّ الشرط من أجزاء العلّة التامّة، فلا یمکن تأثیر المتأخّر منه و کذلک المتقدّم منه علی المشروط؛ لوجوب اقتران العلّة التامّة بمعلولها، فکذلک أجزاؤها.

و اختار فی «الکفایة» الإمکان مطلقاً فی التکوینیّات و التشریعیّات، سواء کان شرطاً للتکلیف أو الوضع أو المأمور به، لکنّه لم یبیّن وجه الإمکان فی مقام الاستدلال فی التکوینیّات(2).

و اختاره المحقّق العراقی قدس سره أیضاً، و استدلّ علیه بأنّه لا شبهة فی أن المقتضی لوجود المعلول لیس هو طبیعة العلّة، بل حصّة خاصّة منها؛ مثلًا: النار تقتضی الإحراق، لکن لیس المؤثر فیه هو طبیعة النار، بل حصّة خاصّة منها، و هی التی تُماسّ الجسم المستعدّ بالیبوسة لقبول الاحتراق، و أمّا الحصّة التی لا تُماس الجسم المستعدّ للاحتراق فلا یعقل أن تؤثّر فی الإحراق، فهذه الحصّة المقتضیة لا بدَّ لها من محصِّل خارجی، فما به تحصل خصوصیّة الحصّة المؤثّرة یسمّی شرطاً، و الخصوصیّة المذکورة:

عبارة عن النسبة القائمة بتلک الخصوصیّة الحاصلة من إضافة الحصّة المزبورة إلی شی ء ما، و ذلک الشی ء المضاف إلیه هو الشرط، فالمؤثِّر هو نفس الحصّة الخاصّة المقتضیة، و الشرط هو محصِّل خصوصیّتها، و هو طرف الإضافة المذکورة، و ما شأنه


1- کفایة الاصول: 118.
2- کفایة الاصول: 118- 120.

ص: 17

ذلک جاز أن یتقدّم علی ما یضاف إلیه، أو یقترن به، أو یتأخّر عنه.

ثمّ أورد علی ذلک: بأنّ ذلک یقتضی تأثیر الحصّة من النار مع الیبوسة المتقدّمة أو المتأخّرة فی الجسم.

و أجاب: بأنّا لم ندّعِ أنّ مطلق الإضافة توجب خصوصیّة فی المضاف یکون بها مقتضیاً للمعلول، بل الإضافة الخاصّة.

و الحاصل: أنّ الشرط هو مُحصِّص الحصّة و محصّلها، و هو الإضافة، و المؤثّر هو الحصّة(1). انتهی ملخّصه.

أقول: لا ریب فی أنّ الإضافة التی ذکرها من الامور الاعتباریّة، فمع تسلیم ما ذکره من الحصّة یلزم أن یؤثّر الأمر الاعتباری فی التکوینی، و هو واضح البطلان؛ لأنّ ما ذکره من الحصّة- أیضاً- من الامور الاعتباریّة، و هو صحیح فی مثال النار، لکن لا یختصّ النزاع به، بل هو أعمّ، مضافاً إلی أنّ ما ذکره غیر معقول أصلًا.

توضیحه: أنّ القضیّة: إمّا موجبة أو سالبة، و کلّ واحد منهما إمّا محصّلة أو معدولة، و السالبة لا تستدعی وجود الموضوع، لکن الموجبة مطلقاً- سواء کانت معدولة أو محصّلة- تستدعی وجود الموضوع: إمّا ذهناً، مثل قولنا: المعدوم المطلق لا یُخبر عنه، و إمّا خارجاً إلّا أن یرجع إلی السالبة، مثل: «شریک الباری ممتنع»، فإنّ مرجعه أنّه لیس بموجود البتّة؛ لأنّ ثبوت شی ء لشی ء فرع ثبوت المثبت له.

إذا عرفت ذلک نقول: إنّه قدس سره إن أراد أنّ صوم المستحاضة صحیح فعلًا؛ لإضافته إلی الأغسال اللیلیّة الآتیة- أی الأغسال المتوهّمة الخیالیّة بأن یکون طرف الإضافة هو الغسل المتوهّم الخیالی- ففساده واضح؛ لاستلزامه القول بأنّ الشرط هو الغسل الخیالی المتوهّم.


1- بدائع الأفکار( تقریرات المحقّق العراقی) 1: 320- 321.

ص: 18

و إن أراد أنّ طرف الإضافة هو نفس الغسل حقیقة، و أنّها فعلًا موجودة، فهو طرف الإضافة لاحتیاج الإضافة إلی متضایفین، مع أنّه معدوم فعلًا.

ففیه: أنّ صدق الموجبة- کما عرفت- یتوقّف علی وجود الموضوع، فلا یصحّ أن یقال: إنّ غسل اللیلة الآتیة طرف للإضافة الفعلیّة، و هو مضاف.

و یرد هذا الإشکال علی من جعل الشرط هو تعقُّب صوم المستحاضة بالغسل، أو تعقُّب العقد الفضولی بالإجازة، و هو مقارن للصوم و العقد، و لیس متأخّراً(1)؛ و ذلک لأنّه کما أنّ الإضافة تستدعی وجود المتضایفین فعلًا، و بدونه لا یمکن تحقُّقها فعلًا، کذلک المعنی الإضافی کعنوان التعقُّب، فإنّه یستدعی وجود المتعقِّب- بالکسر- أی الإجازة و المتعقَّب- بالفتح- أی العقد، فلا یمکن وجود عنوان التعقُّب بدون وجود المتعقِّب، و هو الإجازة فعلًا.

و التحقیق فی دفع الإشکال: هو أنّ منشأ وقوع هذا البحث و النزاع هو ما وقع فی الشریعة من الشرط المتأخِّر فی التکلیف و الوضع و المأمور به: فالأوّل کما إذا کان العبد قادراً فی الغد فقط علی الفعل، فیأمره الیوم بإتیانه فی الغد، فإنّ التکلیف صحیح مع تأخّر القدرة عن زمان التکلیف، و الثانی کصحّة البیع الفضولی مع وقوع الإجازة بعده، و الثالث کصوم المستحاضة المأمور به فعلًا بشرط فعل الأغسال اللیلیّة الآتیة أو أغسال اللیلة الماضیة فی الشرط المتقدّم.

فنقول: لا یمکن دفع الإشکال فی هذه الأقسام بنهج واحد، بل یختلف:

فالجواب عن الأوّل: هو أنّ القدرة التی هی شرط فی التکلیف من المولی لیست هی القدرة الواقعیّة؛ کی یقال بأنّه لا یمکن التکلیف من المولی مع عدم قدرة العبد فعلًا علیه، بل الشرط هو تشخیص المولی قدرة العبد علیه فی الغد فی المثال، و هو موجود حال التکلیف، و الشاهد علی ذلک هو الوجدان، فإنّ الآمر إذا علم أنّ


1- انظر الفصول الغرویّة: 80 سطر 36.

ص: 19

عبده قادر علی فعل المکلّف به غداً صحّ تکلیفه به، فإن کان قادراً علیه فی الواقع فهو، و إن تبیّن خطؤه فی التشخیص فالتکلیف قد تمشّی منه و صح لوجود شرطه، و هو تشخیص المولی أنّه قادر علیه فی الغد حین التکلیف، و الظاهر أنّ هذا هو المراد ممّا أجاب به فی «الکفایة»(1) فی القسمین الأوّلین، و إن علم بعدم قدرته علی الفعل غداً لم یصحّ منه التکلیف المذکور فعلًا.

و إن أخطأ فی التشخیص و تبیّن قدرته علیه غداً، فارتفع الإشکال حینئذٍ؛ لأنّ الشرط هو تشخیص المولی مقدوریّة الفعل للعبد، و هو مقارن للتکلیف.

و قد وقع هنا خلط فی کلام المحقّق العراقی قدس سره؛ لأنّه قال ما حاصله: إنّ الشرط عبارة عمّا له دَخْل فی تحقُّق المصلحة فی المأمور به، و حینئذٍ فللمأمور به فی هذه الصورة إضافة إلی القدرة مثلًا، و هذه الإضافة هی المحصّصة و المحصّلة للحصّة المؤثّرة(2).

توضیح الخلط: أنّه لم یفرّق بین الشرائط الشرعیّة و العقلیّة، فإنّ القدرة التی هی شرط للتکلیف لیست دخیلة فی تحقّق المصلحة فی المکلّف به فإنّه ذو مصلحة قدر العبد علی فعله أو لا مضافاً إلی ما یرد علیه من الإشکال المتقدّم ذکره.

و أمّا الجواب عن الإشکال بالنسبة إلی الوضع و المأمور به: أمّا بالدقّة العقلیّة فهو أنّ الزمان متصرِّم الوجود، و بعض أجزائه متقدّم علی الآخر؛ لأنّه یوجد و ینعدم شیئاً فشیئاً ذاتاً بدون أن یصدق و یطلق علیه عنوانا المتقدّم و المتأخّر؛ لما عرفت من أنّ عنوانی التقدّم و التأخّر من العناوین المتضایفة، التی لا بدّ فیها من وجود طرفی الإضافة فعلًا فی رتبة واحدة عقلًا، بل ذات العلّة و مصداقها متقدّمة علی المعلول، و ذات المعلول متأخّر، فذات الیوم متقدّم علی ذات الغد بدون أن یطلق علیهما عنوانا


1- کفایة الاصول: 118- 119.
2- بدائع الأفکار( تقریرات المحقق العراقی) 1: 323- 324.

ص: 20

المتقدّم و المتأخّر، فکما أنّ الزمان کذلک کذلک الزمانیّات، فهی- أیضاً- بعضها مقدّم علی الآخر لا ذاتاً و حقیقةً، بل تبعاً للزمان و بالعرض، بدون أن یطلق علیهما عنوانا التقدّم و التأخّر؛ لیرد علیه الإشکال الذی ذکرناه، و حینئذٍ نقول العقد الفضولی- مثلًا- و کذا صوم المستحاضة لا یخلو عن أحد أمرین: إمّا أن یقع بعدهما الإجازة و الغسل فی الواقع و نفس الأمر أو لا، فعلی الأوّل فالشرط موجود حال العقد و الصیام؛ لأنّهما متّصفان بوقوع الإجازة و الغسل بعدهما فی الواقع بخلافهما فیما إذا لم یقع الإجازة و الغسل بعدهما فإنّهما لا یتّصفان بهذه الصفة واقعاً، فلو دلّ علی صحّة العقد الفضولی مع الإجازة و لو بناءً علی الکشف، لا یلزم منه محذور عقلی، و کذلک صوم المستحاضة، و حینئذٍ فما قیل- من أنّ الشرط هو تعقُّب الإجازة(1)- فهو یرجع إلی ما ذکرناه، لکن لا بعنوان التعقُّب لیرد علیه الإشکال العقلی، بل التعقُّب الواقعی و مصداقه. هذا کلّه بحسب الدقّة العقلیّة.

و أمّا بحسب النظر العرفی العقلائی فنقول: لا إشکال فی أنّ الإجازة المتأخّرة، و کذا أغسال اللیلة الآتیة، شرطان للعقد السابق و صوم الیوم الماضی؛ إذ لا تأثیر و تأثّر فیه حقیقة، بل التأثیر و التأثّر عرفیان عقلائیان، فإنّه لا إشکال عرفی و عقلائی فی الشرط المذکور، و الشارع- أیضاً- بیّن الأحکام بلسان أهل العرف و بحسب نظرهم و فهمهم، و المصلحة الواقعیّة الاخرویّة غیر معتبرة فی المأمور به، خصوصاً فی الأحکام الوضعیّة، و یکفی فی صحّة بیع الفضولی وجود مصلحة نظامیّة ترجع إلی نظام العقلاء فی معاشهم و معاملاتهم.

و لیعلم أنّ ما ذکرنا فی دفع إشکال الشرط المتأخّر بالنسبة إلی التکلیف إنّما هو فی التکالیف الجزئیّة المتوجّهة إلی الأشخاص، و أمّا التکالیف العامّة الکلّیّة، کالأوامر الشرعیّة و کأوامر السلاطین بالنسبة إلی العموم المتعلّقة بالعناوین الکلّیّة، مثل «یا*


1- الفصول الغرویّة: 80 سطر 36.

ص: 21

أَیُّهَا النَّاسُ»* و «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا»*، فلا یستقیم ما ذکرنا فیها، و لکنّ الإشکال غیر وارد فیها أصلًا؛ لأنّ المناط فی تمشّی الإرادة و التکلیف فیها: هو قدرة بعض الأفراد علی فعل المکلّف به و إن لم یقدر علیه بعض آخر منهم، و لا یحتاج إلی ما ذکرناه من أنّ الشرط هو تشخیص المولی قدرة العبد علیه.

نعم: لو کان للواجدین للشرط عنوان خاصّ، و للفاقدین عنوان آخر، لزم توجیه الخطاب إلیهم بهذا العنوان الخاصّ، و لا یصحّ توجیهه إلی الجمیع حتّی الفاقدین، بخلاف ما إذا لم یکن لهم عنوان خاصّ، فإنّه لا ریب فی صحّة الإرادة و توجیه التکلیف بالنسبة إلی العموم، غایة الأمر أنّ الفاقد للشرط معذور عقلًا، و لا یجب علیه فعل المکلّف به.

و قال المحقّق النائینی قدس سره فی المقام ما حاصله: إنّه لا ریب فی أنّ المقدّمات العقلیّة خارجة عن محلّ الکلام؛ لامتناع تأخّرها عن المعلول و وجوده قبل وجود علّته التامّة بتمام أجزائها، و لا إشکال- أیضاً- فی خروج العناوین الانتزاعیّة عن محلّ النزاع- أیضاً- لأنّها إنّما تنتزع عمّا تقوم به، و لیس للطرف الآخر دخل فی انتزاعها عن منشأ انتزاعها أصلًا، مثل الأُبُوّة و البُنُوّة ینتزع کلّ منهما عن شخص باعتبار حیثیّة قائمة به، لا عنه و عن الآخر.

فتوهم: أنّ عنوان السبق إنّما یُنتزع من السابق باعتبار دَخْل الأمر اللاحق فیه، فإن کان شرطاً لوضع أو تکلیف فمرجعه إلی دخل الأمر اللاحق فیهما.

مدفوع بأنّ السبق إنّما ینتزع عن نفس السابق بالقیاس إلی ما یوجد بعده، و لا دخل للسابق- أیضاً- فی انتزاع اللحوق عن اللاحق، و بناء علیه لو قام دلیل علی ثبوت الملکیّة بالمعاملة الفضولیّة حینها علی فرض تعقُّبها، بالإجازة کشف ذلک عن انتزاعها من نفس عنوان التعقُّب الثابت للبیع المنتزع عنه بلحاظ تحقّق الإجازة فی ظرفها.

ص: 22

و التحقیق: خروج شرائط المأمور به عن حریم النزاع- أیضاً- بداهة أنّ شرطیّة شی ء للمأمور به لیست إلّا بمعنی أخذه قیداً للمأمور به، فکما یجوز تقییده بأمر سابق أو مقارن یجوز تقییده بأمر لاحق- أیضاً- کتقیید صحّة صوم المستحاضة بأغسال اللیلة اللاحقة؛ إذ کما أنّه لا إشکال فی إمکان تأخّر الأجزاء بعضها عن بعض، کذلک، لا ینبغی الإشکال فی جواز تأخّر الشرط عن المشروط به أیضاً.

ثمّ إنّه لا ریب فی أنّ العلّة الغائیّة و الملاکات المترتّبة علی متعلّقات الأحکام التی هی علل تشریعها، لا تکون بوجودها الخارجی مؤثّرة فی تشریعها و جعلها؛ بداهة أنّها متأخّرة فی الوجود الخارجی عن متعلّقات الأحکام، فضلًا عن نفسها، بل المؤثّر دائماً هو علم الجاعل و المشرِّع بترتُّب الملاک علی متعلّق حکمه، و من الواضح أنّ العلم بالترتُّب مقارن للجعل دائماً، و إنّما المتأخّر هو ذات المعلوم.

فظهر من ذلک: أنّ شرائط الجعل خارجة عن حریم النزاع، فالنزاع منحصر فی شرائط المجعول.

توضیحه: أنّ القضایا علی قسمین: حقیقیّة و خارجیّة:

أمّا الثانیة: فلا یتوقّف الجعل فیها إلّا علی دواعی الحکم المؤثّرة فیه بوجودها العلمی طابق الواقع أو لا، و هذا القسم خارج عن محلّ النزاع، فإن الحکم فیها یدور مدار علم الحاکم فقط.

و أمّا الاولی: فإن قلنا: إنّ المجعول الشرعی فی القضایا الحقیقیّة هی السببیّة دون المسبب عند وجود أسبابها کان تأخّر الشرط عن المشروط به من قبیل تأخّر المعلول عن علّته حقیقة و هو واضح الاستحالة، مثلًا لو قلنا بأنّ المجعول للشارع سببیّة الدلوک لوجوب الصلاة، لا نفس وجوبها عند الدلوک کان الدلوک من أجزاء علّة الوجوب حقیقةً و مرجع تأخّره عن الحکم إلی تقدّم المعلول عن علّته. و إن قلنا:

إنّ المجعول هو نفس المسبّب، و إنّما تنتزع السببیّة من جعل المسبّبات عند امور خاصّة

ص: 23

- کما هو الحقّ- فقد عرفت أنّه لا بدّ أن یکون نسبة الشرائط إلی الأحکام نسبة الموضوعات إلیها، و کما یمتنع وجود المعلول قبل وجود علّته؛ للزوم الخُلف و المناقضة، کذلک یمتنع وجود الحکم قبل وجود موضوعه المقدّر وجوده فی مقام الجعل.

و بالجملة: إذا کان وجود الأمر المتأخّر دخیلًا فی فعلیّة الحکم- سواء کان دخله علی وجه العلیّة أو الموضوعیّة- ففرضُ وجود الحکم قبل تحقّق ذلک یستلزم الخلف و المناقضة.

فظهر أنّ مقتضی القاعدة بعد امتناع الشرط المتأخّر هو الالتزام بالنقل فی باب البیع الفضولی دون الکشف(1). انتهی محصّل کلامه.

أقول: أمّا ما ذکره من عدم الإشکال فی خروج المقدّمات العقلیّة فهو مسلّم.

و أمّا خروج العناوین الانتزاعیّة فهو- أیضاً- کذلک بالأصالة؛ لأنّ النزاع بالأصالة إنّما هو فی موارد معدودة وقعت فی الشریعة و إن وقع النزاع فی الامور الانتزاعیّة- أیضاً- تبعاً.

و أما ما ذکره من خروج شرائط المأمور به فهو غیر صحیح؛ لأنّ النزاع لیس فی جواز الأمر و التکلیف مع تأخّر شرطه، بل النزاع إنّما هو فی أنّه لو دلّ دلیل علی صحّة صوم المستحاضة لو فعلت الأغسال فی اللیلة اللاحقة، فهل یلزم منه محذور عقلی أو لا؟ و لا فرق فیه بین المأمور به و الوضع و التکلیف.

و أمّا قوله: إنّ السبق إنّما ینتزع من نفس وجود السابق کالأُبوّة، ففیه ما لا یخفی؛ لعدم إمکان تحقّق التضایف إلّا من أمرین متضایفین، و عنوان السبق و الأُبُوّة من هذا القبیل.


1- أجود التّقریرات 1: 220- 226.

ص: 24

المبحث الأوّل فی الواجب المطلق و المشروط
اشارة

قد یقسَّم الواجب إلی المطلق و المشروط: اعلم أنّ وصفی الإطلاق و الاشتراط للواجب إضافیّان، فکلّ قید إذا لوحظ الواجب مقیّداً و مشروطاً به فهو المشروط، و إلّا فهو المطلق، فیمکن اتّصاف واجب بکلا الوصفین باعتبارین، و هذا ممّا لا کلام فیه، إنّما الکلام فی أنّ القیود المأخوذة فی الواجب المشروط هل هی للمادّة فقط، أو للهیئة فقط، أو أنّها مختلفة، فبعضها قید للمادّة، و بعضها الآخر للهیئة؟ فلا بدّ أوّلًا من ملاحظة مقام الثبوت، ثمّ مقام الإثبات، فنقول:

أمّا مقام الثبوت فإنّ القیود مختلفة؛ لأنّه قد یتعلّق غرض المولی بشی ء کشرب الماء لرفع العطش- مثلًا- فتتعلّق إرادته بأمر عبده بإتیان الماء، ثمّ یبعثه نحوه، فالهیئة و المادّة فیه کلاهما مطلقان، و المأمور به المحصِّل لغرضه هو إتیان الماء مطلقاً.

و قد یتعلّق غرضه بإحضار الماء فی ظرف مخصوص، لا لمجرّد الشرب لرفع العطش، بل ریاءً للناس الحاضرین عنده لا مطلقاً.

و قد یتعلّق غرضه بفعل، کإنقاذ ابنه الغریق مطلقاً، لکنّه مقیّد عقلًا بالقدرة علیه، و لیست المادّة، و هی الإنقاذ مقیّدة بالقدرة؛ لعدم دخلها فی مصلحته، و کذا علم العبد بها، و قد یمنع مانع عن البعث، کظالم یخاف منه، و قد یستحیل أخذ القید للمادّة.

هذا فی مقام الثبوت.

و أمّا مقام الإثبات: فقد یقال بامتناع تقیید الهیئة، و أنّه یجب إرجاع القیود إلی

ص: 25

المادة(1)؛ لوجوه:

الأوّل: أنّ مفاد الهیئة من المعانی الحرفیّة، و هی غیر قابلة للتقیید؛ لعدم استقلالها فی اللحاظ(2).

الثانی: أنّ الموضوع له فی الهیئات خاصّ و جزئی و لا یمکن تقیید الجزئی(3).

الثالث: أنّ التقیید مستلزم للنسخ لو کان للهیئة، فإنّه لو أمر بشی ء خاصّ جزئیّ، ثمّ قیّده بقید، فهو مستلزم للإعراض عمّا أطلق(4) أوّلًا، و مرجعه إلی الوجه الثانی.

و کلّ هذه الوجوه مدخولة:

أمّا الوجه الأوّل: فلأنّ تقیید المعنی الحرفی ممکن جدّاً، بل لا یحتاج إلی ما ذکرناه سابقاً من أنّ تقییدها إنّما هو بلحاظ معناها ثانیاً بالمعنی الاسمی.

توضیح ذلک: أنّ الألفاظ حاکیة عن المعانی النفس الأمریّة فی الإخبار، سواء کانت أسماءً أو حروفاً، فإنّ قولنا: «ضرب زید عمراً یوم الجمعة أمام الأمیر» یحکی ذلک عن المعنی الواقع فی نفس الأمر مع جمیع القیود و النسب، فالتقیید بهذه القیود إنّما هو فی نفس الأمر، و لیس من قِبَل المتکلّم اللافظ، فإنّه یتصوّر هذه المعانی کذلک، ثمّ یخبر عنها بهذه الألفاظ الدالّة علیها مع قیودها، و لو احتاج کلّ قید إلی لحاظ المقیّد یلزم لحاظ معنیً واحد مرّات فی القیود المتعدّدة، و الوجدان شاهد علی خلاف ذلک.

هذا فی الإخباریّات.

و أمّا الإنشائیّات فهی- أیضاً- کذلک أو قریب منها؛ لأنّ المُنشِئ یتصوّر المعنی


1- مطارح الأنظار: 45، 46، فوائد الاصول 1: 181.
2- فوائد الاصول 1: 181.
3- مطارح الأنظار: 46.
4- انظر فوائد الاصول: 181.

ص: 26

مع قیوده جمیعاً، ثمّ ینشئه بالألفاظ الدالّة علیها، و تعدّد القیود لا یحتاج إلی تعدّد اللحاظ، و لا فرق فی ذلک بین المعانی الاسمیّة و المعانی الحرفیّة.

و أمّا الوجه الثانی: فقد تفصّی عنه بعض: بأنّ الموضوع له فی الهیئات عامّ فلا إشکال، و علی فرض کونه خاصّاً فیها فتقیید المعنی الجزئی من قبیل «ضیّق فم الرَّکیّة»(1)؛ بأن یوجده مقیّداً، لا أنّه یطلق أوّلًا، ثمّ یقیّد؛ لیرد علیه الإشکال(2).

أقول: قد عرفت سابقاً أنّ الموضوع له فی الهیئات خاصّ، و حینئذٍ نقول:

لا ریب و لا إشکال فی إمکان تقیید المعنی الجزئی، و لذا لا یجوز حمل کلام المتکلّم علی شی ء حتّی یأتی بجمیع قیوده.

و أمّا الوجه الثالث: فهو- أیضاً- کذلک و إذا لم یجز حمل کلام المتکلّم علی شی ء حتّی یفرغ منه، و یأتی بجمیع قیوده فلا یلزم منه نسخ لما أطلقه أوّلًا.

و قال المحقّق العراقی قدس سره فی المقام ما حاصله: أنّ المناط فی تشخیص أنّ القید للهیئة أو المادّة و ملاک التمیّز بینهما لُبّاً، هو أنّ القید إن کان دخیلًا فی اتّصاف الموضوع بالمصلحة؛ بأن لم یکن فیه بدونه مصلحة، کالحجّ بالنسبة إلی الاستطاعة، و کذا وجوب الصلاة بالنسبة إلی الدلوک(3)؛ لعدم اتصافها بالمصلحة بدون الدلوک، فهو قید للهیئة، و إن کان دخیلًا فی فعلیّة المصلحة و استیفائها لا فی أصلها، و لا یمکن استیفاؤها بدون القید، کالطهارة و الستر و الاستقبال و نحوها للصلاة، فإنّها دخیلة فی فعلیّة المصلحة و استیفائها، لا فی أصلها، فهی قیود للمادة.

ثم قال: هذان القسمان موجودان فی الأوامر العرفیة أیضاً، ثمَّ فرَّع علی ذلک بطلان ما نسب إلی الشیخ قدس سره من إرجاع جمیع القیود إلی المادة لأنّها لُبّاً علی القسمین،


1- الرکیة: البئر و جمعها رکایا، مثل عطیة عطایا. المصباح المنیر: 282.
2- کفایة الاصول: 122- 123.
3- الدلوک: و یُراد به زوالها عن وسط السماء. النهایة 2: 130.

ص: 27

و لیس أمرها بأیدینا(1)؛ انتهی مُحصل کلامه.

و فیه ما لا یخفی فی کلا الشقّین من الشرطیة:

أمّا الأوّل: فإنّه لا ریب فی أنَّه قد یتعلّق الغرض بإیجاد شی ء مُطلقاً، کما لو فرض أنَّ زیداً فی غیر هذه البلدة، و قال: أکرمه، أو أمر بالصلاة فی المسجد مُطلقاً، و قد یتعلّق بإکرامه لا مُطلقاً، بل لو قدم البلد، و قد یکون قدومه مبغوضاً له، لکن تعلّق غرضه بإکرامه علی فرض القدوم، أو الصلاة فی المسجد لو کان لا مُطلقاً، ففی الصورة الاولی الإکرام مراد مُطلقاً یجب تحصیله و لو بتحصیل مقدّمات قدومه، و کذا فی مثال الصلاة، فمع عدم وجود المسجد یجب بناؤه، لیصلی فیه و یحصّل غرضه، فالإرادة فیهما مطلقة لا تقیید فیها، بخلاف الصورة الثانیة، فإنَّ الإرادة فیها مُقیّدة لا مطلقة، و یتصوّر هذان القسمان فیما ذکره أوّلًا فإنّ الإرادة قد تتعلّق بالحجّ مع الاستطاعة، فالإرادة فیه مطلقة یجب تحصیل الاستطاعة علی فرض عدمها، و قد تتعلّق بالحجّ علی تقدیر وجود الاستطاعة، فالإرادة فیه مقیّدة، فالمناط فی التقیید و الإطلاق هو تقیید الإرادة و إطلاقها، فیمکن دخالة القید فی اتّصاف الموضوع بالمصلحة، مع أنّ الواجب مطلق لا مشروط، فما ذکره- من أنّه متی کان القید دخیلًا فی اتّصاف الموضوع بالمصلحة، فالوجوب فیه مشروط- غیر سدید، بل لا بدّ من ملاحظة الإرادة فی الإطلاق و الاشتراط.

و أمّا الثانی من شقّی الشرطیة فیرد علیها:

أوّلًا: أنّ لازم ما ذکره تحقّق المصلحة فی ذات الصلاة بدون الستر و الساتر مثلًا؛ لأنّ المفروض أنّها دخیلة فی فعلیّة المصلحة و استیفائها، لا فی أصل تحقّقها و هو کما تری.

و ثانیاً: لو سلّمنا ذلک، لکن یرد علیه: أنّه إذا کانت الإرادة مطلقة متعلّقة


1- بدائع الأفکار( تقریرات العراقی) 1: 335.

ص: 28

بشی ء له قید دخیل فی فعلیّة المصلحة و استیفائها، فالواجب مطلق لا مشروط، و لا تصل النوبة إلی البحث فی أنّه قید للهیئة أو المادّة، فلو تعلّقت إرادته بشرب المسهل- مثلًا- مع المرض بنحو الإطلاق یجب أن یوجد المرض و یمرِّض نفسه مقدّمة لتحصیل المسهل الواجب، بخلاف ما لو تعلّقت إرادته به مقیّدة بالمرض؛ یعنی علی تقدیر وجوده فما ذکره- من أنّه علی فرض دخالة المصلحة فی فعلیّة المصلحة فهو قید للمادّة- أیضاً غیر سدید.

ثمّ إنّ الإیجاب و الوجوب واحد حقیقة، و الفرق بینهما بالاعتبار، فهو من حیث انتسابه إلی الفاعل إیجاب، و من حیث إنّه شی ء وجوب، نظیر الإیجاد و الوجود، فإذا أراد المولی إیجاد شی ء بعث عبده نحوه، فهنا مقدّمات: کالخطور، و التصدیق بالفائدة، و الشوق، ثمّ الإرادة.

و بعد المقدّمات هنا أمران: أحدهما الإرادة المضمرة أو المظهرة، و ثانیهما البعث.

و لا إشکال فی أنّ الحکم- سواء الوضعی منه أو التکلیفی، فإنّ التحقیق: أنّ الأحکام الوضعیّة مجعولة مستقلّاً، لا أنّها منتزعة عن الأحکام التکلیفیّة- عبارة عن البعث، أو المنتزع عن البعث عن إرادة، أو الإرادة المظهرة کما عن المحقق العراقی قدس سره(1) و ذلک لشهادة الوجدان و حکم العرف و العقلاء بذلک؛ أ فتری فی نفسک وجود الحکم بمجرّد الإرادة أو مع إظهارها، کما لو صرّح المولی بوجود الإرادة له- مثلًا- من دون صدور البعث منه، حاشا و کلّا، و إن أمکن أن یقال بوجوب تحصیل غرض المولی، لکنّه لا یختصّ بصورة وجود الإرادة، بل لو علم العبد بأنّ للمولی غرضاً، کإنقاذ ابنه الغریق، و هو غافل عنه، فإنّه لیس هنا إرادة من المولی و لا بعث، و مع ذلک یجب علی العبد تحصیل غرضه، کما مرّ مراراً.

إذا عرفت هذا فنقول: هل الوجوب فی الواجب المشروط فعلیّ قبل تحقّق


1- انظر مقالات الاصول 1: 106 سطر 5.

ص: 29

الشرط و القید، و حینئذٍ فالشرط للواجب و الامتثال، لا للوجوب، أو أنّه شرط للوجوب و قبل تحقّق الشرط لا وجوب؟ قولان.

و جعل المحقّق العراقی هذا مبتنیاً علی أنّ الحکم هل هو عبارة عن الإرادة المظهرة أو البعث؟ فعلی الأوّل فالوجوب فعلیّ، بخلافه علی الثانی، و اختار الأوّل، و فرّع علیه فعلیّة الوجوب قبل حصول القید(1).

و فیه أوّلًا: أنّ الحکم- کما عرفت- عبارة عن البعث أو المنتزع عنه، لا الإرادة المظهرة.

و ثانیاً: لو سلّمنا ذلک لکن تفریع فعلیّة الحکم علیه غیر صحیح؛ لأنّ الإرادة لیست مطلقة بل مقیّدة، فلو قال: الزبیب لو غلی ینجس فهل تجد من نفسک تحقّق النجاسة قبل الغلیان؟ کلّا، فإنّ الحکم بنجاسته تقدیریّ، و هو یُنافی فعلیّة الحکم قبل الغلیان.

فتلخّص: أنّه لا وجوب قبل حصول القید فی الواجب المشروط، و هو المشهور(2) بین الاصولیّین أیضاً.

لکن اورد علیه بوجوه:

الأوّل: ما تقدّم من أنّ الموضوع له فی الهیئات خاصّ غیر قابل للتقیید(3)، و قد عرفت دفعه.

الثانی: ما عن المحقق العراقی قدس سره من أنّه علی المشهور لا فائدة للبعث حینئذٍ؛ إذ لا إرادة و لا حکم قبل حصول القید فیلزم لَغویّة الأمر و البعث، بخلاف ما لو قلنا انّ الحکم عبارة عن الإرادة المُظهَرة، فإنّ الحکم- حینئذٍ- متحقِّق بعد البعث و لو قبل


1- بدائع الأفکار( تقریرات العراقی) 1: 338- 340، مقالات الاصول 1: 106 سطر 2.
2- الفصول الغرویّة: 79، کفایة الاصول: 121.
3- مطارح الأنظار: 46.

ص: 30

تحقُّق القید، فلا یلزم اللَّغویّة(1).

و فیه: أنّ الإرادة موجودة علی المشهور أیضاً، فإنّ الآمر یرید البعث فیأمر مقیّداً، و لا یلزم منه اللَّغویّة؛ لأنّ المولی لو کان فی مقام جعل القوانین الکلّیّة لعبیده، فقال: «من استطاع وجب علیه الحجّ» فهو مفید، و لا یلزم لغویته؛ فإنّه یشمل المستطیع فی الحال فیجب علیه الحجّ منجّزاً، و مَن سیصیر مستطیعاً فیجب علیه بعد تحقُّقها من دون احتیاج إلی خطاب آخر، بل لا یمکن جعل القوانین إلّا بهذا النحو، خصوصاً إذا لم یمکنه البعث بعد حصول الشرط، فلا یلزمه اللغویّة.

الثالث: ما هو المشهور- أیضاً- من أنّا نری فی بعض الموارد أنّه قد حکم الشارع بوجوب مقدّمة الواجب المشروط، کوجوب الغسل للمستحاضة قبل الفجر فی شهر رمضان، فمع عدم وجوب ذی المقدّمة کیف یمکن القول بوجوب مقدّمته؟! لأنّ وجوبها إنّما هو للملازمة بینه و بین وجوب ذیها، بخلاف ما لو قلنا بفعلیّة الوجوب قبل حصول القید، کما لا یخفی.

و فیه: أنّ وجوب المقدّمة لیس لأجل الملازمة المذکورة أو الملازمة بین الإرادة و البعث إلی ذی المقدّمة و بین ما یراه مقدّمة، بل الملاک لوجوب المقدّمة هو توقّف وجود ذی المقدّمة علی وجود المقدّمة، ففیما نحن فیه لمّا علم العبد بأنّه سیجب علیه عمل بعد حصول شرطه، و یتوقّف وجوده علی وجود المقدّمة؛ بحیث لو لم یأتِ بها قبل حصول القید لما أمکنه فعل ذی المقدّمة بعد تحقّق القید، حکم العقل بوجوب إتیانه بالمقدّمة المذکورة.

و أمّا الملازمة التی ذکرها فهی صحیحة من طرف الملزوم؛ أی کلّما وجب ذو المقدّمة وجبت المقدّمة، و أمّا فی جانب اللازم فلا؛ لاحتمال أن یکون اللازم أعمّ فلا یصحّ أن یقال: کلّما وجبت المقدّمة وجب ذو المقدّمة؛ لجواز وجوب المقدّمة بدون


1- انظر بدائع الأفکار( تقریرات العراقی) 1: 346- 347.

ص: 31

ذی المقدّمة کما فی المفروض، فإنّ المقدّمة واجبة بحکم العقل و بملاک التوقّف و إن لم یجب ذو المقدّمة فعلًا قبل وجود الشرط؛ لأنّه مع عدم الإتیان بالمقدّمة فیه لا یتمکّن من الإتیان بذی المقدّمة، فیؤدّی ترکها إلی ترکه اختیاراً لأنّ الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار.

و بالجملة: هذا الإشکال ناشٍ عن توهّم أنّ وجوب المقدّمة و إرادتها یترشّحان من وجوب ذی المقدّمة و إرادته، و یتولّد من إرادته إرادة وجوب المقدّمة(1)، فیقال: کیف یمکن الترشّح المذکور مع عدم وجوب ذی المقدّمة فعلًا قبل حصول الشرط؟

و لهذا اتّخذ کلٌّ مهرباً عن الإشکال:

فذهب بعضهم إلی أنّ وجوب الأغسال للمستحاضة قبل الفجر لیس من باب المقدّمیّة، بل وجوبها تهیُّئیّ.

و ذهب المحقّق العراقی قدس سره إلی أنّ وجوب ذی المقدّمة قبل حصول الشرط فعلیّ؛ لأنّه عبارة عن الإرادة المظهرة، و هی موجودة متحقّقة(2).

و ذهب المیرزا النائینی قدس سره إلی أنّ إیجاب الاغتسال هنا من باب تتمیم الجعل الأوّل، و هو جعل وجوب الصوم(3).

لکن عرفت أنّ ملاک وجوب المقدّمة غیر ملاک وجوب ذیها، فإنّه لا معنی لترشُّح إرادة عن إرادة، و لا تولُّد وجوب عن وجوب، و لا أنّ إیجاب ذی المقدّمة إیجاب للمقدّمة، فإنّ الوجدان و الذوق السلیم ینکران جمیع ذلک بل الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة غیر الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة، بل ملاک وجوب المقدّمة هو ما ذکرناه.


1- کفایة الاصول: 117، فوائد الاصول 1: 385 و 387، بدائع الأفکار: 385 و 399.
2- بدائع الأفکار( تقریرات العراقی) 1: 366- 367.
3- انظر أجود التقریرات 1: 115.

ص: 32

و أمّا ما أفاده المحقّق العراقی قدس سره من أنّ الوجوب عبارة عن الإرادة المظهرة، فینشأ منها فی ذی المقدّمة إرادة المقدّمة، فلم نتعقّله؛ لأنّه لا ریب فی أنّ إرادة المقدّمة علی فرض تسلیم ما ذکره تابعة لإرادة ذی المقدّمة فی الإطلاق و التقیید، و الإرادة المتعلّقة بذیها مقیّدة لا مطلقة، فالإرادة الناشئة منها المتعلّقة بالمقدّمة لا بدّ و أن تکون کذلک، و إلّا یلزم أوسعیّة دائرة المعلول من دائرة علّته، و هو مستحیل.

المبحث الثانی فی الواجب المعلَّق و المنجَّز
اشارة

قال صاحب الفصول ما ملخّصه: انّ الواجب ینقسم باعتبارٍ إلی منجَّز و معلَّق؛ لأنّ الواجب إن کان معلّقاً علی أمر غیر مقدور للمکلّف فهو الثانی، مثل صلاة الظهر بالنسبة إلی الدُّلوک، و إلّا فهو المنجَّز، کتحصیل المعرفة.

و الفرق بین الواجب المعلَّق و المشروط: هو أنّ القید شرط للوجوب فی الثانی، فلا وجوب قبل حصوله، و شرط للواجب فی الأوّل، فالوجوب فیه فعلیّ، و الواجب استقبالی(1). انتهی.

و اورد علی الواجب المعلّق بوجوه:
أحدها:

أنّه یستلزم تخلّف المراد عن الإرادة فی الإرادة الفاعلیّة و التشریعیّة(2). و ذکر بعض المحقّقین فی توضیحه ما حاصله: أنّ الإرادة عبارة عن الشوق المؤکّد، فإنّ الشخص إذا اشتاق إلی شی ء یشتدّ اشتیاقه شیئاً فشیئاً إلی أن یبلغ حدّاً یصیر


1- الفصول الغرویّة: 79- 80.
2- نسبهُ المیرزا أبو الحسن المشکینی فی حاشیته علی الکفایة إلی المحقّق النّهاوندی 1: 161.

ص: 33

منشأً و علّةً لتحریک العضلات فی الإرادة الفاعلیّة، أو إلی البعث فی التشریعیّة، فإذا بلغ الشوق إلی هذا الحدّ و مع ذلک لم تتحرَّک العضلات، لزم تخلُّف المعلول و المراد- و هو تحریک العضلات أو البعث- عن علّته التامّة أو الإرادة التی هی الشوق المؤکّد، و هو مستحیل، فالواجب المعلّق الذی هو مستلزم لذلک مستحیل.

فإن قلت: یمکن أن تکون الإرادة مشروطة بدخول الوقت فی تأثیرها.

قلت: إن ارید أنّ دخول الوقت شرط لتکمیل الشوق إلی أن یبلغ الحدّ المذکور، و قبل حصول القید لم یبلغ إلی ذلک الحدّ الذی هو الإرادة، فلا شوق مؤکّد قبل حصول القید، فهو صحیح، لکنّه خارج عن الفرض.

و إن ارید أنّ دخول الوقت شرط لتأثیره مع بلوغه إلی ذلک الحدّ، و مع ذلک لا تأثیر له قبل دخول الوقت، فهو محال؛ لاستلزامه تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

فإن قلت: یمکن أن تتوقّف الإرادة علی مقدّمات مقدورة للمکلّف، و علیه فلا یمکن البعث نحو فعل فی وقته مع عدم حصول مقدّماته الوجودیّة؛ ضرورة عدم إمکان الانبعاث نحو ذی المقدّمة إلّا بعد وجود مقدّماته، و الفرض أنّه لا ینبعث نحو مقدّماته إلّا عن البعث إلی ذیها.

قلت: حیث إنّ تحصیل المقدّمات ممکن، فالبعث و الانبعاث إلی ذیها متّصفان بصفة الإمکان، بخلاف البعث إلی شی ء قبل حضور وقته، فإنّ الفعل المتقیّد بالزمان المتأخّر فی الزمان المتقدّم محال من حیث لزوم الخلف و الانقلاب، فهو ممتنع وقوعاً، بخلاف فعلٍ له مقدّمات غیر حاصلة، فإنّ البعث نحوه ممکن الوقوع.

لا یقال: کیف حال المرکّب من امور تدریجیّة الوجود، کالصلاة و الإمساک فی مجموع النهار، فإنّ الانبعاث نحو الجزء المتأخّر فی زمان الانبعاث فی زمان الجزء المتقدّم غیر معقول و مع ذلک فالکلّ مبعوث إلیه ببعث واحد فی أوّل الوقت؟

لأنّا نقول: لیس فی الفرض إرادة واحدة بل اشتیاقات یکمل کلّ واحد منها

ص: 34

بالحرکة الجوهریّة تدریجاً فتصیر إرادات متدرّجة الوجود متعلّقة بکلّ واحد من الأجزاء عند بلوغ أوانها(1). انتهی.

و فیه مواقع للنظر:

أمّا أوّلًا: فانّ ما ذکره قدس سره من أنّ الإرادة عبارة عن الشوق المؤکّد فهو غیر صحیح، فإنّ الاشتیاق انفعال و الإرادة فعل من أفعال النفس و لها مقام الباعثیة، فعلی ما ذکره یلزم أن یکون الفعل انفعالًا.

و ثانیاً: ما ذکره من أنّ الاشتیاق إلی ذی المقدّمة سبب للاشتیاق إلی المقدّمة أیضاً غیر صحیح؛ لعدم تعلُّق الشوق بالمقدّمات أبداً؛ لأجل عدم وجود ما یشتاق بسببه إلیها، بخلاف ذی المقدّمة.

و ما ذکره ناشٍ عن توهّم أنّ الإرادة فی جمیع مواردها مسبوقة بالشوق مع أنّ الإنسان کثیراً ما یرید فعلًا بدون الاشتیاق إلیه، بل مع الکراهة أو الإلجاء و الاضطرار، مثل شرب الدواء المرّ لدفع المرض.

و ثالثاً: ما ذکره من أنّ الاشتیاق یکمل شیئاً فشیئاً بالحرکة الجوهریّة حتّی یبلغ حدّ النصاب- أی الإرادة- أیضاً غیر مستقیم، فإنّ الإرادة المحرّکة للعضلات غیر الإرادة الناشئة عن الاشتیاق، فإنّ الاولی لا تنفکّ عن المراد؛ أی تحریک العضلات، و هو لیس مشتاقاً إلیه، و أمّا الثانیة فلیست متعلّقة بتحریک العضلات، و هی علّة لوجود الاولی، فبمجرد الاشتیاق إلی ذی المقدّمة و إرادته لا تتحرک العضلات نحو الفعل، فما ذکره من تدرُّج الاشتیاق حتی یبلغ حدّاً یُحرِّک العضلات خلطٌ بین الإرادتین: احداهما المحرّکة للعضلات، و هی مبدأ للتحریک، و ثانیتهما المتعلّقة بذی المقدّمة.

و أمّا ما قرع سمعک: من أنّ الإرادة علّة تامّة أو جزء أخیر لها لتحریک


1- نهایة الدّرایة 1: 184- 187.

ص: 35

العضلات، و أنّه یستحیل انفکاک المعلول عن علّته التامّة، فلم یقم علیه دلیل و لا برهان، فإنّ غایة ما یمکن أن یقال فی تقریبه هو أنّ القوی النفسانیّة حیث إنّها مراتب للنفس، فلا تعصی النفس، بل تطیعها؛ لعدم معقولیّة تعصّی الشی ء عن نفسه، فلا یمکن تخلّف المراد عن الإرادة.

لکن فیه: أنّه إذا کان الإنسان مفلوجاً لا یمکنه أن یتحرّک نحو الفعل، و النفس غافلة عن ذلک، فترید تحریکه، لکن لا یمکنه التحرُّک لعلّته، و هو تخلّف المراد عن الإرادة بالوجدان.

و أیضاً لو فرض أربعة: أحدهم: یشتاق إلی الحجّ، لکنّه یعلم بعدم قدرته علیه؛ لعلمه بعدم وجود ما یتوقّف علیه، فهو لا یریده مع اشتیاقه إلیه.

و ثانیهم: یشتاق إلیه و یریده لعلمه بحصول ما یتوقّف علیه.

و ثالثهم: لا اشتیاق له إلیه طبعاً، لکن یریده خوفاً من العذاب المتوعّد علیه فی ترکه.

و رابعهم: لا اشتیاق له إلیه أبداً، و لا إرادة أیضاً.

ففرقٌ بین هذه الأربعة، فإنّ الثانی یرید الحجّ بعد حصول ما یتوقّف علیه، و لم یتحقّق بعدُ، فیلزم تخلُّف المراد عن الإرادة.

و علی فرض الإغماض عن جمیع ذلک، و تسلیم استحالة تخلّف المراد عن الإرادة فی الإرادة التکوینیّة، لکن قیاس الإرادة التشریعیّة علیها فی غیر محلّه.

فقوله: إنّ الداعی إلی البعث هو الانبعاث، و هو موصوف بصفة عدم الإمکان.

فیه: أنّ غایة ما ذکر هو لزوم لَغویّة البعث فیما نحن فیه، و هو مسلّم، لکن الداعی إلی البعث هو الانبعاث فی وقته و زمانه، فالبعث المطلق یلزمه وجوب الانبعاث المطلق، و البعث إلی الفعل فی زمان متأخّر عنه یلزمه وجوب الانبعاث أیضاً کذلک.

ص: 36

و أمّا القول بأنّ البعث إنّما هو لإیجاد الداعی للمکلّف علی الاتیان بالمکلّف به ففیه:

أمّا أوّلًا: فلأنّ البعث لیس لإیجاد الداعی، بل هو لتمهید موضوع العقاب و الثواب.

و ثانیاً: لو سلّمنا ذلک، لکن إیجاد الداعی تبع للبعث، فإن کان البعث مطلقاً و فی زمان الحال فهو لإیجاد الداعی کذلک، و إن کان البعث إلی الفعل فی زمان متأخّر فهو لإیجاد الداعی کذلک.

ثانیها:
اشارة

قال المحقّق النائینی قدس سره فی المقام ما حاصله: إنّه لا إشکال فی الواجب المعلّق من حیث تعلُّق الإرادة بالأمر المتأخّر لإمکانه بالوجدان، بل الإشکال فیه من جهة اخری، و هی أنّ الخطابات الشرعیّة: إمّا صادرة من الشارع بنحو القضایا الحقیقیّة، أو بنحو القضایا الخارجیّة، فعلی الأوّل فاستحالة الواجب المعلّق واضحة؛ لأنّه لا بدّ أن ترجع جمیع القیود إلی المادّة و الموضوع فإذا فُرض تعلّق الأمر بالصلاة معلّقاً علی الدلوک فلا بدّ أن یُفرض الموضوع موجوداً ثمّ یبعث إلیه، و حینئذٍ فالقید إمّا حاصل و متحقّق، و المفروض أنّ الأمر متوجّه إلی الموضوع بجمیع قیوده، فیلزم تحصیل الحاصل، و هو القید، و هو محال، و إمّا غیر حاصل و غیر متحقّق، بل سیحصل بعد ذلک، فیلزم الأمر بغیر المقدور؛ لأنّ تحصیل القید- و هو الدلوک- غیر مقدور للعبد، و هو- أیضاً- محال. و کذلک لو کانت الخطابات الشرعیّة بنحو القضایا الخارجیّة.(1) انتهی.

و فیه ما لا یخفی:

أمّا أوّلًا: فلأنّک قد عرفت أنّ القیود بحسب اللُّبّ مختلفة: فبعضها قید للمادّة، و بعضها راجع إلی الهیئة، و لیست باختیارنا حتّی نرجعها جمیعها إلی المادّة، و کلّ من


1- فوائد الاصول 1: 186- 188.

ص: 37

الواجب المطلق و المشروط معلّقاً أو منجّزاً، لا ینقلب عمّا هو علیه من الإطلاق و الاشتراط بحصول الشرط و تحقّقه و عدمه، و لا یصیر المشروط مطلقاً بحصول الشرط، و لا المعلّق منجّزاً بحصول القید المعلّق علیه.

و أمّا ثانیاً فقوله قدس سره: یلزم تحصیل الحاصل، فیه: أنّه لو فُرض تعلّق الأمر بالصلاة مع الطهارة، معناه أنَّ الصلاة مع الطهارة مطلوبة، فإذا فرض أنّه مُتطهّر لا یجب علیه التطهّر حتّی یُقال إنَّه تحصیل للحاصل.

و ثالثاً قوله: یلزم الأمر بغیر المقدور، فیه: أنّه ناشٍ عن توهّم أنَّ الأمر بالمقیّد أمر بالقید أیضاً، و لیس کذلک؛ لأنَّ الأمر متعلّق بالمقیّد بعد حصول القید لا بالقید.

فتلخص: أنَّ الواجب المُعلّق ممکن الوقوع، لکن بعد ما عرفت إثبات الواجب المشروط و جواز الشرط المُتأخّر و عدم ورود الإشکالات علیه، و بعد ما عرفت أنّ وجوب المقدّمات إنّما هو بملاک التوقّف و حکم العقل، لا من باب المُلازمة، لا یترتّب علی الواجب المعلّق ثمرة و فائدة؛ فإنَّ الداعی إلی الالتزام بالواجب المعلّق إنّما هو لأجل أنَّهم لما رأوا وجوب بعض المقدّمات فی الشریعة قبل وجوب ذیها، کغسل الاستحاضة للصوم قبل الفجر فی شهر رمضان، و أشکل الأمر علیهم؛ بأنَّه کیف یُمکن وجوب المقدّمة قبل وجوب ذیها؟ التزموا بالواجب المعلّق لدفع الإشکال.

لکن لمّا عرفت أنَّ وجوب المقدّمة المذکورة و نحوها بملاک التوقّف- أی توقف ما سیجب بعد حصول القید- فلا حاجة إلی الالتزام بالواجب المعلّق.

خاتمة:

إذا دار الأمر بین تقیید الهیئة أو المادة، و شُک فی ذلک بعد الفراغ عن إثبات إمکان إرجاعه إلی کل واحد منهما، فهل هناک دلیل شرعی یُعین أحدهما أو لا؟

نُسب إلی الشیخ قدس سره أنّه یتعیّن إرجاع القیود إلی المادة لوجهین:

ص: 38

أحدهما: أنَّ إطلاق الهیئة شمولی و إطلاق المادة بدلیّ، فإنَّ إطلاق وجوب الإکرام شامل لجمیع التقادیر التی یُمکن أن تکون تقدیراً له فی حال واحد، و إطلاق المادّة بدلی غیر شامل لفردین فی حال واحد، فلو دار الأمر بین تقیید أحدهما، فتقیید الثانی أولی(1).

أقول: لا بُدَّ من ملاحظة کلمات القوم فی باب المطلق و المقیّد أوّلًا، ثمَّ التعرّض لصحّة ما نُسب إلی الشیخ قدس سره و عدمها:

أمّا الأوّل: فإنّهم قالوا فی الباب المذکور: إنَّ الإطلاق علی نحوین: شمولی کإطلاق العالم فی أکرم العالم، و بدلی مثل أکرم عالماً، و ذکروا أنَّه لا فرق بین الإطلاق الشمولی و العام الشمولی نحو «کل عالم» فی أنَّ مفاد کلّ واحد منهما هو السعة و الشمول لکل فردٍ من أفراده، إلّا أنَّ دلالة الأوّل إنّما هی بمعونة مقدّمات الحکمة، و الثانی بالوضع(2).

أقول: لا ریب فی أنَّ لفظ «العالم» أو «البیع» فی «أکرم العالم» و «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ»(3) إنّما هو موضوع للطبیعة لا بشرط کالإنسان، و هی متّحدة مع الأفراد فی الوجود الخارجی، و أنَّ کل واحدٍ من الأفراد تمام الطبیعة، و حینئذٍ فالموضوع فی «أکرم العالم» و «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ» لیس إلّا الطبیعة لا بشرط، و خصوصیات الأفراد خارجة عن مدلول اللفظ، فلا یدل لفظ «البیع» أو «العالم» إلّا علی الطبیعة لا بشرط فقط، و هی تمام الموضوع للحکم؛ بحیث کلّما تحقّقت بتحقّق فردٍ من الأفراد یثبت له الحکم، بخلاف قولنا: «أکرم کلّ عالم»، فإنَّه یدل بالدلالة اللفظیة الوضعیّة علی الاستغراق؛ ففرق واضح بین الإطلاق الشمولی و العموم الشمولی.


1- مطارح الأنظار: 49.
2- فوائد الاصول 1: 511.
3- البقرة: 275.

ص: 39

نعم: لو قال: «أکرم العالم» فهو- من حیث إنَّه فعل اختیاری صادر عن عاقل مُختار- ظاهر فی العموم، لکنّه ظهور الفعل من حیث إنَّه فعل، لا من حیث إنّه لفظ، بخلاف قولنا: «کل عالم» فإنّه یدل بالدلالة اللّفظیة علی الاستغراق و الشمول.

و ثانیاً: لو أغمضنا عن ذلک، لکن لا یمکن أن یکون الإطلاق فی الهیئة شمولیاً و فی المادة بدلیاً؛ لاستحالته.

توضیح ذلک: أنَّه لا ریب فی عدم إمکان تعلّق إرادتین بطبیعة واحدة مع قطع النظر عن الخصوصیات، و حینئذٍ فالمادة لا تدل إلّا علی مُجرَّد الطبیعة، و أما دلالتها علی الإطلاق البدلی فلیست دلالة لفظیة، بل لأجل أنَّه فعل اختیاری صادر عن مُتکلّمٍ عاقلٍ مُختارٍ، ظاهر فی الإطلاق البدلی؛ لأنَّه لو أراد فرداً خاصّاً من البیع فی «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ» مثلًا، لزم علیه البیان؛ لاحتیاجه إلی مئونةٍ زائدةٍ، فمع فرض کون المُتکلِّم فی مقام البیان و عدم نصبه قرینة علی الخلاف اقتضی ذلک الحملَ علی العموم البدلی.

و ما ذکروه: من أنَّ إحدی مقدّمات الحکمة عدم وجود القدر المُتیقن فی البین.

غیر صحیح، بل مقدّمات الحکمة لیست إلّا ما ذکر من کون المُتکلِّم فی مقام البیان، و عدم نصب القرینة علی الخلاف و جعل الموضوع نفس الطبیعة.

و بالجملة: المادة لا تدلّ بالدلالة اللّفظیة إلّا علی مُجرَّد الطبیعة لا بشرط، فلو کانت الهیئة موضوعة للإطلاق الشمولی، فمعناها و مفادها الأبعاث المُتعددة بنحو الشمول، و هی مسبوقة بإرادات مُتعددة متعلّقة بالطبیعة المجرَّدة؛ و هو محال، لما عرفت من عدم إمکان تعلّق إرادات مُتعددة بطبیعة واحدةٍ و شی ءٍ واحد.

ثمَّ لو سلمنا أنَّ إطلاق الهیئة شمولی و إطلاق المادة بدلی، لکن لا ترجیح لأحدهما علی الآخر فی التقیید فی صورة دوران الأمر بین تقیید أحدهما، فإنَّ لکل واحدٍ من الإطلاق الشمولی مثل «العالم» و الإطلاق البدلی مثل «عالماً» دلالة لفظیة،

ص: 40

و هی دلالتها علی الطبیعة المجردة، و دلالة خارجیة، و هی دلالة مقدّمات الحکمة علی الإطلاق الشمولی فی الأول و البدلی فی الثانی، و لا دلیل علی أنَّ تقیید الثانی أولی عند الدوران.

و یظهر من المحقّق النائینی قدس سره اختیار ما ذکره الشیخ قدس سره من لزوم إرجاع القیود إلی المادة لکن لوجهین آخرین:

أحدهما: أنَّ تقدیم الإطلاق البدلی یقتضی رفع الید عن الإطلاق الشمولی فی بعض مدلوله، و هی حرمة إکرام الفاسق فی قوله «لا تکرم فاسقاً»، بخلاف تقدیم الإطلاق الشمولی، فإنَّه لا یقتضی رفع الید عن مدلول الإطلاق البدلی أصلًا، مثل «أکرم عالماً»؛ لأنَّ المفروض أنَّه الواحد علی البدل؛ و هو محفوظ لا محالة، غایة الأمر أنّ دائرته کانت وسیعة، فتضیّقت بالتقیید.

و ثانیهما: أنّ الإطلاق البدلی یحتاج- زائداً علی کون المولی فی مقام البیان و عدم نصب قرینة علی الخلاف- إلی إحراز تساوی الأفراد فی الوفاء بالغرض حتّی یحکم العقل بالتخییر بینها، بخلاف الإطلاق الشمولیّ، فإنّه لا یحتاج إلی ذلک، بل یکفی تعلّق النهی بالطبیعة الغیر المقیّدة، فیسری الحکم إلی الأفراد قهراً، فمع وجود الإطلاق لا یُحرز العقل تساوی الأفراد فی الوفاء بالغرض، فالإطلاق الشمولیّ حاکم علی الإطلاق البدلیّ من حیث دلیلیّته و حجّیّته.

و بالجملة: یتوقّف حجّیّة الإطلاق البدلیّ علی عدم المانع فی بعض الأطراف عن التخییر العقلی، و الإطلاق الشمولیّ صالح للمانعیّة(1). انتهی.

أقول: ما ذکره من المثال للإطلاق الشمولیّ بقوله: «لا تکرم فاسقاً» غیر صحیح؛ لأنّه عامّ من جهة وقوع النکرة فی سیاق النفی، و هو یفید العموم، و لا یصلح مثالًا للمطلق، و لو أغمضنا النظر عن ذلک؛ لکونه مناقشةً فی المثال، یرد علیه: أنّ


1- أجود التقریرات: 161- 162.

ص: 41

التضییق المذکور فی کلامه- فی صورة تقیید الإطلاق البدلیّ- عبارة عن التقیید الاصطلاحی الذی ذکروه، و لیس المراد من التقیید إلّا ذلک التضییق، فإنّه بدون التصرّف فیه غیر ممکن، بل غیر معقول.

و أمّا ما أفاده: من احتیاج الإطلاق البدلی إلی بیان زائد، ففیه: أنّه قد عرفت أنّه لا فرق بین الإطلاق الشمولی و البدلی فی أنّ لکلّ واحدٍ منهما دلالة فی نفسه، و دلالة من الخارج: أمّا الاولی فهی دلالة کلّ واحد منهما علی الطبیعة، و الثانیة دلالة مقدّمات الحکمة علی أنّ الإطلاق شمولیّ أو بدلیّ، فیحتاج کلّ واحد منهما إلی مقدّمات الحکمة، و إلّا فمجرّد تعلّق حکم الحلّیّة بالبیع- مثلًا- لا یُفید ذلک.

فتلخّص: أنّ ما ذکره الشیخ: من أنّ الإطلاق فی الهیئة شمولیّ؛ لأنّ مفادها الوجوب فی جمیع التقادیر، و فی المادّة بدلی؛ لعدم الاحتیاج إلی أزید من فرد واحد منها، فلا بدّ من تقیید المادّة فی صورة الدوران(1)؛ و لعلّه للأظهریّة، أو لما ذکره النائینی فی باب التعارض من احتیاج الإطلاق البدلی إلی مئونة زائدة(2).

مدفوع: أمّا أوّلًا فلما عرفت من أنّ تقسیم الإطلاق إلی البدلی و الشمولی غیر صحیح؛ لاحتیاج جمیع المطلقات إلی مقدّمات الحکمة من غیر فرق بینها، و دلالتها- أیضاً- من باب ظهور الفعل، لا ظهور اللفظ، فإنّ الشمولیّة و البدلیّة لیستا مفادین للإطلاق، بل مستفادان من القرائن الخارجیّة.

ثمّ علی فرض تسلیم أنّ الإطلاق علی قسمین شمولیّ و بدلیّ، لکن ما نسب إلیه من أنّ الإطلاق فی الهیئة شمولیّ و فی المادّة بدلیّ- أیضاً- ممنوع عقلًا؛ لأنّه لو فرض أنّ المولی قال: «أکرم زیداً»، ثمّ قیّده منفصلًا، و فرض الشکّ فی أنّه قید للهیئة حتّی لا یجب تحصیله، أو للمادّة فیجب تحصیله، لم یمکن إرجاعه إلی المادّة لأجل أنّ


1- تقدّم تخریجُهُ.
2- انظر فوائد الاصول 4: 729، 730.

ص: 42

الإطلاق فی الهیئة شمولیّ و فی المادّة بدلیّ؛ فإنّ معنی شمولیته أنّه علی کلّ تقدیر یفرض فیه وجوب، و أنّ لکلّ واحد من الوجوبات إرادة، و لا یعقل تعلّق وجوبات و إرادات متعدّدة بإکرام واحد علی البدل، فالقول بأنّ الإطلاق فی الهیئة شمولیّ و فی المادّة بدلیّ غیر معقول.

و إن أراد من الإطلاق الشمولیّ فی الهیئة أنّ الوجوب واحد لکن لا قید له، فهو صحیح معقول، لکن المادّة- أیضاً- کذلک، و لا مرجّح لتقدیم الإطلاق فی الهیئة.

الثانی من الوجهین اللذین ذکرهما الشیخ قدس سره لتقدیم تقیید المادّة: أنّ تقیید الهیئة یوجب بطلان محلّ الإطلاق فی المادّة، و یرتفع به مورده و موضوعه، بخلاف العکس، و إذا دار الأمر بین تقییدین کذلک کان التقیید الذی لا یوجب بطلان الآخر أولی:

أمّا الصغری: فلأجل أنّه لا یبقی مع تقیید الهیئة محلّ حاجة و بیان لإطلاق المادّة؛ لأنّها لا محالة لا تنفکّ عن وجود قید الهیئة، بخلاف تقیید المادّة، فإنّ محلّ الحاجة إلی إطلاق الهیئة علی حاله، فیمکن الحکم بالوجوب علی تقدیر وجود القید و عدمه.

و أمّا الکبری: فلأنّ التقیید و إن لم یستلزم المجازیّة إلّا أنّه خلاف الأصل، و لا فرق فی الحقیقة بین تقیید الإطلاق و بین أن یعمل عملًا یشترک مع التقیید فی الأثر و بطلان العمل(1). انتهی.

أقول: ما ذکره من أنّ تقیید الهیئة یُوجب إبطال محلّ الإطلاق فی المادّة دون العکس، فهو غیر متصوّر؛ لعدم ارتباط تقیید الهیئة بالمادّة، فإنّه إذا قیل: «إذا جاءک زید فأکرمه»، و فُرض أنّ المجی ء قید للهیئة- أی وجوب الإکرام- فلا یستلزم ذلک التقیید الاصطلاحی للمادّة.


1- مطارح الأنظار: 49 سطر 26.

ص: 43

و إن أراد من استلزام تقیید الهیئة لتقیید المادّة هو التضییق الذاتی للمادّة لبّاً، لا التقیید الاصطلاحی، فعکسه- أیضاً- کذلک، فإنّ تقیید کلّ منهما مستلزم لتقیید الآخر بهذا المعنی، و هو لیس بتقیید اصطلاحی.

المبحث الثالث فی الواجب النفسی و الغیری
اشارة

قد یقسّم الواجب إلی النفسی و الغیری، و عرّف النفسی: بما امر به لأجل نفسه، و الغیری: بما امر به لأجل غیره(1).

و أورد علیه: بأنّه یلزم من ذلک أن تکون جمیع الواجبات غیریة؛ لأنّ الأمر بکلّ طبیعة إنّما هو لأجل غایة و فائدة تترتّب علیه هی المقصودة بالذات، و لولاها لما کان داعٍ إلی الأمر بها، فالصلاة محبوبة للمولی و مأمور بها لأجل المصلحة الکامنة فیها، و إلّا لما أمر بها، فیکون وجوبها للغیر(2).

و أجاب عنه فی «الکفایة»: بأنّه و إن کان کذلک، لکنّ ذو الأثر لمّا کان مُعنوناً بعنوان حسن- یستقلّ العقل بمدح فاعله، بل و یذم تارکه- صار متعلَّقاً للأمر و الإیجاب بما هو کذلک، و لا ینافیه کونه مقدّمة لأمر مطلوب واقعاً، بخلاف الواجب الغیریّ لتمحض وجوبه فی أنّه مقدّمة لواجب نفسیّ(3).

أقول: لا بدّ من ملاحظة الإرادة الفاعلیّة و الإرادة الآمریّة و الوجوب النفسی و الغیری، فنقول: لا ریب فی أنّ أحداً لو أراد إیجاد شی ء فلا بدّ و أن یکون هو إمّا


1- هدایة المسترشدین: 193 سطر 7، مطارح الأنظار: 66 سطر 20.
2- انظر مطارح الأنظار: 66 سطر 21.
3- کفایة الاصول: 136.

ص: 44

محبوباً بالذات له، أو یرجع إلی ما هو المحبوب بالذات، و کذلک الإرادة الآمریّة لا بدّ أن یکون أمره لغایة هی المحبوبة بالذات أو یرجع إلی ما هو المحبوب بالذات، علی أی تقدیر لا دخل للوجوب النفسی و الغیری فی الإرادة مطلقاً؛ لما عرفت من أنّ الوجوب عبارة عن البعث أو المنتزع عنه لا الإرادة، و حینئذٍ نقول: کلّ بعث لیس فوقه بعث فهو بعث نفسی و إیجاب نفسی و إن تعدّدت الأغراض المختلفة منه، و کلّ بعث فوقه بعث آخر فهو بعث و إیجاب غیری، فلو فرض أنّ للبنّاء عملة متعدّدین، فبعث أحدهم لتحصیل التراب، و الثانی لجعله طیناً، و الثالث لإعطاء الطین له، فالبعث و الإیجاب بالنسبة لکل واحد منهم نفسی؛ لأنّ لکلّ واحد منهم بعثاً لیس فوقه بعث.

و لو فُرض أنّ له عاملًا واحداً، فبعثه أوّلًا نحو تحصیل التراب، و ثانیاً نحو جعْلِهِ طیناً، و ثالثاً نحو إعطاء الطین له، فالأمر بتحصیل التراب و جعله طیناً غیریّ؛ لأنّ فوق کلّ منهما أمر و أمّا أمره بإعطاء الطین بیده فهو أمر نفسی؛ لأنّه أمر لیس فوقه أمر آخر، فمناط الفرق بین الواجب النفسی و الغیری هو ذلک، و لا یرد علیه الإشکال المتقدّم.

و من هنا یظهر فساد ما أفاده المیرزا النائینی قدس سره من أنّ الإرادة المترشِّحة من إرادة اخری هی الوجوب الغیری، و الإرادة المُترشَّح منها هی الوجوب النفسی(1).

و کذا ما یظهر من غیره: من أنّ البعث اللازم لبعث آخر هو الوجوب الغیری، و البعث الملزوم هو الوجوب النفسی(2).

و ما ذکرنا من مناط الفرق لا إشکال فیه.

و إنّما الإشکال فیما لو شکّ فی واجب أنّه نفسی أو غیری، فهل هنا قاعدة تقتضی تعیین أحدهما أو لا؟


1- فوائد الاصول 1: 220.
2- بدائع الأفکار( تقریرات العراقی) 1: 372.

ص: 45

فذهب فی «الکفایة» إلی أنّه لو کان المولی فی مقام البیان، و أطلق الأمر، فمقتضی الإطلاق هو کونه نفسیّاً؛ لأنّ الغیریّة تحتاج إلی بیان و مئونة زائدة علی الإطلاق، فمع عدم ذکر القید و الحکم بالإطلاق یحکم بأنّه واجب نفسی(1). انتهی محصّله.

أقول: ما ذکره مستلزم لاتّحاد القسم و المقسم؛ فإنّ الوجوب علی قسمین:

نفسی و غیری، و بناء علی ما ذکره من أنّ المحتاج إلی القید هو الغیری لا النفسی، فالنفسی الذی هو قسم من الوجوب عین الوجوب الذی هو المقسم، و هو مستحیل، فلا بدّ أن یکون للنفسی- أیضاً- قیدٌ به یمتاز عن المقسم کالغیری، سواء کان القید وجودیّاً؛ بأن یقال: النفسی ما امر به لأجل نفسه، و الغیری ما امر به لأجل غیره أم کان فی النفسی عدمیّاً، و فی الغیری وجودیّاً؛ بأن یقال: الغیری ما امر به لأجل غیره، و النفسی ما امر به لا لأجل غیره، أو بالعکس، بأن یقال: النفسی ما امر به لأجل نفسه، و الغیری ما امر به لا لأجل نفسه، و علی أیّ تقدیر لا بدّ لکلّ واحد منهما من قید به صار قسماً للمقسم، و علیه فما ذکره من الحکم بالنفسیّة لأجل الإطلاق غیر تامّ بل إرادة النفسی- أیضاً- تحتاج إلی قید و مئونة زائدة.

و أمّا القول: بأنّ الوجوب موضوع للجامع بینهما، فقد عرفت أنّ الموضوع له فی الهیئات خاصّ لا عامّ، و کیف یمکن وضع الهیئة للجامع بین الوجوب الذی یترتّب علی ترکه العقاب و بین الوجوب الذی لیس کذلک؟! و حینئذٍ فالبعث واحد و الغایات مختلفة، و بهذا الاعتبار یمکن أن یقال بعدم صحّة تقسیمه إلی القسمین هنا.

و أمّا توهّم انصراف الوجوب إلی النفسی، فلا یخفی ما فیه؛ لأنّ منشأ الانصراف المعتبر هو کثرة الاستعمال، و هی غیر معلومة، فالأولی فی المقام أن یقال- کما عرفت سابقاً- إنّ أمر المولی حجّة منه علی العبد تحتاج إلی الجواب، فلو أمره


1- کفایة الاصول: 136.

ص: 46

بإحضار الماء، و فرض أنّه تطهّر بماء آخر، فشکّ فی أنّ هذا البعث نفسی حتّی یجب علیه إحضاره، أو غیری للتطهیر، فلا یجب لحصول الغرض منه بتطهّره بماء آخر، و تَرَکه معتذراً باحتمال أنّه غیری، لم یُقبل عذره عند العقلاء، بل یقبّحونه، و صحّ للمولی الاحتجاج علیه به و عقابه، فلا بدّ أن یتعامل معه معاملة الوجوب النفسی فی صورة الشکّ، لکن لا یثبت به الوجوب النفسی بخصوصیّته.

و ذکر بعض الأعاظم (و هو المحقّق النائینی قدس سره و مال إلیه المحقّق العراقی قدس سره) فی المقام ما حاصله: حیث إنّ وجوب المقدّمة مترشح من وجوب ذی المقدّمة، فوجوب المقدّمة مشروط بوجوب ذیها، و وجود ذیها مشروط و متقیّد بوجوب المقدّمة، فوجوب الوضوء مشروط بوجوب الصلاة، و وجود الصلاة متقیّد بوجود الوضوء، فإذا شکّ فی واجب أنّه نفسی أو غیری فالشکّ ناشٍ عن جهة شرطیّة الوجوب و تقیید الوجود المذکورین، و إذا فرض کون دلیل کلٍّ من المقدّمة وذی المقدّمة مطلقاً، و اخذ بالإطلاق، یُرفع به کلا التقییدین فی کلّ واحد منهما، و یحکم بأنّه نفسی لا غیری، بل لو فرض کون أحد الدلیلین مطلقاً فقط یتمسّک بإطلاقه لنفی کلا التقییدین: أحدهما بالمطابقة، و الآخر بالالتزام؛ بناء علی أنّ مثبتات الاصول اللفظیّة حجّة.(1) انتهی محصّله.

و فیه أوّلًا: أنّه لیس کلُّ ما شُکّ فی واجب أنّه نفسی أو غیری هو من قبیل الشرط و المشروط، بل إنّما هو فی بعض أقسام المفروض، و بعضها الآخر لیس کذلک، فإنّه لو أمر المولی بالسیر إلی الحجّ، و شکّ المکلّف فی أنّه واجب نفسی أو غیری مقدّمة للحجّ، فعلی فرض غیریّته لیس وجود الحجّ متقیّداً بوجوده، و کذلک لو أمر المولی بنصب السُّلَّم، و شکّ فی أنّه واجب نفسی أو غیری مقدّمة للکون علی السطح فوجود الکون علی السطح، لیس مقیّداً بوجود نصب السُّلَّم، نعم: باب


1- فوائد الاصول 1: 220- 222، بدائع الأفکار( تقریرات المحقّق العراقی) 1: 372.

ص: 47

الوضوء و الصلاة کذلک، فلیس کلّ ما کان وجوبه مشروطاً بشی ء یقیّد وجوده بوجود الشرط.

و ثانیاً: لو فرض أنّ وجوب المقدّمة ترشّحی، لکن لا یعقل اشتراط وجود ذی المقدّمة بوجود المقدّمة.

بیان ذلک: أنّ معنی الترشُّح: هو أنّ وجوب المقدّمة معلول لوجوب ذی المقدّمة، فالمعلول إمّا حال عدمه متقیّد بالعلّة، فهو غیر معقول؛ لعدم قابلیّة المعدوم للاشتراط و التقیید، أو حال وجوده متقیّد بها، فهو- أیضاً- کذلک، فإنّ لمعلول کلّ علّة و إن کان تقیید و ضیق ذاتیّ بالعلّة الخاصّة کالحرارة المعلولة للنار، لکن لا یمکن تقیید وجوده بوجود علّته.

و توهّم: أنّ مراده قدس سره هو ذلک الضیق الذاتی، مدفوع: بأنّه خلاف ما صرّح هو قدس سره به؛ لأنّه صرّح: بأنّه یُرفع التقیید بالأخذ بالإطلاق، و التقیید الذاتی لا یقبل الرفع.

و بالجملة: من المعلوم أنّ النار- مثلًا- علّة للحرارة الحاصلة منها، لکن لا یمکن تقیید الحرارة بوجود النار، فإنّ المعلول هو طبیعة الحرارة، لا الحرارة المتقیّدة بوجود النار، فوجوب الوضوء معلول لوجوب الصلاة بناءً علی الترشّح، و لیس مشروطاً به، و إلّا یصیر وجوب الوضوء من قبیل الواجب المشروط؛ لأنّ معنی المشروط هو تعلّق إرادة مستقلّة به متقیّدة بالشرط.

و ثالثاً: ما ذکره من ترشّح وجوب المقدّمة من وجوب ذی المقدّمة یُنافی ما ذکره سابقاً: من أنّ الأمرَ المتعلّق بشی ء مقیّداً بشی ء آخر- کالصلاة فی المسجد- أمرٌ بالقید، و فرّع علیه: بأنّه لا بدّ من أن یکون القید مقدوراً للمکلّف، و معه فلا معنی للترشُّح، و بینهما تنافٍ ظاهر.

فتلخّص: أنّ المولی و إن کان فی مقام البیان فلا یصحّ الأخذ بالإطلاق و الحکم

ص: 48

بأنّه نفسی.

و رابعاً: ما ذکره- من أنّ مُثبتات الاصول اللفظیّة حجّة- لم یقم علیه دلیل و لا برهان؛ لأنّ مع الإطلاق لا یعلم إلّا أنّ الموضوع لذاک الحکم هو ذلک لیس إلّا، و إلّا لبیّنه، و أمّا إثبات لوازمه العقلیّة أو العادیّة فلم یثبت بناء العقلاء علیه؛ إذ المسلَّم هو صحّة احتجاج المولی علی عبده بالإطلاق، و أمّا غیره فلا.

مقتضی الأصل العملیّ:
اشارة

ثمّ لو فُرض عدمُ کونه فی مقام البیان، و عدمُ ما هو المرجع من الاصول اللفظیّة فی المقام، فهل هنا أصل عملی یعیَّن به أحدهما أو لا؟

فنقول: ذکر المحقّق النائینی قدس سره للشکّ صوراً، و أنّ مقتضی الاصول مختلف باختلافها:

إحداها: ما لو شکّ فی واجب أنّه نفسی أو غیری کالوضوء، و علم بتعلّق الوجوب النفسی بشی ء یحتمل تقییده بالمشکوک- أی الوضوء- کالصلاة و هو- أیضاً- علی قسمین:

أحدهما: ما علم فیه تماثل الوجوبین من جهة الإطلاق و الاشتراط بشی ء، فالشکّ فیه متمحّض فی خصوص تقیید ما علم أنّه نفسی بالواجب الآخر، فأصالة البراءة جاریة عن التقیید، و یثبت بذلک نتیجة الإطلاق، کما لو علم اشتراط کلّ من وجوبی الطهارة و الصلاة بدخول الوقت، أو علم إطلاق کلّ منهما بالنسبة إلیه، و شکّ فی تقیید الصلاة بالوضوء.

الثانی: ما علم فیه اشتراط خصوص ما علم أنّه نفسی بالآخر فالشّک فیه من جهة تقیید ما علم أنّه نفسی بالآخر، فالبراءة فیه- أیضاً- جاریة، کما أنّ الشکّ فیه من جهة الشکّ فی الوجوب النفسی قبل حصول ما هو شرط للوجوب الآخر- أیضاً

ص: 49

مجریً للبراءة.

و هاتان صورتان.

و الصورة الثالثة: ما لا یُعلم فیه إلّا وجوب ما یدور أمره بین الوجوب النفسی و الغیری؛ لاحتمال وجود واجب آخر فی الواقع فعلیّ یتوقّف حصوله علی ما علم وجوبه إجمالًا، فالحقّ فیها هو لزوم الإتیان بما عُلم وجوبه؛ للعلم باستحقاق العقاب علی ترکه؛ إمّا لنفسه أو لکونه مقدّمة لواجب فعلیّ؛ فإنّ ترک ما یُحتمل وجوبه النفسی المستند إلی ترک ما هو معلوم الوجوب، ممّا یوجب العقاب، و أمّا ترکه من غیر ناحیته فالمکلّف فی سعة منه، و یشمله أدلّة البراءة(1).

أقول: أمّا الصورة الاولی ففیها:

أولًا: المفروض أنّه لا إطلاق فیها فی مقام البیان حتی یتمسّک به، فبناء علی ما ذکره من جریان البراءة بالنسبة إلی تقیید الصلاة بالوضوء- مثلًا- لزم صحّة الصلاة بدون الوضوء، و أمّا الوضوء فإنّه و إن علم وجوبه، لکن المفروض أنّه مردّد بین الذی یترتّب علی مخالفته العقاب- أی النفسی- و بین الذی لیس کذلک- أی الغیری- فی الواقع، و مجرّد العلم بالوجوب المردّد بینهما لا یکفی فی حکم العقل بموافقته، بل لا بدّ فیه من العلم تفصیلًا بأنّه نفسی، و لا معنی للقدر الجامع بین ما یترتّب علی ترکه العقاب و بین ما لیس کذلک، و بالجملة یشکّ المکلّف فیه فی أنّ الوضوء واجب یترتّب علی ترکه العقاب أولا و إن علم بالمردّد بینهما، و العقل لا یحکم فیه بوجوب موافقته، و یحکم بقبح العقاب علیه؛ لأنّه بلا بیان و برهان نظیر ما علم بأمر مردّد بین الوجوب و الاستحباب أو بین المولوی و الإرشادی.

و بعبارة اخری: الحکم بالاشتغال إنّما هو فیها لو علم بالوجوب المبغوض ترکه، لا المردّد بین المبغوض ترکه و بین غیر المبغوض ترکه، کما فیما نحن فیه. نعم: لو


1- انظر فوائد الاصول 1: 222- 224.

ص: 50

قیل بأنّ الواجب مطلقاً نفسیّاً أو غیریّاً مبغوض ترکه تمّ ما ذکره، لکنه لیس کذلک، فعلی فرض جریان البراءة بالنسبة إلی تقیّد الصلاة بالوضوء فی المثال لا مانع من جریانها بالنسبة إلی الوضوء أیضاً.

و ثانیاً: ما ذکره هنا فی الصورة الاولی مُنافٍ لما ذکره فی مسألة الأقلّ و الأکثر ردّاً علی صاحب الکفایة فی إشکاله علی الشیخ قدس سره.

توضیحه: أنّ الشیخ قدس سره ذهب فی مسألة الأقلّ و الأکثر الارتباطیّین- إلی أنّ العلم الإجمالی فیه بوجوب الأقلّ- إمّا نفسیّاً أو غیریّاً فی ضمن الأکثر- ینحلّ إلی العلم التفصیلی بوجوب الأقلّ و الشکّ البدوی فی وجوب الأکثر، فیجب الأقلّ علی کلّ تقدیر، و تجری البراءة بالنسبة إلی الأکثر(1).

و أورد علیه فی «الکفایة»: بأنّ الانحلال المذکور مستلزم لعدم الانحلال، و ما یلزم من وجوده عدمه محال، و ذلک لأنّ العلم الإجمالی فیه إنّما هو لتردّد الأقلّ بین الوجوب النفسی و الغیری، و إجراء البراءة بالنسبة إلی الأکثر یوجب زوال العلم بوجوب الأقلّ- أیضاً- لاحتمال الوجوب الغیری فیه، و قد حکم بجریان البراءة بالنسبة إلی الأکثر المستلزم لزوال العلم بوجوب الأقلّ، و لیس ذلک انحلالًا(2).

و أورد علیه المحقّق النائینی قدس سره: بأنّه إنّما یصحّ ذلک الاشکال فی أجزاء المرکّب، کما إذا شکّ فی القنوت أنّه واجب فی الصلاة أو لا؛ لعدم اتّصاف الأجزاء بالوجوب الغیری، لکنّه لا یتمّ فیما لو علم بوجوب الوضوء ... إلی آخر ما ذکره فی الصورة الاولی، فصرّح هناک بعدم جریان البراءة فی الشکّ فی تقیّد الصلاة بالوضوء، فهو منافٍ لما ذکره هنا من جریان البراءة بالنسبة إلی الأقلّ(3).


1- فرائد الاصول: 274.
2- کفایة الاصول: 413.
3- انظر فوائد الاصول 4: 156.

ص: 51

و أمّا الصورة الثانیة

فما ذکره فیها لا غبار علیه.

و أمّا الصورة الثالثة ففیها:

أوّلًا: أنّه علی القول بالترشُّح فی وجوب المقدّمة، و فرض جریان البراءة فی الشکّ فی تقیید الصلاة بالوضوء فی الصورة الاولی، کیف یتصوّر العلم بوجوب الوضوء حینئذٍ مع تردّده بین الوجوب النفسی و الغیری؟ فمع جریان البراءة فی تقیید الصلاة به المحتمل وجوبها یزول العلم بوجوب الوضوء.

و ثانیاً: علی فرض الإغماض عن ذلک یرد علیه: أنَّ قضیة العلم الإجمالی- إمّا بوجوب الوضوء نفساً، و إمّا بوجوب الصلاة مشروطة به- هو الاشتغال و الحکم بوجوب الصلاة مع الوضوء؛ لوجوب الإتیان بأطراف العلم الإجمالی. فالتحقیق هو ذلک فی الصورتین الاولی و الثالثة بمقتضی العلم الإجمالی.

خاتمة:
اشارة

هل یترتّب الثواب و العقاب علی الواجب الغیری فی صورتی الموافقة و المخالفة أو لا؟

فنقول: هل الإثابة و المُعاقبة فی یوم الجزاء بمحاکمة العبد، کما فی هذه الدنیا، و هو ظاهر الآیات القرآنیة؟

أو أنَّ الثواب و العقاب من لوازم الأعمال بتجسّمهما و لا ینفکّان عنها؟

ثمَّ إنَّ المثوبة و العقوبة الأخرویتین مجعولتان لکلِّ عملٍ قدر مخصوص منهما؟ نظیر جعل الحدود و الدّیات فی هذه النشأة لبعض الأعمال، کما ذهب إلیه المحقّق النهاوندی(1).


1- تشریح الاصول: 180 سطر 2.

ص: 52

أو أنّهما یترتبان علی الأعمال و الأفعال من دون جعل قدر مخصوص لکلّ عمل منها أولًا؟.

ثم إنّ بعضهم ذهب إلی أنّ النفس تکتسب بالأفعال الحسنة استعداداً لائقاً و قابلًا لإفاضة صورٍ بهیّة علیها و بالأفعال السیّئة استعداداً لورود صور ظلمانیة علیها(1).

و حینئذٍ نقول: إنّ القول بأنّ المثوبة إنّما هی بالتفضّل لا بنحو الاستحقاق(2) بناء علی هذه الوجوه غیر سدید امّا بناء علی أنّها من لوازم الأعمال(3) فواضح انّها بنحو الاستحقاق، لکنّه استحقاق تکوینی، و کذلک بناء علی ما ذکره المحقّق النهاوندی؛ لأن معنی الجعل هو الاستحقاق و معنی التفضّل إمکان عدم ترتّب المثوبة علی الأفعال الحسنة، مع أنّه بناء علی هذا القول یستحیل تخلّفه تعالی عمّا جعله، و هذا ممّا لا إشکال فیه.

و إنّما الإشکال فی أنّه إذا أمر المولی بشی ء من دون أن یجعل له عوضاً، فهل یستحقّ العبد بالإتیان بالمأمور به مثوبة أو لا، بل المثوبة من باب التفضّل؟.

و الظاهر أنّ محلّ النزاع فی المقام هو هذا الفرض، لکن الحقّ أنّها لیست بنحو الاستحقاق بحیث یقبح ترکها علیه، و ذلک لأنّ جمیع القوی الکامنة فی الإنسان، و کذا جمیع ما یحتاج إلیه فی معاشه و معاده، من مواهب اللَّه تعالی بدون استحقاق العبد لها، فلو أمره بصرف بعض مواهبه تعالی فی مورد خاصّ، فلا یستحقّ لذلک عوضاً، مثلًا:

لو أعطاه خمسین دیناراً و أمره بإنفاق واحد منها، فهو لا یُنفق إلّا من مال المولی، فلا یستحق لذلک مثوبةً، و کذا لو امر بغضّ البصر عمّا حرّم اللَّه النظر إلیه.

هذا کلّه مع أنّ الآثار المترتّبة علی الإطاعات و ترک المعاصی ترجع إلی العبد


1- الأسفار 9: 293- 296.
2- الأسفار 9: 174 السطر الأخیر.
3- أجود التقریرات 1: 172.

ص: 53

نفسه لا إلیه تعالی؛ لاستغنائه عن جمیع المخلوقات و إطاعاتهم حتّی الأنبیاء و الأولیاء و لو امتثل العبد جمیع أوامر اللَّه و انزجر عن جمیع محارم اللَّه لم یأتِ إلّا أقلّ قلیل من حقّ اللَّه الذی یجب علیه، و حینئذٍ فبطلان القول بالاستحقاق أوضح.

و إذا عرفت أنّ الإثابة فی الواجبات النفسیّة لیست بنحو الاستحقاق، تعرف أنّه لا وقع للبحث فی استحقاقها فی الواجبات الغیریّة و عدمه.

و التحقیق أن یقال: إنّ المراد بالاستحقاق هنا هو الاستحقاق العُرفی، نظیر استحقاق الأجیر للُاجرة علی عمله؛ بمعنی أنّه یثبُت للأجیر حقّ علی المستأجر؛ بحیث یُعدّ منعه ظلماً علیه یقبِّحه العقلاء، و حینئذٍ فإن قلنا: إنّ المثوبة و العقوبة لازمتان للأعمال بتجسُّمهما فی النشأة الآخرة باکتساب العبد بالأعمال الحسنة استعداداً قابلًا و لائقاً لإفاضة الصور البهیّة، و بالأعمال السیّئة استعداداً قابلًا لورود صور ظلمانیّة فلا معنی للقول باستحقاق المثوبة فی امتثال الواجبات الغیریّة بالمعنی المذکور.

و إن قلنا: إنّ الثواب و العقاب للأعمال مجعولان، فاستحقاق العقوبة و المثوبة تابع للجعل، فإن جُعل لامتثال الواجب الغیری مثوبة، فبامتثاله یجب علی اللَّه تعالی إعطاؤها له؛ لاستحالة تخلّفه تعالی عمّا وعده، فإنّه تعالی أمر العباد بالوفاء بعهودهم فکیف لا یفی هو تعالی بعهده؟! هذا الکلام کلّه فی الاستحقاق و عدمه.

و هل یترتّبان علی امتثال الواجبات الغیریّة و مخالفتها لا علی وجه الاستحقاق أو لا؟

نقول: لا معنی لترتّبهما علی الواجبات الغیریّة؛ لأنّهما متفرّعان علی الإطاعة و ترکها- أی المخالفة- و امتثال الواجبات الغیریّة لا یُعدّ طاعة و ترکها مخالفة، فإنّ وجوب المقدّمة- مثلًا- غیریٌّ و بحکم العقل، فلو أمر المولی بمقدّمة فلا یخلو العبد من أنّه إمّا مرید لامتثال أمر ذی المقدّمة أو لا:

فعلی الأوّل یحکم العقل بلزوم الإتیان بمقدّمته للتوقّف، فیحرّک عضلاته نحو

ص: 54

إیجادها، فلا داعویّة للأمر بالمقدّمة له إلی إیجادها، فهو یرید المقدّمات بحکم عقله بإرادة مستقلّة، فلا داعویّة للأمر الغیری له نحو الفعل.

و علی الثانی فهو أوضح؛ أی لا داعویّة للأمر بالمقدّمة نحوها، و حینئذٍ فلا یتحقّق بامتثال أمر المقدّمة و عدمه موضوعُ المثوبة و العقوبة؛ أی الإطاعة و المخالفة.

فتلخّص: أنّه لا یستحقّ الثواب و العقاب علی امتثال الواجبات الغیریّة و مخالفتها، و لا یترتّبان علیها بدون الاستحقاق- أیضاً- من حیث إنّها مقدّمات و واجبات غیریّة، لکن هل یستحقّهما العبد لحیثیّة اخری؟ و لیس المراد مجرّد ترتُّب الثواب و العقاب، بل استحقاقهما؛ بمعنی ثبوت حقٍّ للعبد علی المولی بامتثال الواجب الغیری عقلًا، فلا بدّ من ملاحظة الأوامر الغیریّة من الموالی العُرفیّة بالنسبة إلی عبیدهم، ثمّ ملاحظة الأوامر الشرعیّة.

فنقول: لو أمر المولی عبده بإنقاذ ابنه الغریق و أمره بمقدّماته- أیضاً- فامتثل العبد أمر المقدّمات، لکنّه لم یتمکّن من إنقاذه، فهل تری من نفسک ثبوت حقّ للعبد علی مولاه بامتثال أمر المقدّمات فقط؛ من حیث تحمّله المشاقّ فی تحصیلها، أو من حیث إنّ الشروع بإیجاد المقدّمات شروع فی امتثال ذی المقدّمة عرفاً، أو لأجل حیثیّة اخری؛ بحیث لو امتنع المولی من أداء حقّه قبّحه العقلاء، و یعدّ ظالماً له بامتناع أداء حقّه؟! حاشا و کلّا؛ لعدم إتیانه بما أمره به المولی من إنقاذ ابنه، و ما أتی به لم یکن مأموراً به بالأصالة.

و لهذا حکم الفقهاء بثبوت اجرة المِثْل، فیما لو أمر أحدٌ شخصاً بحمل شی ءٍ إلی مکان معیّن، بدون أن یجعل له اجرة، فحمله إلی ذلک المکان من دون أن یقصد التبرّع، و بعدم ثبوت شی ءٍ له لو لم یحمله إلی ذلک المکان، و إن تحمَّلَ مشاقاً بتحصیل مقدّمات الحمل.

و کذا لو کان له عبدان أمرهما بإنقاذ ابنه الغریق فأنقذه أحدهما بمقدّمات

ص: 55

کثیرة، و الآخر بدونها، فلا أظنّ أن تزعم أنّ ثواب الأوّل أکثر من الثانی مع اشتراکهما فی أصل الإنقاذ، و إن تحمَّلَ الأوّل مشاقاً لتحصیل مقدّمات کثیرة.

فما یظهر من المحقّق العراقی قدس سره من أنّ الإتیان بالمقدّمات یُعد شروعاً فی امتثال ذی المقدّمة عرفاً، فتقسّط المثوبة علی المقدّمة أیضاً(1).

فمدفوع: أمّا أوّلًا: فلأنّه کیف تقسّط و تنبسط علی المقدّمات مثوبة ذی المقدّمة مع عدم الشروع فی امتثاله.

و ثانیاً: سلّمنا ذلک، لکن محلّ الکلام استحقاق المثوبة علی المقدّمة زائدة علی المثوبة المترتّبة علی ذی المقدّمة، لا انبساط مثوبة ذی المقدّمة علیها، بل لا یستحقّ المثوبة بمجرّد الشروع فی ذی المقدّمة- أیضاً- إلّا مع الإکمال، مع أنّه یصدق أنّه شرع فی امتثال ذی المقدّمة.

و کذا ما فی «الکفایة» من أنّه یستحقّ العبد مثوبة زائدة علی المثوبة المترتّبة علی ذی المقدّمة بموافقة أمر المقدّمة؛ لأنّه- حینئذٍ- یصیر أفضل الأعمال و أشقّها(2).

نعم: لا ریب فی أنّ العبد الممتثل للأوامر الغیریّة ممدوح عند العقلاء لحسن سریرته، و ذلک لأنّه لو فرض ثلاثة اعتقدوا بتوجّه أمر الشارع إلیهم بشی ء کالحجّ، فهمّ اثنان منهم و صارا بصدد الامتثال، دون الثالث، و أخذ الأوّلان فی مقدّماته و نفسِ الحجّ، دون الثالث و فرض عدم وجوب الحجّ واقعاً، إلّا علی أحد الأوّلین، فلا ریب فی أنّه فرق بینهم عند العقلاء، فإنّ الممتثل لأمر الحجّ یستحقّ الثواب؛ لامتثاله أمر المولی، بخلاف الآخر- الذی لم یجب علیه الحجّ- لعدم الأمر بالنسبة إلیه و إن أتی به جهلًا، لکن یمدحه العقلاء؛ لانقیاده و حسن سریرته، و أنّه لیس بصدد المخالفة للمولی، و یذمّون الثالث من جهة سوء سریرته و جرأته؛ حیث إنّه مع اعتقاده بتوجّه الأمر إلیه


1- بدائع الأفکار( تقریرات العراقی) 1: 375- 376.
2- کفایة الاصول: 138- 139.

ص: 56

لم یکن بصدد الامتثال و الإطاعة، و إن فرض عدم وجوب الحجّ علیه- أیضاً- واقعاً، و کان اعتقاده جهلًا مرکّباً.

فتلخّص: أنّه لا یستحقّ العبد فی امتثال الأوامر الغیریّة مثوبة أصلًا؛ لا من حیث إنّها مقدّمات، و لا من حیثیّة اخری، لکن یمکن أن یُزاد فی ثواب ذی المقدّمة لأجل امتثال أمر المقدّمة بتحمّل المشاقّ لتحصیلها، فیمکن أن یستحقّ الآفاقی للحجّ من المثوبة ما لا یستحقّه غیره، کالمجاورین لمکّة المکرّمة؛ لأجل تحمّل الآفاقی من المشاقّ من طیّ المسافات الطویلة، دون الثانی.

إذا عرفت ذلک نقول: قد اورد فی الطهارات الثلاث بوجوه:

الأوّل: أنّک قد عرفت عدم استحقاق العبد للثواب و العقاب فی امتثال الواجبات الغیریّة و مخالفتها، مع ترتُّب الثواب علی الطهارات الثلاث بمقتضی الأخبار، مع أنّ الطهارات الثلاث مقدّمات للصلاة و نحوها، و عرفت أنّ امتثالها لا یعدُّ طاعة و ترکها مخالفة، مع أنّ الثواب و العقاب فرع تحقّق عنوانی الموافقة و المخالفة أو الطاعة و العصیان(1).

و فیه: أنّه لا مانع من أن یجعل الشارع لامتثال بعضها مثوبة، و الطهارات المذکورة کذلک.

و ما أجاب به المحقّق العراقی: من انبساط المثوبة لذی المقدّمة علی المقدّمة أیضاً، و أنّ الآخذ فی المقدّمة یعدّ آخذاً فی ذی المقدّمة(2)، فقد عرفت ما فیه سابقاً.

الثانی: أنّه لا ریب فی أنّ الطهارات المذکورة- بما هی عبادة- مقدّمة، فلا بدّ فیها من قصد العبادیّة و إتیانها بداعی امتثال الأمر، لا بأیّ وجه اتّفق؛ لأنّها کذلک لیست مقدّمة، فالعبادیّة مأخوذة فی مقدّمیّتها و فی متعلّق أمرها فی الرتبة


1- مطارح الأنظار: 70.
2- انظر بدائع الأفکار( تقریرات المحقّق العراقی) 1: 375- 376.

ص: 57

السابقة، و حینئذٍ فمحقّق عبادیّتها إن کان هو الأمر الغیری لزم الدور؛ لأنّ تعلّق الأمر الغیری بها یتوقّف علی عبادیّتها؛ لما عرفت من أنّها- بما هی عبادة- مقدّمة و متعلّقة للأمر الغیری، و المفروض أنّ عبادیّتها متوقّفة علیه. و إن کان هو الأمر النفسی الندبی فهو فاسد:

أمّا أوّلًا: فلأنّه کثیراً ما یفعلها المکلّف بداعی التوصّل بها إلی الصلاة و بقصد أمرها الغیری، مع الغفلة عن أنّها مطلوبةٌ نفساً و عبادةٌ متعلّقة للأمر النفسی، و علی فرض عدم الغفلة- أیضاً- لا یمکنه قصد امتثال الأمر النفسی بها، إلّا بنحو الداعی علی الداعی، فإنّ الداعی إلی فعل الصلاة الصحیحة یدعوه إلی إتیانها بداعی أمر نفسها.

و أمّا ثانیاً: فلأنَّه لا یُعقل اجتماع الاستحباب النفسی مع الوجوب الغیری؛ لأنّ مرجعه إلی تعلُّق الطلب الأکید و الغیر الأکید معاً بفعل واحد، و هو غیر متصوّر.

مضافاً إلی قیام الإجماع علی أنّ التیمُّم لیس مطلوباً نفسیّاً، و إن یظهر عبادیّته- أیضاً- من بعض الأخبار(1)، بل الوضوء علی قولٍ- أیضاً- کذلک لیس بنفسه مستحبّاً(2).

أقول: و یمکن التفصّی عن هذا الإشکال باختیار الشِّقّ الأوّل، و أنّ للطهارات الثلاث ملاکین للمقدّمیة و تعلّق الأمر الغیری بها: أحدهما فی ذات الوضوء مثلًا، و ثانیهما فی فعله بقصد الأمر و بعنوان العبادة، و إن شئت فقل: ذات الوضوء مقدّمة لمقدّمة الصلاة، و هو الوضوء الذی هو عبادة، و کما أنّه یتعلّق الأمر الغیری بالمقدّمة بملاک التوقّف، کذلک یتعلّق أمر آخر غیریّ بمقدّمة المقدّمة بهذا الملاک، فهنا أمران غیریّان: أحدهما متعلّق بذات الوضوء، و ثانیهما بإتیانه بعنوان العبادة، فیندفع إشکال الدور.


1- الوسائل 2: 991/ 1 باب 21 من أبواب التیمّم.
2- انظر فوائد الاصول 1: 227، و نهایة الأفکار 1: 329.

ص: 58

و بما ذکرنا أجاب المحقّق العراقی عنه تقریباً؛ حیث قال ما محصّله: أنّا نختار الشقّ الأوّل، و هو أنّ عبادیّة الطهارات الثلاث إنّما هی بالأمر الغیری، و أنّ الأمر الغیری المتوجّه إلی المرکّب أو المقیّد ینبسط علی أجزاء متعلّقه الخارجیّة و العقلیّة، و حینئذٍ فذوات الأفعال فی الطهارات الثلاث مأمور بها بالأمر الضمنی من ذلک الأمر الغیری، فإذا اتی بها بداعی ذلک الأمر الضمنی یتحقّق ما هو المقدّمة؛ أعنی الأفعال الخارجیّة المتقرّب بها، و بذلک یسقط الأمر الضمنی المتوجّه إلی المقیّد بعد فرض أنّه توصُّلی؛ لحصول متعلّقه قهراً بامتثال الأمر الضمنی المتعلّق بذات الفعل(1).

الثالث من الوجوه- و هو العمدة-: أنّه لا ریب فی أنّ الطهارات الثلاث- مع قطع النظر عن الإشکال فی التیمّم- عبادة موقوفة علی فعلها بعنوان العبادة و بقصد أمرها النفسی، مع عدم الإشکال فی صحّة الصلاة معها مع الغفلة عن أنّها مطلوبات نفسیة، و أنّه لو أتی بها بقصد الأمر الغیری لاجتزی بها و صحّت، کما أفتی به الفقهاء(2)، و هو المرتکز- أیضاً- فی أذهان المتشرّعة.

و الحاصل: أنّ محقّق عبادیّة العبادة لیس هو قصد الأمر الغیری، و لا یکفی فی العبادة قصد التوصّل بها إلی شی ء آخر بدون قصد عنوان العبادة، مع کفایة ذلک فی الطهارات الثلاث(3).

و الجواب عنه: إن ارید بذلک أنّه یأتی بالطهارات فی الفرض بقصد التوصّل بها إلی الصلاة- مثلًا- مع الغفلة عن أنّها ممّا یصلح للعبادیّة، نظیر فعل الستر و الاستقبال ممّا لا یقصد بفعله العبادیّة بوجه من الوجوه، فنحن ننکر صحّتها حینئذٍ، و ارتکاز أذهان المتشرّعة بذلک- أیضاً- ممنوع.


1- بدائع الأفکار( تقریرات المحقّق العراقی) 1: 381.
2- سیأتی قریباً.
3- مطارح الأنظار: 70.

ص: 59

و إن ارید أنّ الإتیان بها بقصد التوصّل بها إلی الصلاة مع الغفلة عن أنّها مطلوبات نفسیّة و متعلّقات للأمر النفسی، مع التوجّه إلی أنّها صالحة للعبادیّة، فهو کافٍ فی تحقّق عبادیّتها، و حینئذٍ فلا إشکال أصلًا، و هو قریب ممّا أجاب به فی «الکفایة»(1) فی المقام.

فما أورده علیه المحقّق العراقی(2):- من أنّه کثیراً ما یُؤتی بها بقصد التوصُّل إلی الصلاة و بداعی الأمر الغیری، مع الغفلة عن عبادیّتها و مطلوبیّتها نفساً- محلّ إشکال و منع.

بل نقول: إنّه لا معنی لتحقّق العبادة بالأمر النفسی و لا بالأمر الغیری هنا، فإنّه لا داعویّة للأمر النفسی إلی الإتیان بالطهارات فی الفرض، فلیس عبادیّتها بالأمرِ النفسی، و الأمرُ الغیری- أیضاً- لا یصلح لذلک، بل محقّق عبادیّتها هو صلاحیّة کونها عبادة، کما یستفاد ذلک من الأخبار(3)، و لا یحتاج فی العبادة إلی تعلُّق الأمر بها و قصده بها، بل الجواب الحقیقی عن الإشکال هو ذلک، و المتقدّمان إقناعیّان، و هو مُغنٍ عنهما فی دفع الإشکالین الأوّلین.

و وجهه: أنّک بعد ما عرفت أنّ الطهارات الثلاث ممّا تصلح للعبادیّة و التقرّب بها إلیه تعالی- و المفروض أنّ المکلّف بحسب ارتکازه الذهنی متوجّه إلی ذلک أیضاً حین فعلها و لو مع قصد المقدّمیّة للغیر؛ لما عرفت من الفرق بحسب الارتکاز فی أذهان المتشرّعة بینها عند الإتیان بها و بین فعل الستر و الاستقبال بقصدهم العبادیّة فیها- اتّضح لک: أنّه لا وقع للإشکال الأوّل؛ فإنّ المثوبة مترتّبة علی فعل العبادی علی وجه الاستحقاق بناءً علی هذا القول.


1- کفایة الاصول: 139- 140.
2- انظر بدائع الأفکار( تقریرات العراقی) 1: 380.
3- الکافی 3: 72 ح 10، الوسائل 1: 264 باب 8 ح 3.

ص: 60

و انقدح بذلک: الجواب عن الإشکال الثانی أیضاً، فإنّ توهّم الدور إنّما هو لزعم أنّ مُحقِّق عبادیّتها هو قصد الأمر الغیری، و قد عرفت أنّه لیس کذلک.

و بالجملة: الجواب الصحیح هو ما ذکرناه، و اختاره فی «الکفایة»(1) تبعاً للشیخ قدس سره فی «کتاب الطهارة»: من أنّ الطهارات الثلاث ممّا تصلح للعبادیّة بنفسها من دون دخل قصد الأمر مطلقاً فی عبادیّتها، فهی مستحبّة نفساً، و واجبة بالغیر، نظیر ما إذا نذر الإتیان بصلاة اللیل، فإنّها- حینئذٍ- مستحبّة ذاتاً، و واجبة بعنوان المنذور، فیجب فعل هذا المستحبّ بعنوان الوفاء بالنذر(2).

أمّا ما ذکرناه: من أنّه لا یعقل اجتماع الوجوب و الاستحباب فی عمل واحد.

فمدفوع: بأنّه لا مانع منه إذا کان للفعل عنوانان تعلّق بأحدهما الطلب الأکید، و بالآخر الطلب الغیر الأکید.

و ما یظهر من تقریرات بحث الشیخ قدس سره: من التردّد فی هذا الجواب، و جزم المقرّر بخلافه، و أنّ محقّق عبادیّة الطهارات هو قصد الأمر الغیری(3)، فقد عرفت ما فیه.

ثمّ إنّه اجیب عن الإشکالات بوجوه اخر لا تخلو عن الضعف:

الأوّل: ما حکاه فی «الکفایة»(4)، و ذکره الشیخ قدس سره علی ما فی التقریرات: و هو أنّ المقدّمة: إمّا تکوینیّة معلومة العنوان، کما إذا أمر بالکون علی السطح، فنصب السُّلَّم المأمور به بالأمر الغیری مقدّمة تکوینیّة، و إمّا شرعیّة، و هی- أیضاً- إمّا معلومة العنوان، فیؤتی بها بهذا العنوان، و إمّا مجهولة العنوان، و مُردّدة بین عنوان و عنوان آخر، و تلک کالطهارات، فحیث إنّ المکلّف لا یعلم عنوانها فهو یأتی بها


1- کفایة الاصول: 139- 140.
2- کتاب الطهارة: 87- 88.
3- مطارح الأنظار: 70 سطر 20.
4- کفایة الاصول: 141.

ص: 61

بقصد الأمر الغیری، فیکون آتیاً بها بعنوانها الواقعی المجهول؛ حیث إنّ الأمر المذکور لا یدعو إلّا إلی ذلک، فتتحقّق عبادیّتها بذلک القصد.

و بالجملة: للطهارات المذکورة عنوان واقعی هو الموقوف علیه، و حیث إنّه مجهول یتحقّق هذا العنوان الواقعی بقصد الأمر الغیری، و تصیر به عبادة(1).

و یرد علیه أوّلًا: ما أورده علیه فی «الکفایة»، و هو أنّه غیر وافٍ بدفع إشکال ترتّب المثوبة علیها(2)؛ لأنّها بناءً علی ما ذکر مقدّمات توصُّلیّة، و یلزمه أنّه لو فعلها ریاءً لوقعت صحیحة کافیة، و لا یمکن الالتزام به.

و ثانیاً: لو سلّمنا ذلک لکن قصد الأمر الغیری لا یصحِّح عبادیّتها؛ لأنّ المفروض فعلها للتوصّل بها إلی الصلاة، لا التقرُّب بها إلی اللَّه تعالی المعتبر فی العبادة.

الثانی من الوجوه: ما حکاه فی «الکفایة»- لکن لم أعرف قائله- و هو أنّ لزوم وقوع الطهارات الثلاث عبادة إنّما هو لأجل أنّ الغرض من الأمر النفسی بغایاتها- أی بالطهارات کما لا یحصل بدون قصد التقرّب بموافقته، کذلک لا یحصل إلّا إذا اتی بها کذلک؛ لا باقتضاء الأمر الغیری.

و بالجملة: وجه لزوم الإتیان بها بعنوان العبادة: إنّما هو لأجل أنّ الغرض منها لا یحصل إلّا بإتیان خصوص الطهارات- بین المقدّمات- بقصد الإطاعة(3)، و الفرق بینه و بین الوجه الأوّل واضح؛ فإنّ ذوات الطهارات عبادة بناءً علی هذا الوجه، بخلاف الأوّل.

و أورد علیه فی «الکفایة»: بأنّه- أیضاً- غیر وافٍ بدفع إشکال ترتُّب المثوبة


1- انظر مطارح الأنظار: 71 سطر 13.
2- کفایة الاصول: 140.
3- نفس المصدر: 141.

ص: 62

علیها أیضاً(1).

لکن مرجع هذا الوجه إلی ما ذکره و ذکرناه، فإنّه لو فُرض أنّ الطهارات ممّا تصلح ذاتاً للعبادیّة و التقرّب بها إلیه تعالی، لا لمحض التوصّل بها إلی غایاتها فقط، و المکلّف- أیضاً- ملتفت إلی ذلک حین الفعل، مع قصد التوصُّل أیضاً، فلا یرد علیه واحد من الإشکالات، و لو فرض عدم صلاحیّتها للتقرّب و العبادیّة، فلا معنی لفعلها کذلک.

الثالث من الوجوه: ما حکاه فی «الکفایة»(2)- أیضاً- المنسوب إلی الشیخ قدس سره بالتزام بعضٍ فیها بأمرین لتصحیح اعتبار قصد الإطاعة فیها: تعلّق أحدهما بذات الطهارة، و الثانی بإتیانه بداعی امتثال الأمر الأوّل(3).

و فیه: أنّ هذا الجواب إنّما یفید دفع إشکال الدور فقط، و أمّا الإشکال الأوّل و الثالث فهما باقیان بحالهما.


1- نفس المصدر: 141.
2- نفس المصدر: 140.
3- مطارح الأنظار: 71 سطر 9.

ص: 63

المبحث الرابع فی التقرّب بالواجبات الغیریّة

هل یمکن أن تقع سائر الواجبات الغیریّة- مثل الستر و الاستقبال و نحوهما- مقرّبة للعبد إلی اللَّه تعالی بإتیانها بقصد الأمر النفسی المتعلّق بذی المقدّمة، لا بداعی الأمر الغیری؟ و حکم العقل بذلک- أی لزوم فعلها من باب توقّف الواجب علیها- و إن لم تصر بذلک عبادة؛ لما عرفت من أنّه یمکن أن یکون فعلٌ مقرّباً إلیه تعالی من دون أن یکون عبادة، کالزکاة و الخمس و نحوهما، فإنّهما مقرّبان إذا قصد بهما ذلک، مع أنّهما لیستا من العبادات؛ نعم، فعلهما إطاعة، لا عبادة التی تسمّی بالفارسیة ب «پرستش»، فنقول: لا ریب فی أنّه لا داعویّة و محرّکیّة للأمر المتعلّق بالصلاة- مثلًا إلی إیجاد مقدّماتها؛ لا مستقلّاً و لا تبعاً؛ لأنّ المفروض أنّه متعلّق بالصلاة فقط، و الأمر لا یدعو إلّا إلی متعلَّقه لا غیر، بل الداعی إلی المقدّمات هو الأمر الغیری، أو الحکم العقلی من باب التوقُّف، و هو غیر فعلها بداعی الأمر الشرعی، و المفروض أنّ مثل الستر و الاستقبال لیس ممّا یصلح للعبادیّة ذاتاً، کما فی الطهارات، و لم یتعلّق بها أمرٌ من الشارع غیر الأمر الغیری؛ لیتقرّب به إلیه تعالی.

فما یظهر من «الکفایة» و المحقّق العراقی- قدّس سرّهما- من أنّه یمکن صیرورة المقدّمات التوصّلیّة کلّها مقرّبةً للعبد إلی اللَّه تعالی و یترتّب علیها الثواب إذا فعلها بداعی الأمر المتعلّق بذیها(1).


1- کفایة الاصول: 142، مقالات الاصول: 114- 115، بدائع الأفکار( للمحقّق العراقی): 384.

ص: 64

فیه ما لا یخفی، فلا یمکن القرب و المثوبة بالمقدّمات التوصّلیة بوجه.

نعم، المقدّمة التی تصلح ذاتاً للعبادیّة و المقرّبیّة، کالطهارات إذا أتی بها مستشعراً بذلک حین فعلها، فهی مقرِّبة و عبادة یترتّب علیها المثوبة، فإنّها بما أنّها ممّا تصلحُ للعبادیّة تعلّق بها الأمر الغیری، فمع قصده- أیضاً- تقع عبادة، و قد تقدّم أنّه لا تنافی بین استحبابها ذاتاً و وجوبها بالغیر، خلافاً للمحقق العراقی؛ حیث ذکر أنّ الطهارات الثلاث تنحلّ إلی مقدّمتین: إحداهما ذواتها، و ثانیتهما کونها عبادة، فیتعلّق بکلّ واحد منهما أمر غیریّ وجوبیّ، فیلزم أن تکون ذواتها مستحبّة و واجبة کلیهما بعنوان واحد، فیضمحلّ الاستحباب.

و أمّا بناءً علی ما ذکرناه: من أنّها بما أنّها عبادة مُقدّمة للصلاة و تعلّق بها أمر غیری، فلا منافاة بین استحبابها ذاتاً و وجوبها بالغیر؛ لاختلاف متعلَّقَی الوجوب و الاستحباب باختلاف العنوان، فهی- بما أنّ ذواتها تصلح للعبادیّة- مستحبّةٌ، و بما أنّها عبادة و تتوقّف علیها الصلاة واجبةٌ، نظیر النذر إذا تعلّق بصلاة اللیل کما تقدَّم.

و أمّا ما یظهر من بعض: من أنّ الأمر النذری یکتسب العبادیّة من صلاة اللیل فی المثال، و صلاة اللیل تکتسب الوجوب من الأمر النذری(1)، فلم نتعقّله، و لم یُعلم المراد منه.

و إذا عرفت أنّ الطهارات الثلاث ممّا تصلح ذواتها للعبادیّة و المقرّبیّة، فلو توضّأ قبل دخول الوقت بداعی الاستحباب، جاز الصلاة به و الاکتفاء به؛ لعدم توقّف الصلاة إلّا علی طهارة قربیّة، و هی متحقّقة، و کذا لو دخل الوقت، لکن توضّأ بداعٍ آخر غیر داعی التوصُّل بها إلی الصلاة، مثل قراءة القرآن، و لو توضّأ للتوصُّل بها إلی الصلاة بدون قصد القربة، فهی باطلة مُطلقاً، سواء کان قبل دخول الوقت أم بعده، و لو توضّأ قبل دخول الوقت بداعی الاستحباب، لکن یعلم بأنّه سیدخل الوقت،


1- فوائد الاصول 1: 229.

ص: 65

فقَصَد التوصُّل بها إلی الصلاة بعد دخول الوقت، کفی و صحّ أیضاً، و کذا لا إشکال فی الصحّة لو توضّأ بداعی الاستحباب الذاتی مع الغفلة عن وجوبها الغیری رأساً، فإنّه و إن غفل عن ذلک، لکنّه غیر غافل عن رجحانه ذاتاً، و یجوز الاکتفاء به للصلاة أیضاً.

المبحث الخامس فی شروط وجوب المقدّمة و تبعیته لوجوب ذیها
اشارة

علی فرض ثبوت الملازمة بین إرادة ذی المُقدّمة و بین إرادة المقدّمة، فهل هی تابعة لإرادة ذی المقدّمة إطلاقاً و اشتراطاً؟

و هل یشترط فی وجوب المقدّمة إرادة ذی المقدّمة، کما عن صاحب المعالم قدس سره(1)؟

أو أنّه یشترط فی وجوب المقدّمة قصد التوصّل بها إلی ذی المقدّمة، کما نسب إلی الشیخ قدس سره(2)؟

أو أنّه یشترط فی وجوبها ترتُّب ذیها علیها، فمع عدمه یستکشف عدم وجوبها(3)؟ أقوال:

أمّا القول الأوّل فنقول: قد أوردوا علی صاحب المعالم: تارةً بأنّه لا معنی لاشتراط وجوب المقدّمة بإرادة ذی المقدّمة، مع أنّ وجوب ذی المقدّمة مطلق أصلی و وجوب المقدّمة ترشُّحی تابع لوجوب ذی المقدّمة(4)؟


1- معالم الدّین: 74 سطر 4.
2- مطارح الأنظار: 72 سطر 9.
3- الفصول الغرویّة: 86 سطر 14.
4- مطارح الأنظار: 72 سطر 5، فوائد الاصول 1: 287، بدائع الأفکار( تقریرات العراقی) 1: 385.

ص: 66

و اخری: بأنّ مرجع اشتراط وجوب المقدّمة بإرادة ذیها إلی اشتراط وجوبها بإرادة نفسها؛ و ذلک لبداهة أنّه مع إرادة ذی المقدّمة یرید المقدّمة- أیضاً و اشتراطُ وجوب الشی ء بإرادة ذلک الشی ء غیرُ معقول.

أقول: ظاهر کلام صاحب المعالم قدس سره غیر ما نُسب إلیه(1)، فإنّ ظاهر کلامه هو أنّ وجوب المقدّمة إنّما هو فی حال إرادة ذی المقدّمة(2)، لا اشتراطه بإرادته، فالمقدّمة و ذوها سیّان فی الإطلاق، فلا یرد علیه إشکال لزوم تفکیک المقدّمة عن ذیها فی الإطلاق و الاشتراط.

و کذا الإشکال الثانی؛ لعدم تعبیره بالاشتراط.

نعم، یرد علیه: أنّ إرادة المقدّمة إنّما هی بعد إرادة ذی المقدّمة، و فی رتبة متأخّرة عنها لا فی حالها، و حینئذٍ فلا معنی للبعث إلی المقدّمة مع علم الآمر بإرادة المکلّف لها؛ لعدم الباعثیّة لأمره حینئذٍ(3).

لکن هذا الإشکال مشترک الورود علی القائلین بالملازمة، و لا یختصّ بما ذکره صاحب المعالم.

نعم، یرد علی خصوص مقالة صاحب المعالم قدس سره: أنّه بناءً علی ما ذکره یلزم نحو تفکیک لوجوب المقدّمة عن وجوب ذیها، مع أنّ وجوبها ترشّحی بناءً علی الملازمة.

و أمّا القول الثانی و هو ما نسب إلی الشیخ: من اشتراط وجوب المقدّمة بقصد التوصُّل بها إلی إرادة ذیها(4)، فهو غیر مُراد له قدس سره قطعاً، کما لا یخفی علی من أعطی حقّ النظر فی عبارة التقریرات، فإنّه بعد نقل مقالة صاحب «المعالم»، و بعد ذکر توجیه


1- مطارح الأنظار: 72 سطر 1.
2- معالم الدین: 74 سطر 4.
3- بدائع الأفکار( للمحقّق العراقی) 1: 385.
4- مطارح الأنظار: 72 سطر 9.

ص: 67

بعضهم له، قال: إنّ مراده أنّه یشترط فی وجوب المقدّمة قصد التوصّل بها إلی إرادة ذی المقدّمة.

و بعد الإیراد علی هذا التوجیه قال: إنّا بعد ما أعطینا حقّ النظر فی الحُجج الناهضة علی وجوب المقدّمة، و استقصینا التأمّل فیها، ما وجدنا فیها رائحة من ذلک؛ کیف؟! و إطلاق وجوب المقدّمة و اشتراطه تابع لوجوب ذیها فیهما، و لا یُعقل اشتراط وجوب الواجب بإرادته؛ لأدائه إلی إباحة الواجب. قال- علی ما فی التقریرات-:

و هل یعتبر فی وقوعها علی صفة الوجوب قصد التوصّل بها إلی الغیر أو لا؟ وجهان:

أقواهما الأوّل.

و تحقیق المقام: هو أنّه لا إشکال فی أنّ الأمر الغیری لا یستلزم امتثالًا، کما عرفت فی الهدایة السابقة(1)، بل المقصود منه مجرّد التوصّل إلی الغیر، و قضیّة ذلک هو قیام ذات الواجب مقامه، و إن لم یکن المقصود منه التوصُّل به إلی الواجب کما إذا أمر عبده بشراء اللحم من السوق الموقوف علی تحصیل الثمن، و لکن العبد حصّل الثمن لا لأجل شراء اللحم، بل لأجل ما ظهر له من الامور الموقوفة علی الثمن، ثمّ بدا له امتثال أمر المولی بشراء اللّحم، فیکفی فی مقام المقدّمیّة الثمن المذکور بلا إشکال، و لا حاجة إلی إعادة التحصیل، کما هو ظاهر لمن تدبّر.

إنّما الإشکال فی أنّ المُقدّمة إذا کانت من الأعمال العبادیّة التی یجب وقوعها بقصد القربة، کما مرّ الوجه فیها بأحد الوجوه السابقة، فهل یصحّ فی وقوعها علی جهة الوجوب أن یکون الآتی بها قاصداً لإتیان ذیها أو لا؟

ثمّ فرّع علی کلّ من الوجهین فروعاً ثمّ قال: و قد نسب الثانی إلی المشهور، و لم نتحقّقه، و ما یمکن الاستناد إلیه فی تقریب مرادهم: هو أنّ الوضوء لیس إلّا مثل الصلاة فی لحوق الطلب الإیجابی بهما، غایة الأمر أنّ الداعی إلی إیجاب الواجب


1- و هی الهدایة التی تعرض لها فی ص 66 سطر 9.

ص: 68

الغیری هو التوصُّل به إلی الغیر، و الداعی إلی إیجاب الصلاة هو وجوب نفس الصلاة، و لا دلیل علی لزوم قصد دواعی الأمر.

إلّا أنّ الإنصاف أنّ ذلک فاسد؛ إذ بعد ما عرفت من تخصیص النزاع بما إذا ارید الامتثال بالمقدّمة، فنقول: لا إشکال فی لزوم قصد عنوان الواجب فیما إذا ارید الامتثال بالواجب و إن لم یجب الامتثال، و لا ریب فی عدم تعلُّق القصد بعنوان الواجب فیما إذا لم یکن الآتی بالواجب الغیری قاصداً للإتیان بذلک الغیر، فلا یتحقّق الامتثال بالواجب الغیری إذا لم یکن قاصداً للإتیان بذلک، و هو المطلوب.

أمّا الأوّل: فقد عرفت فیما تقدّم: أنّ الامتثال لا نعنی به إلّا أن یکون الداعی إلی إیجاد الفعل هو الأمر، و یمتنع دعوة الأمر إلی عنوان آخر غیر ما تعلّق الأمر به؛ لعدم الارتباط بینهما، فلو کان الداعی هو الأمر یجب قصد المأمور به بعنوانه.

و أمّا الثانی: فلأنّ الحاکم بالوجوب الغیری لیس إلّا العقل، و لیس الملحوظ عنده فی عنوان حکمه بالوجوب إلّا عنوان المقدّمیّة و الموقوف علیه، و هذه الجهة لا تلحق ذات المقدّمة إلّا بملاحظة ذیها؛ ضرورة کونها من العناوین الملحوظة باعتبار الغیر، فالاتیان بشی ء علی جهة المقدّمیّة یمتنع انفکاکه عن قصد الغیر، و إلّا لم یکن الداعی هو الأمر اللازم من أمر الغیر.

و بعبارة اخری: إنّ ذات المقدّمة معنونة بعنوانات کثیرة منها المقدّمیّة، و هذا عنوان وجوبها الغیری، فلا بدّ عند إرادة الامتثال بالمقدّمة من قصد هذا العنوان؛ لما قرّر فیما تقدّم، و قصدُ عنوان المقدّمة علی وجهٍ یکون الداعی إلی إیجاده ملاحظة المنفعة فی هذا العنوان، لا یعقل بدون قصد الغیر؛ إذ لا یعقل القصد إلی شی ءٍ یترتّب علیه فائدة لأجل تلک الفائدة بدون أن تکون تلک الفائدة مقصودة؛ لکونه تناقضاً.

ثمّ فرّع علیه مسألة .. إلی أن قال:

و کیف کان، فالظاهر اشتراط وقوع المقدّمة علی صفة الوجوب و المطلوبیّة

ص: 69

بقصد الغیر المترتِّب علیها؛ لما عرفت، و یکشف عن ذلک ملاحظة الأوامر العرفیّة المعمولة عند الموالی العرفیّة و العبید، فإنّ الموالی لو أمروا عبیدهم بشراء اللحم الموقوف علی الثمن، فحصّل العبد الثمن لا لأجل اللحم، لم یکن ممتثلًا للأمر الغیری قطعاً، و إن کان بعد ما بدا له الامتثال مجزئاً؛ لأنّ الغرض فیه التوصُّل، و لمّا کانت المقدّمة العبادیّة لیست حالتها مثل تلک المقدّمة فی الاکتفاء بذات المقدّمة عنها، وجب إعادتها کما فی غیرها من العبادات، فلا یکاد تظهر الثمرة فی المُقدّمات الغیر العبادیّة، کغسل الثوب و غیره؛ ضرورة حصول ذات الواجب و إن لم یحصل الامتثال علی وجه حصوله فی الواجبات الغیریّة.

نعم، تظهر الثمرة من جهة بقاء الفعل المقدّمی علی حکمه السابق، فلو قلنا بعدم اعتبار قصد الغیر فی وقوع المقدّمة علی صفة الوجوب، لا یحرم الدخول فی ملک الغیر إذا کان مقدّمة لإنقاذ غریق، بل یقع واجباً، سواء ترتّب علیه الغیر أم لا.

و إن قلنا باعتباره فی وقوعها علی صفة الوجوب، فیحرم الدخول ما لم یکن قاصداً لإنقاذ الغریق. انتهی(1).

و لا یخفی أنَّ مُراده قدس سره أنّ صدق الامتثال متوقّف علی قصد التوصُّل و الأمر الغیری، و بدونه لا یتحقّق الامتثال مع تحقّق الواجب، فإنّ هنا مقامین: الأوّل مقام صدق الامتثال فی الإتیان بالأوامر الغیریّة، و الثانی تحقّق الواجب، و الأوّل لا یتحقّق إلّا مع قصد التوصُّل و داعویّة الأمر الغیری، بخلاف الثانی، فإنّ قصد التوصُّل فیه غیر معتبر، کما لا یخفی علی من أعطی تقریراته حقّ النظر، و إن کان عبارة التقریرات مضطربة جدّاً(2)، لکن المقطوع هو أنَّ مُراد الشیخ قدس سره غیر ما هو المنسوب إلیه من


1- مطارح الأنظار: 72- 73.
2- تقدّم تخریجه.

ص: 70

اعتبار قصد التوصّل فی اتّصاف المقدّمة بالوجوب(1)، و أنّ النسبة فی غیر محلّها.

نعم: یرد علی ما ذکره فی ذیل عبارته- بقوله: نعم: یظهر الثمرة ... إلخ- أنّه بعد ما عرفت و ثبت أنّ قصد التوصّل إلی ذی المقدّمة غیر معتبر فی اتّصاف المقدّمة بالوجوب، لا فرق فی مزاحمة الحرمة للوجوب فی المثال بین قصد التوصّل إلی الغیر الواجب و عدمه.

فتلخّص: أنّه لا یعتبر عند الشیخ قدس سره فی اتّصاف المقدّمة بالوجوب قصد التوصُّل بها إلی الغیر.

و منه یظهر: أنّ ما ذکره المحقّق العراقی من الاحتمالات(2) فی کلام الشیخ قدس سره کلّها مردودة و غیر مرادة له، و کذلک کثیر من الاحتمالات التی ذکرها المیرزا النائینی قدس سره(3).

و وجّه بعض المحقّقین من المحشّین ما هو المنسوب إلی الشیخ قدس سره: بأنّ مرجع الحیثیّات التعلیلیّة فی الأحکام العقلیّة إلی الحیثیّات التقییدیّة، و المراد أنّ حیثیّة مقدّمیّة المقدّمة علّة لإرادة المولی إیّاها، فمرجعها إلی أنّ المقدّمة بما أنّها مقدّمة واجبة، و حینئذٍ فإن أتی المکلّف بها بما أنّها مقدّمة للغیر، فلا یعقل عدم قصد المقدّمیّة و التوصّل بها إلی الغیر(4).

و فیه: أنّ ما ذکره- من أنّ مرجع الحیثیّات التعلیلیّة .. إلخ- مسلَّم، لکن لا نُسلِّم اعتبار القصد إلی هذه الحیثیّة، فإنّ المفروض أنّ المقدّمة توصُّلیة، یکفی إیجادها بأیّ نحو کان؛ و لو بدون الإرادة، أو فی حال النوم، أو بدون الاختیار، و لا یلزم


1- نهایة الأفکار: 333.
2- بدائع الأفکار( تقریرات العراقی) 1: 385.
3- فوائد الاصول 1: 287- 289.
4- انظر نهایة الدرایة 1: 204- 205 سطر 22.

ص: 71

الإتیان بها مع الإرادة و الاختیار مع القصد إلیها؛ لما عرفت من أنّ القصد معتبر فی تحقُّق الامتثال و صدقه، لا فی اتّصاف المقدّمة بالوجوب.

و علی أیّ تقدیر هذا القول- سواء کان مراداً للشیخ قدس سره أو غیره- مردود بما أورد علیه فی «الکفایة»: من عدم إمکان اعتبار شی ء فی الوجوب إلّا إذا کان له دَخْل فیه من الملاک، و ملاکُ وجوب المقدّمة حصولُ ما لولاه لما أمکن الإتیان بذی المُقدّمة لا غیر، و قصد التوصُّل لیس دخیلًا فیه، فلا یعتبر(1).

فی أنحاء قصد التوصّل و أحکامها:
اشارة

بقی الکلام فی بیان ما یُتصوّر من أنحاء أخذ قصد التوصُّل فی وجوب المقدّمة، و أنّها ممکنة فی مقام الثبوت و التصوّر أو لا:

فنقول: له احتمالات:

أحدها: أن یکون قصد التوصُّل شرطاً فی وجوب المقدّمة و اتّصافها به.

الثانی: أنّ قصد التوصُّل ظرف للوجوب؛ أی أنّ المقدّمة واجبة فی ظرف حصول القصد المذکور، نظیر ما ذکره صاحب المعالم: من أنّ وجوب المقدّمة فی حال قصد إیجاد ذی المقدّمة(2).

الثالث: أنّه معتبر فی الواجب المأمور به، و أنّ الأمر الغیری متعلّق بالستر- مثلًا- مع قصد الإیصال معاً.

أمّا الأوّل: فقد اورد علیه ما اورد علی صاحب المعالم: من أنّ مرجعه إلی اشتراط وجوب الشی ء- أی المقدّمة- بإرادة إیجاده؛ ضرورة أنّ قصد التوصُّل إلی ذی المقدّمة ملازم لقصد إیجاد المقدّمة، فمرجع اشتراط قصد التوصّل إلی ذی المقدّمة


1- انظر کفایة الاصول: 143.
2- انظر معالم الدین: 74 سطر 3.

ص: 72

فی وجوب المقدّمة إلی اشتراطه فی وجوب المقدّمة، و لا معنی له(1).

و أمّا الثانی: فکذلک، بل أسوأ حالًا منه، فإنّ لقصد إیجاد ذی المقدّمة فی الأوّل نحو تقدّم علی قصد إیجاد المقدّمة، بخلافه علی الثانی.

و أمّا الثالث: فهو- أیضاً- مستحیل بناءً علی ما ذکره فی «الکفایة»: من أنّ الإرادة لیست بالاختیار، و إلّا لتسلسلت؛ لاشتراط قدرة المکلَّف علی الإتیان بمتعلّق الأمر، و الإرادة لیست کذلک، فلا یمکن التکلیف بها(2).

لکن لو قلنا بأنّ الإرادة- أیضاً- بالاختیار- کما هو الحقّ- فلا إشکال عقلیّ علیه.

و أمّا أنّ الإرادة اختیاریّة مطلقاً فلأنّه لو لم یُرد أحد الإقامة فی بلد- مثلًا- و قال له آخر: «لو أقمتَ فی هذا البلد أعطیتُک کذا»، فإرادة الإقامة فیه لأجل حبّه و شوقه إلی ما وعده أوّلًا و بالذات، و إلی الإقامة فیه ثانیاً و بالعرض، فقد أراد بالاختیار الإقامة فی ذلک البلد.

و حینئذٍ فالصورة الثالثة غیر مستحیلة، لکن یرد علیها الإشکال المتقدّم من «الکفایة»: من أنّه لا یعتبر فی الواجب إلّا ما له دخْلٌ فیه و ملاکٌ للوجوب، و لا یعقل اشتراطه بما لا دخل له فیه(3).


1- انظر فوائد الاصول 1: 287.
2- انظر کفایة الاصول: 146.
3- تقدّم تخریجه.

ص: 73

المقدّمة الموصلة:

و أمّا القول الثالث و هو ما اختاره صاحب (الفصول): من القول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط(1)، فله تصویران:

أحدهما: أن یقال: إنّ الإیصال و الترتُّب شرط للوجوب، و علّة لاتّصاف المقدّمة به، فإذا أوجد المقدّمة، ثمّ أوجد بعدها ذا المقدّمة، فبالوصول إلیه تصیر المقدّمة واجبة.

لکن هذه الصورة مستحیلة، و أنکرها صاحب الفصول(2) أیضاً.

الثانیة: أنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة بحسب متن الواقع و نفس الأمر، لکن لا یعلم حین إیجاد ذاتها أنّها الواجبة إلّا بعد إیجاد ذی المقدّمة، فیستکشف بإیجاد ذی المقدّمة اتّصافُها بالوجوب حین إیجادها سابقاً، و هذه الصورة هی مراد صاحب الفصول.

و اورد علیه بأنّه مُستحیل؛ لوجوه:

الأوّل: أنّه مستلزم للدور، و قُرِّر بتقریبات:

الأوّل: أنّه لو فرض أنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة فذو المقدّمة مقدّمة لتحقّق الواجب من المقدّمة؛ ضرورة أنّه لا یتحقّق الإیصال إلّا بوجود ذی المقدّمة و تحقّقه، فیتوقّف وجود کلّ واحد من المقدّمة و ذیها علی وجود الآخر(3).

الثانی: ما قرّره فی «الدرر»: من أنّه لا ریب فی أنّه لا مناط للطلب الغیری إلّا التوقّف و احتیاج ذی المقدّمة إلی غیره بداهةً، و حینئذٍ فنقول: الإیصال عنوان ینتزع من وجود ذی المقدّمة، فیتوقّف علیه، فلو توقّف ذو المقدّمة علی الفعل المقیّد


1- الفصول الغرویّة: 86.
2- نفس المصدر.
3- انظر فوائد الاصول 1: 290.

ص: 74

بالإیصال، لزم الدور؛ لأنّ الإیصال یتوقّف علی ذی المقدّمة المتوقّف علی الإیصال(1).

الثالث: ما قرّره بعض مقرّری درس المیرزا النائینی: من أنّ وجوب المقدّمة متوقّف علی وجوب ذی المقدّمة؛ لأنّه غیری و ترشُّحی، فلو کان الواجب هو المقدّمة الموصلة، فهو یستلزم توقّف وجوب ذی المقدّمة علی المقدّمة؛ لأنّه- أیضاً- حینئذٍ مقدّمة للمقدّمة لو اعتبر الإیصال، فیترشّح من وجوب المقدّمة وجوب ذی المقدّمة، فیتوقّف وجوب کلّ منهما علی وجوب الآخر(2).

لکن هذه التقریرات کلّها مدخولة:

أمّا الأوّل: فلأنّ الموقوف غیر الموقوف علیه؛ فإنّ وجود ذات ذی المقدّمة موقوف علی وجود المقدّمة الموصلة، و اتّصاف المقدّمة بالإیصال موقوف علی وجود ذی المقدّمة، فلیس وجود المقدّمة متوقّفاً علی وجود ذی المقدّمة، و الدور التکوینی المُستحیل هو أن یتوقّف وجود کلّ واحد منهما علی وجود الآخر، و ما نحن فیه لیس کذلک کما عرفت.

أمّا الثانی: فهو- أیضاً- غیر وارد علی صاحب الفصول، فإنّه لا نسلّم المقدّمة التی ذکرها للدور، و هی دعوی بداهة أنّ المناط فی الطلب الغیری هو التوقّف لا غیر، فإنّه قائل بوجوب المقدّمة الموصلة فقط، لا مُطلق المقدّمة، و الدور المذکور مبنیّ علی وجوب مطلق المقدّمة.

و أمّا التقریب الثالث: فهو واضح الفساد؛ لأنّ الوجوب الغیری للمقدّمة یتوقّف علی الوجوب النفسی لذی المقدّمة، و لا یتوقّف الوجوب النفسی لذی المقدّمة علی وجوب المقدّمة، بل المتوقّف علی وجوب المقدّمة هو الوجوب الغیری لذیها، فالموقوف غیر الموقوف علیه.


1- انظر درر الفوائد: 118.
2- انظر أجود التّقریرات 1: 237- 238.

ص: 75

الثانی من الوجوه الواردة علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة: أنّه مستلزم للتسلسل؛ و ذلک لأنّه لو فرض أنّ الواجب هی المقدّمة الموصلة، فهی تنحلّ إلی ذات المقدّمة و قید الإیصال؛ لأنّ الواجب عنده هو المقدّمة الموصلة لا مطلق المقدّمة، فذات المقدّمة- أیضاً- مقدّمة لوجود ملاک المقدّمیة فیها أیضاً، فلا بدّ من قید إیصال آخر فی وجوبها؛ لما ذکر أنّ مطلق المقدّمة لیست واجبة عنده، فتنحلّ- أیضاً- إلی ذات المقدّمة و قید الإیصال، فلا بدّ من إیصال آخر، و هکذا یذهب إلی ما لا نهایة له، و کذا فی جانب الإیصال فإنّه- أیضاً- مقدّمة، فلا بدّ من قید إیصال آخر فیه، و هکذا ..(1).

و فیه: أنّ هذا التسلسل نظیر التسلسل فی الاعتباریّات، مثل أن یقال:

الزوجیّة لازمة للأربعة، و هذا اللزوم- أیضاً- لازم، و هکذا ..

و جوابه: أنّ هذه اللزومات لیست مُتعدّدة، بل لزوم واحد، فکذا فیما نحن فیه، فإنّ الأمر متعلّق بذات المقدّمة و قید الإیصال معاً علی مذهبه، فقوله:- إنّ ذات المقدّمة- أیضاً- مقدّمة، فلا بدّ من قید الإیصال أیضاً- فیه: أنَّ هذا الإیصال بعینه هو الإیصال الأوّل لا غیر، فلا إشکال.

الثالث من وجوه الإیرادات علی القول بالمقدّمة الموصلة: أنّه بناءً علیه یلزم اتّصاف ذی المقدّمة- الذی هو مطلوب نفساً- بوجوبات متعدّدة غیریّة بعدد المقدّمات فیما لو تعدّدت؛ لأنّ ذا المقدّمة- علیه- مقدّمة لمقدّمات متعدّدة موصلة، فیترشّح من کلّ واحدة منها وجوب غیری إلی ذی المقدّمة، فیلزم ما ذکر(2).

و فیه: أنّ الواجب من المقدّمة علی مذهب صاحب «الفصول» هی المقدّمة الموصلة، فهی المتّصفة بالوجوب الغیری الترشّحی، لا مطلق المقدّمة، و ذات الواجب النفسی لیست مقدّمة موصلة لذات المقدّمة، بل هو مقدّمة لاتّصاف المقدّمات


1- انظر فوائد الاصول 1: 290.
2- انظر درر الفوائد: 119.

ص: 76

بالإیصال، فلیس ذات الواجب مقدّمة موصلة؛ حتّی یتّصف بالوجوبات الغیریّة المتعدّدة بعدد المقدّمات. فاتّضح من جمیع ما ذکرنا: أنّ القول بالمقدّمة الموصلة لیس مستحیلًا.

الرابع من الوجوه ما استشکل فی «الکفایة» علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة: بأنّه مستلزم لإنکار وجوب مقدّمات کثیرة، بل أکثرها، و انحصار الوجوب بمقدّمات هی علّة تامّة لترتّب ذیها علیها، کالأفعال التولیدیّة، و أمّا غیرها فهی و إن کانت مستندة إلی علّة تامّة؛ لاستحالة وجود الممکن بدون العلّة، لکن بعض أجزاء علّتها من مقدّمات الفعل الاختیاری کالإرادة، لیس اختیاریّاً و مقدوراً للمکلّف، فلا یمکن أن یتعلّق به الوجوب(1).

و فیه: أنّه لیس المراد بالمقدّمة الموصلة العلّة التامّة لیرد علیه هذا الإشکال، بل المراد منها هی التی یقع بعدها و یترتّب علیها الواجب، سواء کان بلا واسطة أم مع واسطة أو وسائط، لا مطلق المقدّمة و إن لم یقع و یوجد الواجب بعدها، کما لا یخفی علی من أعطی حقّ النظر فی کلام صاحب «الفصول» قدس سره فإنّه مثّل بما إذا قال المولی لعبده: «اشترِ اللحم»(2)، فالذهاب إلی السوق و نحوه من المقدّمات إذا ترتّب علیها الواجب و وجد بعدها فهی متّصفة بالوجوب، مع أنّها لیست علّة تامّة للاحتیاج إلی الإرادة أیضاً.

مضافاً إلی أنّا لا نُسلِّم أنّ الإرادة غیر اختیاریّة، کما تقدّم بیانه، و لو سلّمنا أنّها غیر اختیاریّة یرد علی صاحب «الکفایة» أنّه لو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة فالإرادة- أیضاً- من المقدّمات، فیلزم اتّصافها بالوجوب، مع أنّها غیر اختیاریة علی مذهبه، فما یدفع به هذا الإشکال هو الجواب عن الإشکال الذی ذکره.


1- انظر کفایة الاصول: 145- 146.
2- الفصول الغرویّة: 88 سطر 6.

ص: 77

و استشکل أیضاً: بأنّه بناءً علی وجوب المقدّمات الموصلة فقط؛ لو أتی بواحدة منها بدون انتظار الإیصال إلی ذی المقدّمة، أو فُرض حصول المقدّمة قبل تعلّق الوجوب بها، یلزم أن لا یسقط الأمر مع سقوطه بلا ریب و إشکال، و سقوط الأمر إنّما هو إمّا بالإطاعة، أو انتفاء الموضوع، کما إذا غرق المیّت، فیسقط التکلیف بتجهیزه و دفنه، أو بالمخالفة و العصیان، و لیس فی المقام إلّا الأوّل، فالسقوط هنا إنّما هو لأجلها(1).

و الجواب: أنّه لا مانع من القول بعدم سقوط الأمر فی الفرض؛ بناءً علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط.

فتلخّص: أنّه لا یرد علی هذا القول إشکال عقلی و لا غیره.

الأقوال الراجعة إلی وجوب المقدّمة حال الإیصال:

لکن لو فرض ورود الإشکالات المذکورة، و عدم إمکان أخذ قید الإیصال فی المقدّمة الواجبة، و لم یمکن القول بوجوب مطلق المقدّمة أیضاً، فهل یمکن تصویر الواجب من المقدّمة بما یکون برزخاً بین القولین؛ بأن لم یکن الواجب من المقدّمة مقیّداً بالإیصال مع عدم وجوب مطلق المقدّمة؛ بحیث یشترک مع قول صاحب الفصول فی النتیجة أو لا؟

فنقول: قال الاستاذ الحائری قدس سره: إنّ الواجب من المقدّمة لیس ذا و ذاک، بل الطلب تعلّق بالمقدّمات فی حال لحاظ الإیصال، لا مقیّداً بالإیصال حتّی یرد علیه الإشکالات السابقة(2).

و المراد: أنّه بعد تصوّر المقدّمات و لحاظها جمیعها مرتّبةً- رج کرده- یریدها


1- انظر کفایة الاصول: 146.
2- درر الفوائد: 119.

ص: 78

بذواتها؛ لأنّ تلک الذوات بهذه الملاحظة لا تنفکّ عن المطلوب الأصلی، و لو لاحظ مقدّمة منفکّةً عمّا عداها من المقدّمات فلا یریدها جُزافاً، فإنّ ذاتها و إن کانت مورداً للإرادة، لکن لمّا کانت فی ظرف ملاحظة باقی المقدّمات معها لم تکن کلّ واحدة مرادة بنحو الإطلاق، و هذا مساوق للإیصال.

و قال المحقّق العراقی قدس سره: یمکن تصویر المسألة بصور:

إحداها: أنّ الواجب هو المقدّمة بشرط وجود سائر المقدّمات، و لازم ذلک هو الإیصال إلی ذی المقدّمة.

و ثانیتها: أنّ الواجب هو المقدّمة المقیّدة بالإیصال، و لازم ذلک وجود سائر المقدّمات.

و ثالثتها: أن الواجب هو الحصّة من المقدّمة التوأمة للإیصال(1). و حینئذٍ فهو ینتج نتیجة مقالة صاحب الفصول، مع عدم ورود الإشکالات المذکورة علیه، و لیس قولًا بوجوب مطلق المقدّمة أیضاً.

و قال بعض الأعاظم: إنّ الوجوب الغیری لم یتعلّق بکلّ واحدة من المقدّمات، بل بالعلّة التامّة، و هی مجموع المقدّمات، فیتعلّق بکلّ واحدة منها أمر ضمنی لا غیری مستقلّ(2).

و مرجع هذه الوجوه شی ء واحد تقریباً، و هو أنّ الواجب لیس مطلق المقدّمة، و لا المقدّمة المقیّدة بالإیصال، بل الواجب هی المقدّمة حال الإیصال و بلحاظ الإیصال، لکن الوجوه المذکورة مخدوشة.

توضیح ذلک: أنّ الظرف إمّا دخیل فی موضوع حکم، کما إذا قیل: «الماء فی الآنیة الکذائیّة مطلوب»، فلیس مطلق الماء فیه مطلوباً، أو لا دخل له فیه، کما إذا


1- بدائع الأفکار( تقریرات المحقق العراقی) 1: 392.
2- انظر أجود التقریرات 1: 240- 241.

ص: 79

قیل: «إنّ الذین فی المدرسة عدول»، فإنّ الظرف لا دخل له فی موضوع هذا الحکم، بل هو عنوان مشیر و معرّف له.

و حینئذٍ نقول: إنّ قید حال الإیصال و لحاظه فی قولهم: «المقدّمة واجبة حال الإیصال» لا یخلو عن أحد الفرضین اللّذین ذکرناهما: فإن کان بالنحو الأوّل فهو عین ما ذکره صاحب الفصول(1)، و إنّما الفرق بینهما فی التعبیر، و إن کان بالنحو الثانی فهو لیس إلّا القول بوجوب مطلق المقدّمة؛ لعدم التقیید فیها حینئذٍ.

و یرد علی خصوص مقالة المحقّق العراقی قدس سره(2) مضافاً إلی ما ذکر-: أنّ المُراد بالحصّة المذکورة فی عبارته هی الطبیعة المقیّدة بالإیصال، فهو عین مقالة صاحب الفصول قدس سره.

فإذا لم یرد علی مقالة صاحب الفصول إشکال عقلی، فالأمر دائر بین قوله و بین القول بوجوب مطلق المقدّمة؛ لما عرفت من أنّ الأقوال الاخر کلّها- و کذا ما أفاده المحقّق العراقی- لیست بشی ء.

و استدلّ فی «الفصول»: تارةً بأنّ الحاکم بوجوب المقدّمة هو العقل الحاکم بالملازمة، فهو لا یحکم بوجوب غیر الموصلة.

و الظاهر أنّ مراده أنّ القدر المُتیقّن هو ذاک؛ لیمتاز عن الدلیل الثالث الآتی.

و اخری: بأنّ الوجدان شاهد علی أنّه یصحّ أن یصرّح المولی: بأنّی لا ارید جمیع المقدّمات أو المقدّمات الغیر الموصلة، مع أنّه یقبّح علیه التصریح بالنهی عن المقدّمات الموصلة أو جمیع المقدّمات، و هذا دلیل علی أنّ الواجب هو المقدّمات الموصلة.

و ثالثة: بأنّه لمّا کان وجوب المقدّمة لأجل التوصّل بها إلی الإتیان بذی


1- تقدّم تخریجه.
2- تقدّم تخریجه.

ص: 80

المقدّمة، فلا بدّ أن یکون الواجب هی هذه الحیثیّة؛ أی المقدّمة من حیث الإیصال(1).

هذه خلاصة استدلالاته، و العمدة منها هو الأخیر، فإنّ الأوّلین منها مجرّد دعوی یمکن عدم قبولها کما فی «الکفایة»(2).

و أمّا الثالث: فأجاب عنه فی «الکفایة»:

أوّلًا: بمنع الصغری؛ أی أنّ وجوب المقدّمة إنّما هو للتوصّل، بل وجوبها إنّما هو لعدم تمکُّن المُکلّف و قدرته علی امتثال أمر ذی المقدّمة بدونها؛ لأنّ التوصُّل إلی ذی المقدّمة لیس من آثار وجوب المقدّمة و غایتها، بل من الفوائد التی تترتّب علیها أحیاناً بالاختیار، و بمقدّمات اخری هی مبادی اختیاره، و لا یکاد یکون مثل هذا غایة لمطلوبیّتها، و داعیاً إلی إیجادها، و إلّا یرد علیه إشکال الدور، و لزم أن یکون ذو المقدّمة واجباً نفسیّاً و غیریّاً.

و اخری: أنّه مع فرض تسلیم الصغری، لکن الکبری ممنوعة، و نمنع اعتبار التوصُّل فیها و إن سُلِّم أنّ الوجوب لأجل التوصُّل. انتهی(3).

لکن فیه أوّلًا: أنّه إن أراد أنّ غایة وجوب المقدّمة هو هذا الأمر العدمی- أی عدم إمکان إیجاد ذی المقدّمة بدونه- فهو کما تری، و لا أظنّ أن یلتزم به، فلا بدّ أن یرید أنّ الغایة له هو توقّف ذی المقدّمة علیه لا التوصّل إلی ذی المقدّمة.

و ثانیاً: أنّه علی فرض تسلیمه الصغری- أی أنّ وجوب المقدّمة للتوصّل إلی ذیها- لا یُعقل وجوب المقدّمة بدون هذه الحیثیّة؛ ضرورة أنّه إذا تعلّق الحبّ و الشوق أوّلًا و بالذات بحیثیّة کامنة فی الشی ء، کحیثیّة التوصّل إلی ذی المقدّمة فی المقدّمة، فلا محالة یتعلّق إرادته- أیضاً- بتلک الحیثیّة، و لا یُعقل تعلُّقها بحیثیّة اخری، کما هو


1- انظر الفصول الغرویّة: 86 سطر 19.
2- انظر کفایة الاصول: 147- 148.
3- انظر نفس المصدر: 149- 150.

ص: 81

واضح، و لا فرق فی ذلک بین الواجب النفسی و الغیری.

نعم: لو جهل المُکلَّف بغایة الشی ء المأمور به، کنَیل الدرجات العالیة فی مثل وجوب الصلاة، یمکن أن یفعلها لا لأجل ذلک.

و قال بعض المحقّقین: یمکن توجیه مقالة صاحب الفصول بوجهین:

أحدهما: أن یرید بما ذکره و اختاره: أنّ الإرادة متعلّقة بکلّ واحد من السبب الفعلی و الشرط الفعلی أو المعدّ الفعلی، و لا ریب أنّ کلّ واحد منها مع قید الفعلیّة یلازم الإیصال إلی ذی المقدّمة.

الثانی: أنّ الإرادة متعلّقة بالعلّة التامّة لذی المقدّمة، و هی عبارة عن مجموع المقتضی و الشروط و المعدّ، و لا ریب فی أنّها مستلزمة للوصول إلی المعلول.

ثمّ استشکل: بأنّ الإرادة من أجزاء العلّة التامّة، و لا یمکن تعلّق الإرادة بها؛ لأنّها لیست بالاختیار.

و أجاب: بأنّا لا نُسلِّم عدم إمکان تعلّق الإرادة و الشوق بها، بل الممتنع هو البعث إلیها(1) انتهی.

أقول: یرد علی ما ذکره أوّلًا: ما أوردناه علی ما فی «الکفایة»: من أنّه لو فرض أنّ حیثیّة التوصُّلیّة علّة لوجوب المقدّمة فالواجب هو هذه الحیثیّة لا غیرها، فإنّ مرجع الحیثیّات التعلیلیّة فی الأحکام العقلیّة إلی الحیثیّات التقییدیّة.

هذا إذا أراد أنّ حیثیّة المُوصِلیّة علّة لتعلُّق الإرادة بالمقدّمة.

و إن أراد أنّ حیثیّة السببیّة التامّة و الشرطیّة الفعلیّة و المعدّ الفعلی علّة لتعلّق الإرادة بالمقدّمة، فهو خلاف الوجدان.

و یرد علی ما ذکره ثانیاً- مضافاً إلی هذا الإشکال الوارد علی الأوّل-: أنّ مجموع المقتضی و الشرط و المعدّ لیس شیئاً واحداً؛ لیتعلّق به الإرادة سوی الإرادة


1- انظر نهایة الدرایة 1: 205- 206.

ص: 82

المتعلّقة بکلّ واحد من المقتضی و الشرط و المُعِدّ، فهل تری من نفسک تعلُّق إرادتک بمجموع المقدّمات من حیث المجموع، سوی الإرادة المتعلّقة بالأجزاء؛ أی أجزاء العلّة کلّ واحد منها؟!

و لا یتوهّم إرادة ذلک المحقّق أنّ مراد صاحب الفصول ذلک؛ کیف و هو أورد علی مذهبه الإیرادات المتقدّمة؟! فکیف یمکن أن یرید ذلک مع إشکاله علیه؟!

ثمرة القول بوجوب المقدّمة الموصلة:

ثمّ إنّه ذکر بعضهم: أنّه تظهر ثمرة القول بوجوب المقدّمة الموصلة فی بطلان العبادة فیما إذا توقّف الواجب الأهمّ کالإزالة علی ترک الصلاة؛ بناءً علی توقّف فعل الضدّ علی ترک فعل الضدّ الآخر، فعلی القول بوجوب مطلق المقدّمة- کما اختاره فی «الکفایة»(1)- فترک الصلاة فی المثال واجب، فیحرم ضدّه المطلق، و هو فعل الصلاة، فتفسد لو فعلها، فإنّ فعلها و إن لم یکن نقیضاً لترک الصلاة الواجب مفهوماً، فإنّ نقیض کلّ شی ء رفعه و عدمه، و هو ترک ترکها، لکن الصلاة متّحدة معه فی الخارج، فتصیر منهیّاً عنها و فاسدة، بخلاف ما لو قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة، فإنّ الواجب هو ترک الصلاة الخاصّ؛ أی المقیّد بالإیصال إلی فعل الإزالة، فالواجب هو الترک الخاصّ، و نقیضه المحرّم هو رفع هذا المقیّد، و حیث إنّ له فردین: أحدهما فعل الصلاة، و ثانیهما الترک المجرَّد؛ لأنّ عدم الترک الخاصّ أعمّ من فعل الصلاة و الترک المجرّد عن فعل الصلاة و الإزالة، فلا تصیر الصلاة منهیّاً عنها و لا فاسدة، فإنّ ترکها لیس مقدّمة واجبة مطلقاً، بل إذا کان موصلًا إلی فعل الإزالة و مع فعلها انتفی الإیصال فلا تحرم(2).

و أورد علیه الشیخ الأعظم قدس سره علی ما فی التقریرات بأنّ الصلاة علی کلا


1- کفایة الاصول: 142.
2- هدایة المسترشدین: 220 سطر 1.

ص: 83

التقدیرین لیست نقیضاً للترک الواجب مقدّمة بعینه، سواء قلنا بوجوب مطلق المقدّمة، أم خصوص المقدّمة المُوصلة، بل هی من مصادیق النقیض و أفراده، غایة الأمر أنّه بناءً علی وجوب مطلق المقدّمة، هی مصداق الترک الواجب مقدّمة، و منحصرة فی واحد، و هو الفعل، و بناءً علی وجوب المقدّمة الموصلة للنقیض مصداقان: أحدهما الصلاة، و ثانیهما ترک الترک مجرّداً عن فعل ذی المقدّمة، و هذا لیس ممّا یوجب الفرق؛ لتکون الصلاة محرّمة بناءً علی وجوب مطلق المقدّمة، و غیر محرّمة بناءً علی وجوب المقدّمة الموصلة، فإن لم یکفِ ذلک فی حرمتها و فسادها فهو کذلک فی الصورتین، و علی کلا القولین لما عرفت من عدم الفرق بینهما کی یوجب الفساد فی احداهما دون الاخری(1).

و أجاب فی «الکفایة» عن ذلک بأنّ الصلاة علی القول بالمقدّمة الموصلة من مقارنات النقیض المحرّم؛ حیث إنّها قد توجد، و قد لا توجد مع تحقّق النقیض، و هو ترک الترک الخاصّ فی کلتا الصورتین، بخلاف ما لو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة، فإنّ الصلاة و إن کانت مغایرة للنقیض مفهوماً، لکنّها متّحدة مصداقاً- و فی الخارج- معه، فتفسد.

و أمّا علی القول بالمقدّمة الموصلة فالصلاة من مقارنات النقیض المحرّم و لا یتعدّی حکم الشی ء إلی ما یلازمه، فضلًا عمّا یقارنه.

نعم، لا یمکن أن یکون الملازم محکوماً بحکم آخر مغایر لحکم اللازم(2).

أقول: لو قلنا إنّ نقیض کلّ شی ء رفعه فنقیض ترک الصلاة المقیّد بالإیصال رفع ذلک المقیّد؛ و بعبارة اخری ترک الترک الخاصّ، و هو أمر عدمی، و الصلاة فعل وجودی، و حیثیّة الوجود تناقض حیثیّة العدم، فلا یعقل أن تکون الصلاة عین ترک


1- انظر مطارح الأنظار: 78 سطر 26.
2- انظر کفایة الاصول: 151- 152.

ص: 84

الترک الخاصّ لا مفهوماً و لا مصداقاً؛ کی یقال إنّها متّحدة معه خارجاً و ذاتاً، و کذلک لو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة، فإنّ ترک الترک المطلق- حینئذٍ- نقیض للواجب مقدّمة، و الصلاة أمر وجودی، و قد عرفت أنّ حیثیّة الوجود تطرد حیثیّة العدم، و لا یعقل الاتّحاد الذاتی بینهما.

فما ذکره من الفرق بین القولین فی الثمرة غیر سدید، و قضیّة ما ذکرنا عدم بطلان الصلاة علی کلا القولین، کما أفاده الشیخ قدس سره(1).

و إن قلنا: إنّه یکفی فی الحرمة و الفساد لو کان بینهما نحو اتّحاد عَرَضیّ، و فی اصطلاح بعض: مصدوقیّة شی ء للمحرّم و إن لم یتّحدا ذاتاً، فمقتضاه فساد الصلاة علی کلا القولین، فلا وجه للتفصیل بینهما.

هذا کلّه لو قلنا: إنّ نقیض کلّ شی ء رفعه(2).

و إن قلنا: إنّ نقیض کلّ شی ء رفعه، أو المرفوع به(3)- لعدم قیام الدلیل علی الأوّل- فالصلاة- حینئذٍ- نقیض للترک الواجب علی کلا القولین؛ لأنّها ممّا یرفع به الواجب، و هو ترک الصلاة، فلا فرق بین القولین حینئذٍ- أیضاً- و ذلک لأنّ الصلاة کما أنّها نقیض للواجب بهذا المعنی علی القول بوجوب مطلق المقدّمة، کذلک هی نقیض له علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة، لا أنّها من مقارناته.

و توهّم: أنّها من مقارنات النقیض علی مذهب صاحب الفصول؛ باعتبار أنّه قد یتحقّق النقیض بدونها، فلیس بصحیح؛ لأجل أنّ عدم کونها نقیضاً له إنّما هو باعتبار سلب الموضوع، ففی صورة عدم الإتیان بها فهی لیست موجودة حتّی تکون نقیضاً، و إلّا فهی مع وجودها نقیض لازم للترک الخاصّ الواجب.


1- مطارح الأنظار: 72 سطر 7.
2- حاشیة ملا عبد اللَّه: 82، الأسفار 7: 193.
3- شرح المنظومة( المنطق): 60.

ص: 85

و بالجملة: ما ذکروه ثمرةً للقول بالمقدّمة الموصلة غیر صحیح.

و قال بعض المحقّقین فی المقام: إنّ المراد بالمقدّمة الموصلة هی العلّة التامّة، فهی تنحلّ إلی ذات العلّة و الإرادة، أو المقدّمة التی لا ینفک وجودها عن وجود ذی المقدّمة، و هی- أیضاً- تنحلّ إلی ذاتٍ و قیدِ عدمِ الانفکاک، و علی أیّ تقدیر فإرادة المولی متعلّقة بمجموع المقدّمة المرکّبة من الجزءین، و نقیض ذلک المجموع هو مجموع نقیض کلّ واحد من الجزءین، و هو المنهیّ عنه المحرّم، فالواجب- فیما نحن فیه- مقدّمةً هو مجموع ترک الصلاة مع الإرادة أو عدم الانفکاک، فنقیض ترک الصلاة هو الصلاة، و نقیض الإرادة أو عدم الانفکاک عدمهما، فمجموع الصلاة مع عدم الإرادة أو الانفکاک هو المنهیّ عنه المحرّم، فالصلاة منهیّ عنها، فتصیر فاسدة؛ لأنّه مع الإتیان بالصلاة یتحقّق الجزء الآخر للنقیض، و هو عدم الإرادة أو عدم عدم الانفکاک لا محالة؛ بناءً علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة.

و بالجملة: أنّ صاحب الکفایة زعم: أنّ نقیض المرکّب واحد، و هو رفعه، و أنّ الصلاة من مقارناته، فلا تصیر محرّمة، لکنّه لیس کذلک، فإنّ نقیض المرکّب هو المرکّب من نقیض کلّ واحد من أجزائه. انتهی ملخّص کلامه(1).

و قال المحقّق العراقی قدس سره مثل قوله، و زاد ما ملخّصه: أنّ اللازم من تعدُّد النقیض للواجب المتعدّد، هو مبغوضیّة أوّل نقیض یتحقّق فی الخارج؛ لأنّه بوجود یتحقّق عصیان الأمر، فیسقط، فلا یبقی موضوع لمبغوضیّة غیره؛ لعدم الأمر علی الفرض، فأوّل نقیض یتحقّق فی الخارج هو فعل الصلاة، فتصیر مبغوضة؛ لصیرورتها نقیضاً لترک الصلاة الموصل، و إذا کان الآتی بالصلاة غیر مُرید للإزالة علی تقدیر عدم الإتیان بالصلاة، فعدم إرادة الإزالة هو المبغوض، و لا تصل النوبة إلی مبغوضیّة


1- نهایة الدرایة 1: 210.

ص: 86

الصلاة؛ لسقوط الأمر الغیری بعصیانه بترک الإرادة(1).

أقول: الکلام هنا إمّا فی مقام الثبوت و الواقع، و إمّا فی متعلّق الإرادة:

أمّا الأوّل: فمجموع المرکّب من أمرین أو أکثر لیس من الموجودات التکوینیّة سوی وجود الأجزاء، فإنّ مجموع زید و عمرو لیس أمراً متحقّقاً غیر وجودهما، بل المجموع أمر اعتباری، و حینئذٍ فنقیض ذلک- أیضاً- کذلک، فنقیض زید عدمه، و نقیض عمرو کذلک، و لیس مجموعهما أمراً ثالثاً غیر کلّ واحد، لا مجموع النقیضین.

هذا کلّه فی مقام الثبوت.

و أمّا إذا لاحظنا متعلّق الإرادة- بناءً علی القول بالمقدّمة الموصلة- فإرادة المولی تعلّقت بمجموع ترک الصلاة مع إرادة الإزالة- مثلًا- باعتبارهما شیئاً واحداً و استراح المحقّق العراقی قدس سره منه؛ حیث ذهب إلی أنّ وحدة الموضوع و تعدّده إنّما هو بوحدة الحکم و تعدّده، و لکن قد تقدّم: أنّ هذا فاسد، فإنّ المرید لمجموعٍ مرکّب من أجزاء یلاحظه و یعتبره شیئاً واحداً أوّلًا، ثمّ یبعث نحوه، فیکون متعلّق البعث واحداً اعتباراً قبل تعلّق الحکم به، و علی أیّ تقدیر فالمراد و المبعوث إلیه شی ء واحد اعتباری، و نقیضه- أیضاً- أمر اعتباری متعلَّق للإرادة الأکیدة، و هو مجموع نقیض الجزءین، و هو عدم ذلک الأمر الاعتباری، و حینئذٍ فإن قلنا:- إنّه یکفی فی فساد الصلاة انطباق العنوان المحرّم بنحوٍ ما و إن لم یکن المنطبق متّحداً مع المنطبق علیه ذاتاً و حقیقةً- تصیر الصلاة محرّمة بناءً علی القول بالمقدّمة الموصلة أیضاً.

و إن قلنا بأنّه لا یکفی فی الفساد ذلک، بل لا بدّ فیه من اتّحادها مع عنوان المحرّم حقیقةً، فلا تصیر باطلة.


1- بدائع الأفکار( تقریرات المحقّق العراقی) 1: 395- 396.

ص: 87

المبحث السادس فی الواجب الأصلی و التبعی
اشارة

قد یقسّم الواجب إلی الأصلیّ و التبعیّ، و اختلفوا فی أنّ هذا التقسیم هل هو بلحاظ الواقع و فی مقام الثبوت، أو فی مقام الإثبات و الدلالة؛ أی ظاهر الأدلّة؟

فذهب صاحب الفصول إلی الثانی؛ حیث قال: ینقسم الواجب إلی أصلیّ و تبعیّ، و الأصلیّ ما فُهم وجوبه من خطاب مُستقلّ؛ أی غیر لازم لخطاب آخر و إن کان وجوبه تابعاً لوجوب آخر، و التبعیّ بخلافه، و هو ما فُهم وجوبه لا بخطاب مستقلّ، بل لازم خطاب آخر؛ أی ما فهم وجوبه تبعاً لخطاب آخر و إن کان وجوبه مستقلّاً، و المراد بالخطاب هنا ما دلّ علی الحکم الشرعی، فیعمّ اللفظی و غیره(1).

یعنی یشمل الدلالة الالتزامیّة أیضاً، فدلالة الإشارة داخلة فی القسم الثانی مثل دلالة الآیتین، و هما قوله تعالی: «وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً»(2) و قوله تعالی: «وَ الْوالِداتُ یُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَیْنِ کامِلَیْنِ»(3) علی أنّ أقلّ الحمل ستّة أشهر.

و هذا التقسیم الذی ذکره تقسیم معقول لکنّه لا ینتج نتیجة.

و قال فی «الکفایة»: إنّ هذا التقسیم إنّما هو بلحاظ الأصلیّة و التبعیّة فی مقام الثبوت و الواقع؛ حیث إنّ الشی ء إمّا متعلَّق للإرادة و الطلب مستقلّاً؛ للالتفات إلیه بما


1- الفصول الغرویّة: 82 سطر 6.
2- الاحقاف: 15.
3- البقرة: 233.

ص: 88

هو علیه ممّا یوجب طلبه، فیطلبه نفسیّاً أو غیریّاً، و إمّا متعلّق لهما تبعاً للإرادة الاخری الملازمة للُاولی، من دون التفات إلی ما یوجب إرادته، لا بلحاظ الأصالة و التبعیّة فی مقام الدلالة و الإثبات(1).

و فیه: أنّ هذا التقسیم غیر سدید، فإنّ المناسب- حینئذٍ- أن یقول: إمّا أن یکون الشی ء مُلتفتاً إلیه بالنسبة للمولی المرید مفصّلًا، فهو الأصلیّ، أو لا کذلک، فهو التبعیّ.

و لذا عدل عنه بعض الأعاظم من المحشّین و ذهب إلی أنّ هذا التقسیم إنّما هو فی مقام الإثبات و الدلالة، و قال: إنّه لمّا کانت إرادة ذی المقدّمة علّة لإرادة المقدّمة و فاعلیّة الفاعل یترشّح و ینشأ منها إرادة المقدّمة؛ باعتبار أنّ إرادة ذی المقدّمة علّة لإرادة المقدّمة فوجوب المقدّمة غیریّ، و وجوب ذیها نفسیّ، و باعتبار أنّ وجوب المقدّمة ترشّحیّ و ناشٍ من إرادة ذی المقدّمة، فوجوب المقدّمة تبعیّ، و وجوب ذیها أصلیّ(2).

و فیه: أنّه قد مرّ مراراً: أنّه لا معنی لترشّح إرادة من إرادة اخری، بل کلّ واحدة منها مستقلّة مغایرة للُاخری، و لیست إحداهما علّة للُاخری، بل الفاعل للإرادة هو النفس فی إرادة المقدّمة وذی المقدّمة کلیهما، و أنّ إرادة ذی المقدّمة ناشئة عن الاشتیاق إلیه، و تتبعه إرادة المقدّمة، و لو کانت إرادة ذی المقدّمة علّة لإرادة المقدّمة للزم وجوب شی ءٍ یعتقد المرید أنّه مقدّمة، مع أنّه لیس بمقدّمة واقعاً و فی علم المکلَّف؛ لوجود العلّة، و هی إرادة ذی المقدّمة.

فالحقّ هو ما ذکره صاحب الفصول قدس سره فی مقام التقسیم، و أنّ هذا التقسیم إنّما


1- انظر کفایة الاصول: 152.
2- انظر نهایة الدّرایة 1: 212 سطر 1.

ص: 89

هو فی مقام الإثبات و الدلالة(1).

خاتمة: فی الأصل عند الشکّ فی الأصالة و التبعیّة

لو شکّ فی واجب أنّه أصلی أو تبعیّ، فهل هنا أصل یعتمد علیه أو لا؟

قال فی «الکفایة»: إن قلنا: إنّ الواجب التبعیّ: هو ما لم یتعلّق به إرادة مستقلّة، فلو شکّ فی واجب أنّه أصلیّ أو تبعیّ فبأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة به یثبت أنّه تبعیّ، و یترتّب علیه آثاره؛ إذا فرض ترتّب آثار شرعیّة علیه، کسائر الموضوعات المتقوّمة بأُمور عدمیّة.

و إن قلنا: إنّ التبعیّ أمر وجودیّ خاصّ غیر متقوّم بأمر عدمیّ و إن استلزمه، لا یثبت بها إلّا علی القول بالأصل المثبت(2). انتهی.

و قال الشیخ المحقّق محمّد حسین الاصفهانی فی الحاشیة: إن قلنا: إنّ المناط فی الواجب التبعیّ عدمُ تفصیلیّة القصد و إرادته تفصیلًا، فالتبعیّة موافقة للأصل؛ للشکّ فی أنّ الإرادة فی المشکوک ملتفَت إلیها تفصیلًا أو لا، و الأصل عدمه.

و إن قلنا: إنّ المناط فیه نَشوُ الإرادة و ترشُّحها من إرادة اخری، فالأصلیّة موافقة للأصل؛ إذ الترشُّح من إرادة اخری و نشوُّها منها أمر وجودی مسبوق بالعدم، و لیس الاستقلال فی الإرادة علی هذا أمراً وجودیّاً، بل هو عدم نشوّها عن إرادة اخری، بخلاف الاستقلال من حیث توجّه الالتفات إلیها، فإنّه أمر وجودیّ کما عرفت. انتهی محصّل کلامه قدس سره(3).


1- الفصول الغرویّة: 82 سطر 6.
2- کفایة الاصول: 153.
3- نهایة الدّرایة 1: 212 سطر 11.

ص: 90

أقول: ما ذکره فی «الکفایة»: من أنّ الواجب التبعیّ هو ما لم یتعلّق به إرادة مستقلّة، و ما ذکره فی الحاشیة: من أنّ المناط فی التبعیّة عدم تفصیلیّة القصد و الإرادة بشی ء؛ أی عدمها بنحو السالبة البسیطة المحصَّلة؛ أی الإرادة التی لم تکن مستقلّة أو مفصّلة، فإنّه یمکن صدق السلب المحصّل بانتفاء الموضوع- أیضاً- فلا یصحّ الاستصحاب المذکور؛ لاحتمال انتفاء الموضوع فی صدق السلب.

و إن أراد بنحو المعدولة المحمول؛ أی الإرادة الغیر المستقلة أو الغیر المفصّلة فی القصد، فإنّها و إن احتاجت إلی وجود الموضوع؛ لأنّها موجبة، لکن لم تتحقّق الإرادة متّصفة بعدم هذا القید و الوصف العدمی فی الأزمنة السابقة کی تستصحب، کما لا یخفی.

المبحث السابع فی ثمرة بحث مقدّمة الواجب
اشارة

ثمّ إنّهم ذکروا للبحث عن ثبوت الملازمة بین وجوب المقدّمة و وجوب ذیها ثمرةً: و هی أنّه إذا ثبتت الملازمة بین الوجوبین، و ثبت وجوب المقدّمة، یقع ذلک کُبری للصُّغریات الوجدانیّة، فیقال- مثلًا-: هذه مقدّمة للواجب، و مقدّمة الواجب واجبة، ینتج أنّ هذه واجبة. و لیس المناط فی المسألة الاصولیّة إلّا وقوع نتیجتها فی طریق استنباط حکم فرعی(1).

و أورد علی ذلک: بأنّ القائل بعدم الملازمة- أیضاً- قائل بلابُدّیّة الإتیان بالمقدّمة و وجوبها عقلًا فلا یصلح ما ذکر ثمرة للبحث(2).


1- بدائع الأفکار 1: 396- 397( تقریرات العراقی)، کفایة الاصول: 153- 154.
2- انظر ما قرّره فی بدائع الأفکار( تقریرات المحقق العراقی) 1: 397.

ص: 91

و قال المحقّق العراقی قدس سره فی التفصّی عن هذا الایراد بما حاصله: إنّه یمکن أن تُضمّ هذه النتیجة إلی کُبریات اخری، فیثمر، فإنّه إذا قلنا بثبوت الملازمة أمکن الاتیان بالمقدّمة بقصد أمرها الغیری، فتتحقّق القربة بها، کما کانت تتحقّق إذا قصد بها امتثال أمر ذی المقدّمة، فتتحقّق التوسعة فی التقرّب، بخلاف ما إذا قلنا بعدم ثبوت الملازمة، فإنّه لا یتحقّق التقرّب- حینئذٍ- إلّا بالإتیان بالمقدّمة بقصد امتثال أمر ذیها.

و بالجملة: لو قلنا بالملازمة إذا أتی المکلّف بالمقدّمة بقصد أمرها الغیری تتحقّق عبادیّتها، و یتقرّب بها إلی اللَّه تعالی، بخلاف ما إذا لم نقل بها.

و تظهر- أیضاً- فیما إذا أتی المکلّف بالمقدّمات بدون ذیها، فإنّه یستحقّ الاجرة هنا علی القول بالملازمة، بخلاف ما لو قلنا بعدمها، فإنّه لا یستحقّ بالمقدّمات شیئاً.

انتهی محصّل کلامه علی ما فی التقریرات(1).

و یرد علی ما ذکره أوّلًا:

أوّلًا: أنّه قد مرّ مراراً: أنّ الأمر لا یدعو إلّا إلی متعلّقه، و حینئذٍ فالأمر المتعلّق بذی المقدّمة لا یعقل دعوته للعبد نحو الإتیان بالمقدّمات، و عرفت أنّ الإتیان بالمقدّمات إنّما هو للتوصُّل بها إلی امتثال أمر ذی المقدّمة، فلا یتحقّق به القربة حینئذٍ، و لا یتحقّق به عبادیّتها.

و ثانیاً: قد عرفت أنّه لا داعویّة و لا محرّکیّة للأمر الغیری، و لا یُعدّ امتثاله إطاعة، و لا ترکه مخالفة، بل الداعی إلی إیجاد المقدّمات هو حکم العقل بلزوم تحصیلها؛ لأجل توقّف ذی المقدّمة علیها.

و یرد علی ما ذکره ثانیاً:

أوّلًا: أنّ هذا الفرض مخالف لما اختاره من وجوب الحصّة من المقدّمات


1- بدائع الأفکار( تقریرات المحقق العراقی) 1: 397- 398.

ص: 92

الملازمة للإیصال؛ لأنّ المقدّمة الواجبة- حینئذٍ- ملازمة لوجود ذی المقدّمة، و لا ینفکّ عنها؛ کی یقال باستحقاق الاجرة بإتیان المقدّمات بدون ذی المقدّمة.

و ثانیاً: قد عرفت أنّ امتثال الأوامر الغیریّة لا یُعدّ إطاعة، و لا ترکه مخالفة؛ کی یستحقّ الاجرة بامتثالها، فلا یندفع الإشکال بما ذکره.

فتلخّص: أنّه لا یترتّب علی المسألة ثمرة.

المبحث الثامن فی الأصل عند الشّک فی الملازمة

ثمّ لو شکّ فی ثبوت الملازمة و عدمه، فهل یوجد فی المقام أصل موضوعی أو حکمی یرجع إلیه أو لا؟

فأقول: یظهر من المحقّق العراقی قدس سره و کذا صاحب الکفایة رحمه الله: أنّه لا أصل موضوعی فی المقام یرجع إلیه؛ لأنّ الملازمة و عدمها أزلیّة؛ لأنّها من لوازم الماهیّة؛ أی ماهیّة وجوب المقدّمة و وجوب ذیها، و أنّ لازم الماهیّة عبارة عمّا هو لازم لها مع قطع النظر عن الوجود الذهنی و الخارجی، کالزوجیّة لماهیّة الأربعة(1).

أقول: لکنّه لیس کذلک، فإنّ ثبوت الزوجیّة للأربعة لا معنی له إلّا أنّ الأربعة بحیث إذا لوحظت مع الزوجیّة، یجزم العقل بأنّها لازمة لها؛ أی لماهیّتها بدون دخالة الوجود الذهنی أو الخارجی فی ثبوتها لها، لکن هذا اللحاظ هو وجود ذهنیّ للأربعة بحسب الواقع و نفس الأمر و إن لا یستشعر اللاحظ بذلک حین اللحاظ و لا یلتفت


1- بدائع الأفکار( تقریرات المحقّق العراقی 1: 398، کفایة الاصول: 155.

ص: 93

إلیه.

و الحاصل: أنّ الوجودین و إن لم یکونا دخیلین فی ثبوت اللازم للماهیّة، لکنّهما لا ینفکان عن نحو وجود لها.

و علی أیّ تقدیر فالاستصحاب الموضوعی- أی استصحاب عدم الملازمة- غیر جارٍ؛ لأنّ عدم الملازمة لوجوب المقدّمة، إمّا بنحو السلب المحصل، أو بنحو سلب الحمل، کأن یقال: وجوب المقدّمة لم یکن لازماً لوجوب ذی المقدّمة، أو وجوب المقدّمة الذی لم یکن لازماً:

فعلی الأوّل فحیث إنّ السالبة یمکن صدقها بانتفاء الموضوع لم یجرِ الاستصحاب.

و علی الثانی لم یتحقّق عدم وجوب المقدّمة فی زمانٍ مع اتّصافه بعدم لزومه لوجوب ذی المقدّمة کی یستصحب.

مُضافاً إلی أنّه یعتبر فی الاستصحابات الموضوعیّة ترتُّب أثر شرعیّ علیه، و لیس فی المقام ذلک الأثر الشرعی العملی، فإنّ القائل بعدم الملازمة- أیضاً قائل بوجوب المقدّمة عقلًا و لو مع القطع بعدم الملازمة، فضلًا عن استصحابه.

و أمّا الاستصحاب الحکمی- أی استصحاب عدم الوجوب- فهو و إن کان مسبوقاً بالعدم و لو قبل وجوب ذی المقدّمة، لکن لا أثر عملی یترتّب علی هذا الاستصحاب؛ لما عرفت من أنّ القائل بعدم الملازمة- أیضاً- قائل بوجوب المقدّمة عقلًا.

فتلخّص: أنّه لا أصل موضوعی أو حکمی عند الشکّ فی وجوب المقدّمة.

و أمّا توهّم: أنّ الاستصحاب الحکمی یستلزم التفکیک بین الوجوبین(1)،


1- کفایة الاصول: 156.

ص: 94

فمدفوع: بأنّ المفروض أنّ الملازمة مشکوکة، فکیف یتوهّم استلزامه لذلک؟!

و أجاب عنه فی «الکفایة»: بأنّ الاستصحاب إنّما یستلزم التفکیک بین الوجوبین الفعلیّین- لو کان هو المدّعی- لا الوجوبین الواقعیّین(1).

و فیه: أنّک قد عرفت أنّ المفروض أنّ الملازمة مشکوکة، و لیست ثابتة، و معه لا وقع لهذا الجواب.

مع أنّه لو فرض جریان الاستصحاب فالملازمة شأنیّة علی فرض ثبوتها واقعاً، کما حُقّق ذلک فی مقام الجمع بین الحکم الظاهری و الواقعی.

و الحاصل: أنّه لو تمّ أرکان الاستصحاب فلا مانع من جریانه باحتمال عدم إمکانه واقعاً، و إلّا یلزم عدم جریانه فی کثیر من موارده لمکان هذا الاحتمال فیها.

المبحث التاسع فی أدلّة وجوب المقدّمة
اشارة

إذا عرفت ذلک نقول: یمکن تصویر النزاع فی هذه المسألة بصور:

إحداها: أن یُعنون البحث هکذا: هل البعث إلی ذی المقدّمة عین البعث إلی المقدّمة أو لا؟

الثانیة: هل یتولّد و یترشّح من وجوب ذی المقدّمة وجوب متعلّق بالمقدّمة؟

و بعبارة اخری: هل البعث إلی ذی المقدّمة علّة لبعث آخر متعلّق بالمقدّمة أو لا؟


1- نفس المصدر: 156.

ص: 95

الثالثة: أن یقال: هل المقدّمة واجبة؛ بمعنی أنّ المولی لو التفت إلیها بعث إلیها؟

الرابعة: أن یقال: إرادة ذی المقدّمة هل هی علّة لإرادة المقدّمة؛ بحیث تترشّح منها هذه بنحو لازم الماهیّة أو لا؟

الخامسة: أنّ المرید لذی المقدّمة هل هو مرید للمقدّمة أو لا؟

هذه هی الوجوه المتصوّرة فی المقام لعنوان البحث.

فنقول: الأقوال فی المسألة مختلفة، و العمدة هو القول بوجوبها مطلقاً(1) فی قبال القول بعدم وجوبها کذلک(2).

و أمّا التفصیل بین السبب و غیره(3)، أو الشرط و غیره(4)، فلیس بمهمّ، فلا بأس بالإشارة إلی بعض الاستدلالات التی ذکروها لوجوب المقدّمة:

فاستدلّ فی «الکفایة»: بأنّ الوجدان أقوی شاهد علی أنّ الإنسان لو أراد شیئاً له مقدّمات أراد تلک المقدّمات- أیضاً- بحیث لو التفت إلیها ربما یجعلها فی قالب الطلب، و یقول مولویّاً: «ادخلِ السوقَ و اشترِ اللحم» .. إلی أن قال:

و یُؤیِّد الوجدانَ- بل و یکون من أوضح البرهان- وجودُ الأوامر الغیریّة فی الشرعیّات و العرفیّات؛ لوضوح أنّه لا یکاد یتعلّق بمقدّمةٍ أمرٌ غیریّ إلّا أن یکون فیها مناطه و ملاکه، و إذا کان فیها کان فی مثلها(5).

و قال المحقّق العراقی ما حاصله: إنّ الإرادة التشریعیّة علی وِزان الإرادة التکوینیّة، ففی الإرادة التکوینیّة و الفاعلیّة من یرید شیئاً یرید ما یتوقّف حصول ذلک


1- هدایة المسترشدین: 198.
2- نفس المصدر.
3- معالم الدین: 61.
4- شرح مختصر الاصول للعضدی: 91.
5- انظر کفایة الاصول: 156.

ص: 96

الشی ء علیه أیضاً، فالإرادة التشریعیّة- أیضاً- کذلک، و لا یمکن إرادة ذی المقدّمة بدون إرادة المقدّمات فی الإرادة المباشریّة التکوینیّة، فالإرادة التشریعیّة کذلک، فثبت أنّ إرادة ذی المقدّمة مستلزمة لإرادة المقدّمة(1).

أقول: أمّا الإحالة علی الوجدان فهو مجرّد دعوی لا شاهد علیها، فیمکن أن یدّعی آخر حکم الوجدان علی خلافه.

و أمّا الاستشهاد بوقوع ذلک فی الشرعیّات و العرفیّات مولویّاً، فهو ممنوع.

و أمّا ما یتراءی فی بعض الموارد من وقوع البعث إلی المقدّمات فی الشریعة المقدّسة أو فی العرفیّات، فهو أمر إرشادی، أو لأجل مصلحة اخری، أو کنایة أو تأکید للبعث إلی ذی المقدّمة، و إلّا فمن البدیهیّات أنّه کثیراً ما یبعث المولی عبده إلی ذی المقدّمة مع الغفلة عن مقدّماته، فضلًا عن البعث إلیها، فإن دعوی أنّ البعث إلی ذی المقدّمة هی عین البعث إلی المقدّمة، غیر معقولة؛ فإنّ الأمر بذی المقدّمة لا یدلّ علی ذلک لا بمادّته و لا بهیئته.

و کذلک لا شاهد لدعوی الوجوب التقدیری؛ بمعنی أنّه لو التفت إلیها لبعث نحوها، و کذا لا معنی لتولّد إرادة من إرادة اخری و ترشّحها منها.

و أمّا دعوی أنّ الإرادة التشریعیّة علی وِزان الإرادة التکوینیّة- إلی آخر ما ذکره المحقّق العراقی قدس سره- فهی- أیضاً- مجرّد دعوی لا شاهد علیها و لا برهان، بل البرهان علی خلافها؛ لأنّک بعد ما عرفت أنّه لا معنی لتولّد إرادة عن اخری تعرف أنّ القیاس باطل؛ لأنّ العقل یحکم بأنّ من یرید شیئاً یرید مقدّماته بإرادة مستقلّة؛ لأنّ لکلّ واحد من الإرادتین مبادی علی حدة من التصوّر و التصدیق بالفائدة بلا فرق بینهما أصلًا، و أمّا المولی فیرید البعث إلی ذی المقدّمة لوجود مبادیه فی نفسه، و لا یرید


1- بدائع الأفکار( تقریرات المحقّق العراقی) 1: 399.

ص: 97

البعث إلی المقدّمات لعدم وجود مبادیها فی نفسه، بل هی موجودة فی نفس العبد، و معه لا فائدة للبعث نحو المقدّمة.

و استدلّ أبو الحسین البصری لوجوب المقدّمة: بأنّها لو لم تجب لجاز ترکها، و حینئذٍ فإن بقی الواجب علی وجوبه یلزم التکلیف بما لا یطاق، و إلّا خرج الواجب عن کونه واجباً(1).

و اورد علیه:

أوّلًا: بالنقض بالمتلازمین فی الوجود اللذینِ فی أحدهما ملاک الوجوب دون الآخر، فالأوّل واجب، فنقول:

لا یخلو إمّا أن یجب الآخر- أیضاً- أو لا، فعلی الأوّل یلزم وجوب الشی ء بلا ملاک، و إلّا لزم خروج الواجب عن کونه واجباً؛ لأنّ المفروض أنّهما متلازمان فی الوجود لا یمکن انفکاکهما، فما هو الجواب عن هذا هو الجواب عمّا ذکره.

و ثانیاً: بالحلّ- کما فی «الکفایة»(2)- بعد إصلاح ظاهر الاستدلال: بإرادة عدم المنع الشرعی من جواز الترک، و إلّا فالشرطیّة الاولی واضحة الفساد، و بإرادة الترک من الظرف- و هو قوله: «و حینئذٍ»- و إلّا فالشرطیّة الثانیة واضحة الفساد؛ بأنّ الترک بمجرّد عدم المنع شرعاً لا یوجب صدق الشرطیّة الثانیة حینئذٍ، و لا یلزم منه أحد المحذورین، فإنّه و إن لم یبقَ وجوب معه، إلّا أنّه بالعصیان المستتبع للعقاب؛ لتمکّنه من الإطاعة بالإتیان به مع مقدّماته، و قد اختار ترکه بترک مقدّماته بسوء اختیاره، مع حکم العقل بلزوم الإتیان بالمقدّمات لیتمکّن من ذی المقدّمة؛ إرشاداً إلی ما فی


1- انظر المعتمد 1: 95.
2- کفایة الاصول: 157.

ص: 98

ترکها- الموجب لترک ذی المقدّمة- من العصیان و العقاب(1).

فتلخّص: أنّه لا دلیل علی الملازمة مطلقاً یعتدّ به.

و أمّا التفصیل بین السبب و غیره(2) فلا کلام فیه یعتمد علیه.

و أمّا التفصیل بین الشرط العقلیّ و العادیّ و بین الشرعیّ بثبوت الملازمة فی الثانی دون الأوّل، فلأجل أنّ العقل و العادة یقضیان بوجوب الأوّلین، فلا احتیاج فیهما إلی الوجوب الشرعیّ، بخلاف الشرط الشرعیّ، فإنّه لو لا وجوبه شرعاً لما کان شرطاً؛ حیث إنّه لیس ممّا لا بدّ منه عقلًا أو عادةً(3).

و فیه أوّلًا: أنّه إن ارید أنّ شرطیّة الثالث تتوقّف علی تعلّق الأمر به فی مقام الثبوت و نفس الأمر، ففساده واضح فإنّ الأحکام تابعة للمصالح و المفاسد الواقعیّتین، و لا دخل للأمر فیها، بل تعلّق الأمر بالشرط موقوف علی شرطیّته واقعاً، فلو توقّفت شرطیّته علی تعلّق الأمر به لزم الدور.

و إن ارید أنّ الاحتیاج فی الشرط الشرعیّ إلی الأمر، إنّما هو لأجل کشفه عن شرطیّته الواقعیّة، فإن ارید أنّ الکاشف عنها أمر مستقلّ فهو مسلّم، لکنّه خارج عن مسألة المقدّمة؛ لأنّ النزاع إنّما هو فی وجوبها الغیری، لا الوجوب المستقلّ.

و إن ارید أنّ الکاشف أمر غیریّ و بعث مسبَّب عن البعث إلی ذی المقدّمة، أو إرادة مترشّحة عن إرادة ذی المقدّمة، فلا یمکن کاشفیّة الأمر الغیریّ عن شرطیّة شی ء واقعاً؛ و ذلک لأنّ الملازمة علی تقدیر ثبوتها فیما إذا علم بمقدّمیّة شی ء بالوجدان، کنصب السلّم، فیقال: إنّه واجب؛ لأنّه مقدّمة للکون علی السطح، و أمّا إذا لم یعلم


1- کفایة الاصول: 157- 158.
2- انظر المعالم: 57.
3- بدائع الأفکار( للمحقق الرشتی): 355 سطر 15.

ص: 99

بمقدّمیّة شی ء فلا، کما إذا لم یعلم بشرطیّة الوضوء للصلاة، فلا یکشف عن شرطیّته الأمرُ الغیری المترشّح عن الأمر بالصلاة، و هو واضح، و إذا فُرض تعلُّق الأمر بالصلاة المتقیِّدة بالوضوء، یصیر الوضوء شرطاً عقلیّاً، یحکم العقل بلزوم الإتیان به.

المبحث العاشر الملازمة بین حرمة الشی ء و حرمة مقدّماته

ثمّ لو فرض ثبوت الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة و بین وجوب المقدّمة، فهل تثبت بین حرمة الشی ء و حرمة مقدّماته، فتحرم مقدّمة الحرام مطلقاً، أو التفصیل- کما اختاره فی «الکفایة»- بین المقدّمة التی یترتّب علیها الحرام بدون توسیط إرادة بینهما، کالأفعال التولیدیّة مثل الإحراق و نحوه، و بین المقدّمة التی یبقی معها الاختیار للمکلّف فی ارتکاب الحرام و عدمه بتوسّط الإرادة بینهما فقط، و الإرادة و إن استلزمت صدور الفعل، لکن لا یتعلّق بها حکم؟

ففی الصورة الاولی: یترشّح من طلب ترک الحرام طلب ترک مقدّمته، دون الصورة الثانیة، فلا یترشّح من الزجر عن شی ء الزجرُ عن مقدّماته(1).

و فیه: أنّ ما ذکره من حرمة المقدّمة فی الصورة الاولی مسلّم، لکن لا أظنّ أن یوجد للشِّقّ الثانی مثال، فإنّ تحریک العضلات و الالتقام و مضغ الطعام و البلغ فی أکل الحرام من المقدّمات التی یُتوسّط الإرادة فیها بین الإرادة و الأکل و الشرب، فیمکن أن لا یرتکب الحرام و لو بعد إرادته، فلا یوجد فعل یوجده الشخص بإرادته فقط، إلّا أن


1- کفایة الاصول: 159- 160.

ص: 100

یکون عارفاً فإنّ العارف یخلق بهمّته.

و قال فی «الدرر»: إنّ العناوین المحرّمة علی ضربین:

أحدهما: أن یکون العنوان بما هو مبغوضاً من دون تقیید بالاختیار و عدمه من حیث المبغوضیّة، و إن کان له دخل فی استحقاق العقاب إذ لا عقاب إلّا علی الفعل الصادر باختیار الفاعل.

الثانی: أن یکون الفعل الصادر عن إرادة و اختیار مبغوضاً؛ بحیث لو صدر لا عن اختیار لم یکن مبغوضاً و منافیاً لغرض المولی، کالأفعال التولیدیة .. إلی أن قال:

ففی القسم الأوّل: إن کانت العلّة مرکّبة من امور یتّصف المجموع منها بالحرمة، تکون إحدی المقدّمات- لا بشخصها- محرّمة، إلّا إذا أوجد باقی المقدّمات، و انحصر اختیار المکلّف فی واحد معیّن، یجب ترکه معیّناً من باب تعیّن أحد أفراد الواجب التخییریّ بالعَرض، فإنّ ترک أحد الأجزاء واجب علی سبیل التخییر، فإذا وجد الباقی، و انحصر اختیار المکلّف فی واحدة منها معیّنة، یجب ترکها.

و أمّا الثانی:- أعنی ما إذا کان الفعل المقیّد بالإرادة محرّماً، فلا تتّصف الأجزاء الخارجیّة بالحرمة؛ لأنّ العلّة التامّة للحرام هی المجموع المرکّب منها و من الإرادة، و لا یصحّ إسناد الترک إلّا إلی عدم الإرادة؛ لأنّه أسبق مرتبةً من سائر المقدّمات- فقد عُلم ممّا ذکرنا أنّ القول بعدم اتّصاف المقدّمات الخارجیّة للحرام بالحرمة مطلقاً؛ لسبق رتبة الصارف و عدم استناد الترک إلّا إلیه، ممّا لا وجه له، بل ینبغی التفصیل(1). انتهی.

أقول: و یرد علی ما ذکره فی القسم الأوّل: أنّه بعد الإتیان بالأخیرة من المقدّمات، أیضاً یتمکّن المکلّف من ترک الحرام بإرادة عدمه و ترکه کالشرب مثلًا، و الإرادة- أیضاً- لا تتّصف بالوجوب و الحرمة- بناءً علی أنّها غیر اختیاریّة علی ما


1- انظر درر الفوائد: 130- 132.

ص: 101

ذهب إلیه بعضهم- فلا تتّصف واحدة من المقدّمات بالحرمة.

و یرد علی ما ذکره فی القسم الثانی: أنّ الإرادة فی الفرض جزء المبغوض؛ لأنّه قدس سره فرض أنّ الفعل وحده فیه لیس مبغوضاً، بل هو مع الإرادة، فحرمتها لیست لأجل أنّها مقدّمة، بل لأنّها نفس المحرّم.

و لو سلّم ذلک- بتوجیه أنّ التقیّد داخل و القید خارج- یرد علیه ما أوردناه علی ما فی «الکفایة»: من أنّه یتوسّط بین الإرادة و الفعل مقدّمات اخر، کالأخذ بالید و تحریک عضلات الحلق فی الشرب، و لا بدّ فی کلٍّ منها من إرادة مستقلّة، فیتمکّن المکلّف من ترک الفعل مع وجود أصل إرادته أیضاً.

و التحقیق فی المقام: یستدعی تقدیم مقدّمة، و هی: أنّ الحرمة هل هی عبارة عن المبغوضیة، أو أنّها عبارة عن طلب الترک، أو أنّها عبارة عن المنتزع عن الزجر عن الشی ء؟ و الحق هو الأخیر فی قبال الوجوب المنتزع عن الأمر بشی ء و الإغراء نحوه، فکما أنّ الأمر عبارة عن إغراء المکلّف نحو الفعل، کذلک النهی عبارة عن زجره عن الفعل، کإغراء الکلب نحو الصید، أو زجره عنه بالألفاظ المخصوصة، و لیست الحرمة عبارة عن البغض بالنسبة إلی الفعل، فإنّ البغض کالحبّ متقدّم علی الزجر و البعث بمرتبتین؛ تعلُّقهما بالشی ء أوّلًا، ثمّ إرادته أو کراهته، ثمّ یقع الزجر أو البعث، و حینئذٍ فالحرمة لیست عین البغض، کما أنّ الحبّ لیس عین الوجوب؛ لعدم إمکانه، فما یظهر من المحقّق العراقی قدس سره من أنّ الحرمة عبارة عن البغض(1)، غیر صحیح.

إذا عرفت ذلک نقول: بناءً علی ثبوت الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة و بین وجوب المقدّمة، هل هی متحقّقة بین حرمة الشی ء و بین مقدّماته مطلقاً، أو لا مطلقاً، أو التفصیل بین مقدّماتها: بحرمة بعضها المعیّنة، أو الغیر المعیّنة؟ وجوهٌ.


1- بدائع الأفکار( تقریرات العراقی) 1: 403.

ص: 102

و الحقّ: هو عدم حرمتها مطلقاً؛ و إن قلنا بالملازمة بین مقدّمة الواجب و بین ذیها؛ و ذلک لأنّ وجوب المقدّمة علی تقدیره إنّما هو لأجل توقّف ذی المقدّمة علیها، فلو توقّف علی کلّ واحدة منها وجبت کذلک؛ بحیث لو لم یأتِ بواحدة منها لم یتمکّن من فعل ذی المقدّمة، فیمکن اتّصاف جمیعها بالوجوب، بخلاف مقدّمات الحرام، فإنّه لا یتوقّف ترک الحرام علی ترک مقدّماته کلّاً أو بعضاً؛ بحیث لو فرض أنّ المکلّف أتی بجمیع مقدّماته، فهو مع ذلک مختار فی فعل الحرام و ترکه بالإرادة و تحریک عضلات الحلق- مثلًا- فی شرب المحرّم و ازدراده و عدمها، کما لا یخفی، فلا دخل لإیجاد المقدّمات فی اختیار الفعل و عدمه، بخلاف مقدّمة الواجب، فإنّها من حیث توقّف ذو المقدّمة علی کلّ واحدة منها، أمکن اتّصاف کلّ واحدة منها بالوجوب، و هو واضح.

ص: 103

الفصل الثالث عشر فی اقتضاء الأمر بالشی ء للنهی عن ضدّه

اشارة

الأمر بالشی ء هل یقتضی النهی عن ضدّه أو لا؟ و قبل الخوض فی البحث لا بدّ من تقدیم أمرین:

الأمر الأوّل: أنّهم جعلوا هذه المسألة من المسائل الاصولیّة العقلیّة منها لا اللفظیّة(1)؛ لأنّ المناط فی المسألة الاصولیة هو أن تقع نتیجتها کبری القیاس فی استنباط الحکم الشرعیّ الفرعیّ، و هی کذلک، فإنّه لو فرض أنّ الضدّ من العبادات، فبناءً علی إثبات الاقتضاء تصیر العبادة منهیّاً عنها و محرّمة فتفسد، دون ما إذا لم نقل بالاقتضاء.

لکن قد عرفت: أنّه لا فرق بین کثیر من المسائل الاصولیّة و بین البحث عن «الصعید»- مثلًا- فی أنّه موضوع لأیّ شی ءٍ، فی دخله و وقوعه فی طریق الاستنباط، و إنّما ذکروا هذه المسألة و کثیراً من المباحث اللغویة- کالبحث عن دلالة الأمر علی الوجوب، و بحث المرّة و التکرار، و نحوهما- فی الاصول و تعرّضوا لها فیه؛ لکثرة


1- فوائد الاصول 1: 301، نهایة الأفکار 1: 359.

ص: 104

دورانها فی جمیع أبواب الفقه، و الاحتیاج إلیها فیه، و إلّا فهی من المباحث اللغویة، یبحث فیها عمّا هو مدلول اللفظ لغةً و عرفاً لا غیر، و إلّا فلیست هی من المسائل الاصولیّة.

الأمر الثانی: أنّهم ذکروا: أنَّ المُراد بالاقتضاء فی عنوان المسألة لیس هو معناه اللُّغویّ؛ لأنّه لا تأثیر و تأثّر فی المقام، بل المراد به ما هو الأعمّ من العینیّة و الجزئیّة و اللزوم اللفظی؛ من جهة التلازم بین طلب أحد الضدّین و طلب ترک الآخر، أو من جهة المقدّمیّة(1)؛ لیشمل جمیع الوجوه و الأقوال المذکورة فی المسألة.

و فیه ما لا یخفی:

أمّا أوّلًا: فلأنّ ذلک یُنافی عدّهم هذه المسألة من المسائل الاصولیّة العقلیّة، فإنّ دلالة المطابقة- کما هو مُقتضی دعوی العینیّة، و کذلک التضمّن و الالتزام بناءً علی مذهبهم- من الدلالات اللفظیّة، فکیف یمکن التوفیق بین عدّ هذه المسألة من المسائل العقلیّة و بین تفسیر الاقتضاء بهذا المعنی الأعمّ من الدلالات الثلاث؟!

و أمّا ثانیاً: فإطلاق لفظ الاقتضاء بالمعنی المذکور فی عنوان المسألة غلط، و لیس مجازاً؛ لأنّه یعتبر فی المجاز و استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له من المناسبة و العلاقة بینه و بین المعنی الموضوع له، و هی فیه منتفیة، مضافاً إلی أنّه لا جامع بین المعانی المذکورة یُستعمل لفظ الاقتضاء فیه، فالأولی إسقاط لفظ الاقتضاء فی العنوان؛ لعدم الاحتیاج إلیه، بل هو مُخلٌّ بالمقصود، و یقال فی عنوان البحث: الأمر بالشی ء هل یستلزم النهی عن ضدّه أو لا؟ کما سیظهر.

و الاستلزام- أیضاً- إمّا من جهة المقدّمیّة، کما هو العمدة فی المقام، فإنّ الحقّ أنّ هذه المسألة من شُعب مسألة مقدّمة الواجب، و إمّا لأجل التلازم بین إرادة طلب الشی ء و بین إرادة طلب ترکه، أو بین البعث إلی الشی ء و بین الزجر عن ضدّه.


1- انظر کفایة الاصول: 160، و فوائد الاصول 1: 301.

ص: 105

إذا عرفت ذلک نقول: هل الأمر بالشی ء یستلزم النهی عن ضدّه مطلقاً، أو لا یستلزم النهی عن ضدّه مطلقاً، أو التفصیل بین الضدّ العامّ و بین الضدّ الخاصّ؛ بالاستلزام فی الأوّل دون الثانی؟

فهنا مقامان من البحث:

المقام الأوّل: فی الضدّ الخاصّ

: و لا بدّ لمدّعی(1) الاستلزام فیه من إثبات مقدّمات:

الاولی: أنّ ترک أحد الضدّین مقدّمة لفعل الضدّ الآخر.

الثانیة: أنّ مقدّمة الواجب واجبة؛ لیکون ترک أحد الضدّین واجباً.

الثالثة: أنّ الأمر بالشی ء یستلزم النهی عن ضدّه العامّ؛ لیصیر فعل الضدّ- الذی هو ضدّ و نقیض للمأمور به- منهیّاً عنه، و المراد بالضدّ هنا النقیض.

أمّا المقدّمة الاولی فتوضیح الکلام فیها: هو أنّ الشقوق و الاحتمالات المتصوّرة فیها أربعة:

أحدها: أن یقال: إنّ کلّ واحد من عدم أحد الضدّین و وجوده مقدّمة لوجود الآخر و عدمه؛ بمعنی أنّ ترک الصلاة مقدّمة للإزالة- مثلًا- و الإزالة- أیضاً- مقدّمة لترک الصلاة.

و ثانیها: أن یقال: لیس واحد منهما مقدّمة للآخر.

و ثالثها: أن یقال: عدم أحدهما مقدّمة لوجود الآخر دون العکس.

و رابعها: عکس ذلک.

و یظهر من المحقّق صاحب «الکفایة»: أنّه مضافاً إلی أنَّه لیس عدم الضدّ مقدّمة للآخر، أنَّهما مُتقارنان فی الوجود و فی مرتبة واحدة- مثلًا- فإنّ بین عدم أحد


1- کفایة الاصول: قرّره صاحب الکفایة: 161، مبادئ الوصول إلی علم الاصول: 107.

ص: 106

الضدّین و وجود الآخر کمال الملاءمة، من دون أن یکون فی البین ما یقتضی تقدیم أحدهما علی الآخر(1).

أقول: من الواضح أنّ ذلک بمجرّده لا یثبت أنّهما فی مرتبة واحدة، فإنّ بین العلّة و المعلول کمال المُلاءمة، مع أنّها متقدّمة علی المعلول بحسب الرتبة، فلا بدّ من توجیه کلامه قدس سره بأنّ عنوان التقدّم و التقارن و التأخّر، کلّ واحد مع الآخر من الأضداد التی لا رابع لها؛ کی یثبت المقارنة بنفی التقدّم و التأخّر بینهما. فنقول:

قد یُقال فی إثبات أنّ أحد الضدّین فی مرتبة الضدّ الآخر: إنّ المصداق علی قسمین: ذاتیّ حقیقیّ، و عرضیّ مجازیّ، و الأوّل مثل مصداقیّة البیاض للأبیض، و زید للإنسان، و الثانی مثل مصداقیّة الجسم الأبیض للأبیض، و مصداقیّة زید للضاحک، و حینئذٍ فالسواد الخاصّ- مثلًا- مصداق حقیقی للسواد و ذاتیّ له، و هو- أیضاً- مصداق عرضیّ لمفهوم عدم البیاض، فإذا کان شی ء مصداقاً لمفهومین- و إن کان أحدهما مصداقاً حقیقیّاً، و الآخر عرضیّاً- فهذان المفهومان فی رتبة واحدة؛ لا تقدّم و تأخّر لأحدهما علی الآخر، هذا غایة ما یُمکن أن یقال فی المقام.

و لکنّه فاسد؛ و ذلک لأنّ وجود أحد الضدّین لیس مصداقاً عرضیّاً لعدم الآخر، و لو فرض إطلاق عدم البیاض علی السواد فهو مسامحة فی الاستعمال؛ و ذلک لأنّه یعتبر فی مصداقیّة شی ء لمفهوم- و إن کانت عرضیّة- وجودُ خصوصیّة و حیثیّة فی المصداق کامنة فی المفهوم المنطبق علیه، و إلّا لزم مصداقیّة کلّ شی ء لکلّ مفهوم، و لا یعقل أن یکون السواد الخاصّ واجداً لحیثیّة کامنة فی مفهوم عدم البیاض، فإنّ الوجود نقیض العدم، فکیف یمکن أن یکون العدم واجداً لخصوصیّة موجودة فیه؟! فلا یصحّ أن یقال: السواد هو عدم البیاض بنحو الموجبة المعدولة، نعم یصحّ سلب البیاض عن السواد بنحو السالبة المحصّلة، فإنّه سلب للحمل و المصداقیّة.


1- کفایة الاصول: 161.

ص: 107

و ما یقال: إنّ لعدم الملکة و العدم المضاف حظّاً من الوجود(1)، غلطٌ فاحش؛ فإنّ الوجود إنّما هو للملکة، فإنّها عبارة عن الاستعداد، فلها نحوٌ من الوجود، و أمّا العدم فلا حظَّ له فی الوجود أصلًا، و کذا العدم المضاف.

و من هنا یظهر فساد ما یقال: إنّ عدم العلّة علّة للعدم(2)، فإنّه یستلزم إثبات نحو وجود و تقرّر للعدم، و إلّا فلا تأثیر و تأثّر للعدم.

و الحاصل: أنّ أحد الضدّین لیس مصداقاً لعدم الضدّ الآخر و لو عرضیّاً، و لا یکفی الإطلاق المسامحی، فإنّه یصدق أنّ عدم المعلول هو عدم علّته بهذا الإطلاق المسامحی، مع عدم تقارنهما و اختلاف مرتبتهما.

و قال فی «الکفایة»: فکما أنّ قضیّة المنافاة بین المتناقضین لا تقتضی تقدّم ارتفاع أحدهما فی ثبوت الآخر، کذلک فی المتضادّین(3)، انتهی.

و لکن لم یعلم أنّه قدس سره فی هذه العبارة فی مقام إثبات أنّ النقیضین فی رتبة واحدة أو الضدّین، لکن قال بعض المحشّین من تلامذته ما یظهر منه: أنّ النقیضین فی رتبة واحدة؛ حیث إنّه مهّد لذلک مقدّمات:

إحداها: کما أنّه لا بدّ فی المتناقضین من اتّحاد زمانهما لو کانا من الزمانیّات، کذلک لا بدّ من اتّحاد الرتبة فیهما؛ و ذلک لأنّه لو فرض وجود «زید» فی قطعة من الزمان، فنقیضه هو عدمه فی هذه القطعة لا قبلها و لا بعدها؛ لاجتماعهما؛ أی وجوده فی هذه القطعة و عدمه قبلها أو بعدها، و إلّا لزم ارتفاع النقیضین، فإنّ عدمه متحقّق فی الزمان القبلیّ، و إلّا فالمفروض أنّ ظرف وجوده لیس هو الزمان القبلیّ، فلو لم یکن عدمه- أیضاً- فی ذلک الزمان لزم ما ذکرنا من ارتفاع النقیضین، و کذلک إذا کان


1- الأسفار الأربعة 1: 344.
2- ارشاد الطالبین: 164، و انظر الأسفار 1: 351.
3- کفایة الاصول: 161.

ص: 108

لشی ء مرتبة معیّنة کالمعلول، فإنّه فی رتبة متأخّرة عن العلّة، فنقیضه هو عدمه فی تلک المرتبة، لا عدمه فی مرتبة علّته؛ لاجتماعهما، و ذلک لأنّ المفروض أنّه لیس فی مرتبة متقدّمة، و هی مرتبة العلّة، فعدمه متحقّق فی تلک المرتبة المتقدّمة، و إلّا لزم ارتفاع النقیضین.

فثبت من جمیع ذلک: أنّ الشی ء مع نقیضه فی مرتبة واحدة.

الثانیة: الضدّان- أیضاً- فی مرتبة واحدة، کما أنّ زمانیهما واحد؛ و ذلک لأنّ السواد العارض علی موضوع فی زمان، لا یعاند البیاض العارض علی ذلک الموضوع فی زمان آخر قبله أو بعده؛ لاجتماعهما، فالسواد إنّما یعاند البیاض إذا فرض تواردهما علی موضوع واحد فی زمان واحد، فکذلک إن کان للشی ء مرتبة معیّنة من المراتب فضدّه هو ما یعانده فی تلک المرتبة.

الثالثة: هی نتیجة الأوّلتین، و هی أنّه قد ثبت أنّ الضدّین کالسواد و البیاض فی مرتبة واحدة، و ثبت أنّ النقیضین- أیضاً- فی مرتبة واحدة کالسواد و اللاسواد، فالأسود و الأبیض و السواد و البیاض فی مرتبة واحدة بحکم قیاس المساواة، فثبت أنّ أحد الضدّین کالسواد فی مرتبة نقیض الآخر، و هو عدم البیاض، و بالعکس؛ لأنّ السواد مساوٍ فی الرتبة مع البیاض، و البیاض مساوٍ فیها مع عدم البیاض، فالسواد مساوٍ فیها مع عدم البیاض؛ لأنّ مساوی المساوی لشی ء مساوٍ لذلک الشی ء(1). انتهی ملخّصه.

أقول: فی هذه المقدّمات مغالطة وقع فیها:

أمّا الاولی فبیانها أنّه قدس سره توهّم: أنّ نقیض الموجود الزمانی- کزید الموجود فی زمان معیّن- هو عدمه فی ذلک الزمان؛ بتقیید العدم بالزمان بنحو السالبة البسیطة المحصّلة، و العدم غیر قابل لأنْ یقیَّد بقید، فإنّه فرع تحقُّقه، و العدم لا تحقّق له، بل


1- حاشیة الشیخ علی القوچانی علی الکفایة: 112- 115.

ص: 109

نقیض الموجود المقیّد بالزمان هو عدم ذلک المقیّد؛ أی عدم زید الموجود فی ذلک الزمان، فقید الزمان إنّما هو لوجود زید المضاف إلیه للعدم، و کذا نقیض الموجود فی مرتبة هو عدم ذلک الموجود فی تلک المرتبة، فقید الزمان للوجود فیهما لا للعدم، فإنّه غیر قابلٍ للتقیید بالزمان أو بالرتبة، فإنّ التقیید فرع تحقُّق المقیّد، و لا تحقّق للعدم کما عرفت.

و أمّا المغالطة فی المقدّمة الثانیة: هو أنّه قدس سره قاس المرتبة بالزمان، فإنّ المحال هو اجتماع الضدّین فی الخارج، فلا بدّ فی تحقُّق التضادّ بین الشیئین من فرضهما فی زمان واحد، فالسواد العارض علی موضوع فی الخارج لا یُعاند البیاض العارض علیه فی غیر ذلک الزمان، بخلاف المرتبة التی هی فی الذهن، فإنّه لا مانع من اجتماع أمرین فی الذهن معاً مع اختلافهما فی الرتبة.

و أمّا المقدّمة الثالثة: فلم یقم علیها برهان، فإنّ قاعدة قیاس المساواة لیس قاعدة کلّیّة؛ أ لا تری أنّه یصحّ أن یقال: الواحد نصف الاثنین، و الاثنان نصف الأربعة، و لا یصحّ أن یقال: الواحد نصف الأربعة، و إنّما تصحّ فی المقادیر، کالخطّ و نحوه کما لو قیل: «أ» مساوٍ ل «ب»، و «ب» مساوٍ ل «ج»؛ لأنّ مساوی المساوی مساوٍ، و لا یقال: «أ» مباین ل «ب»، و «ب» مباین ل «ج»، ف «أ» مباین ل «ج»؛ لأنّ مباین المباین لشی ء لیس مُبایناً لذلک الشی ء؛ أ لا تری أنّ المعلولَینِ لعلّة واحدة فی مرتبةٍ واحدةٍ، و المعلول لأحدهما متأخّر عنه، و لیس متأخّراً عن الآخر؛ لعدم وجود ملاک التأخّر بالعلّیّة و المعلولیّة، أو التقدّم التقوّمی کتقدّم أجزاء المرکّب علیه، أو التقدُّم الخارجی لانتفاء جمیعها، فالبرهان قائمٌ علی خلاف تلک القاعدة فیما نحن فیه.

فهذه المقدّمات کلّها باطلة، مع کفایة بطلان إحداها فی بطلان دعوی کون أحد الضدّین فی مرتبة عدم الآخر، بل البرهان علی خلافه؛ فإنّه لو قیل: إنّ عدم البیاض فی مرتبة السواد، فقد أثبت هذا القائل للأمر العدمی شیئاً وجودیّاً، و هو أنّه فی مرتبة

ص: 110

واحدة مع غیره، و إثبات شی ء لشی ء فرع ثبوت المثبت له، و الأمر العدمی لا تحقّق له، فلا یمکن إثبات وصف ثبوتیّ له.

و أمّا إشکال الدور فقال فی «الکفایة» ما حاصله: أنّه لو توقّف وجود أحد الضدّین علی عدم الآخر- توقُّف الشی ء علی عدم مانعه-، اقتضی ذلک توقُّف عدمِ الضدّ علی وجود الشی ء توقُّف عدمِ الشی ء علی مانعه، و هو دور محال.

إن قلت: توقّف العدم علی وجود الضدّ شأنیّ لا فعلیّ؛ فإنّه إنّما یتوقّف لو کان المقتضی مع جمیع الشرائط موجوداً سوی عدم مانعه، فإنّه- حینئذٍ- یتوقّف عدم الضدّ علی وجود الضدّ الآخر، و إلّا فیمکن استناد العدم إلی عدم المقتضی و عدم تعلّق الإرادة الأزلیّة به أبداً، و حینئذٍ فلا یلزم محال.

لا یقال: هذا إنّما یصحّ فیما إذا لوحظا مُنتهیین إلی إرادة شخص واحد، و أمّا إذا لم یکن کذلک؛ بأن أراد شخص حرکة شی ء، و أراد الآخر سکونه، فالمقتضی لکلّ واحدٍ منهما موجود، فالعدم- لا محالة- مستند فعلًا إلی وجود الآخر المانع.

لأنّا نقول: العدم هاهنا- أیضاً- مستند إلی عدم قدرة المغلوب فی إرادته، و هی جزء المُقتضی، و ممّا لا بدّ منه فی وجود المراد، فالعدم فیه مستند إلی عدم المقتضی و القدرة، لا إلی وجود الضدّ لمسبوقیّته بعدم القدرة.

قلت: هذا و إن یرفع غائلة الدور، لکن لا یرفع غائلة توقّف الشی ء علی ما یصلح أن یتوقّف علیه، و المنعُ من صلوح العدم لأنْ یتوقّف الوجود علیه- بدعوی أنّ استنادَ العدم إلی وجود الضدّ مع وجود المقتضی للضدّ صحیحٌ؛ أی لو کان المقتضی للوجود موجوداً فالعدم مستند إلی وجود الضدّ، فإنّ هذه القضیّة صادقة، لکن صدق الشرطیّة لا یقتضی صدق طرفیها- مساوقٌ لمنع مانعیّة الضدّ، و هو یوجب رفع التوقّف رأساً.

ثمّ قال: إن قلت: التمانع بین الضدّین کالنار علی المنار و الشمس فی رائعة

ص: 111

النهار، و کذا کون عدم المانع ممّا یتوقّف علیه وجود الشی ء ممّا لا یقبل الإنکار، فلیس ما ذکر إلّا شبهة فی مقابلة البدیهة.

قلت: التمانع بمعنی استحالة اجتماعهما ممّا لا ریب فیه، إلّا أنّه لا یقتضی مقدّمیة عدم أحدهما للآخر، و المانع الذی یکون موقوفاً علی عدمه الوجود هو ما ینافی و یزحم المقتضی فی تأثیره، لا ما یعاند الشی ء و یزاحمه فی وجوده. نعم العلّة التامّة لأحد الضدّین ربّما تکون مانعةً عن الآخر و مزاحمة لمقتضیه فی تأثیره، مثلًا: شدّة الشفقة علی الولد الغریق و کثرة المحبّة له تمنعان من أن تؤثر محبّة الأخ الغریق و الشفقة علیه فی إرادة إنقاذه مع المزاحمة، فینقذ الولد دونه(1). انتهی ملخّصاً.

أقول: لا بدّ من ملاحظة أنّه هل یصدق القول بأنّ العدم موقوف؛ أی هذه القضیّة الموجبة، أو یقال: العدم موقوف علیه، أو أنّ العدم یؤثّر، أو متأثّر، أو غیر ذلک من القضایا الموجبة التی جعل فیها العدم موضوعاً لها؟

لا إشکال فی عدم صحّة هذه القضایا، فإنّه لا بدّ فی القضایا الموجبة من وجود الموضوع؛ لأنّ ثبوت شی ء لشی ء فرع ثبوت المثبت له، و لیس للعدم ثبوت و تحقّق کی یحکم علیه بنحو الإیجاب التحصیلی أو العدولی، ففی الموارد التی ظاهرها إثبات شی ء ثبوتیّ للعدم أو عدمیّ بنحو الموجبة المعدولة المحمول، لا بدّ و أن یرجع إلی السلب المحصّل بانتفاء الموضوع، کما فی قولنا: «شریک الباری ممتنع» فإنّه معناه أنّه لیس بموجود البتّة و السالبة تصدق بانتفاء الموضوع أیضاً، و إلّا فالقضیّة کاذبة. و هذا فی غایة الوضوح.

و ممّا ذکرنا یظهر: أنّ ما ذکره فی «الکفایة»- من أنّ العدم الموقوف علیه هو العدم المزاحم للمقتضی فی تأثیره، لا ما یعاند الشی ء و یزاحمه(2)- غیر صحیح، فإنّ


1- کفایة الاصول: 161- 164.
2- کفایة الاصول: 163.

ص: 112

العدم- کما عرفت- غیر قابلٍ لأنْ یتوقّف علیه الشی ء أبداً فلا یمکن شرطیّة العدم لشی ء أو تأثیره فی شی ء و ما یتراءی من قولهم:- إنّ عدم العلّة علّة العدم(1) أو أنّ عدم المانع شرط- فهو مسامحة فی مقام تعلیم المتعلّم المبتدئ و تقریب المعنی إلی ذهنه، و إلّا فالعدم لیس بشرط، بل الوجود مانع، کما أنّ شدّة فرط المحبّة للولد الغریق مانعة عن تأثیر المحبّة بالنسبة إلی الأخ الغریق فی إنقاذه.

و لا فرق فیما ذکرناه بین العدم المطلق و عدم الملکة و العدم المضاف، فإنّه لیس للعدم حظٌّ من الوجود أصلًا، نعم للملکة نحو من الوجود؛ لما عرفت من أنّها عبارة عن الاستعداد و القابلیّة.

و ممّا ذکرنا یظهر ما فی کلام بعض المحقّقین من المحشّین قدس سره حیث إنّه ذکر بعد بیان أقسام السبق و التقدّم: و أنَّ السبق قد یکون بالتجوهر، کتقدّم أجزاء العلّة المرکّبة و الماهیّة علی أنفسهما، و قد یکون بالرتبة، کتقدّم العلّة علی معلولها و غیر ذلک:

من أن العدم لا یمکن توقّفه علی الوجود؛ لاستحالة تأثیر الموجود فی العدم، فإنّه لیس بشی ء، لکن یمکن أن یتوقّف الموجود علیه، فإنَّ العدم قد یکون مُصحِّحاً لفاعلیّة الفاعل أو القابلیّة القابل، فإنّ عدم الرطوبة مُصحِّحة لقابلیّة المحلّ للتأثیر فی إحراق النار، فیمکن توقّف بیاض المحلّ علی عدم السواد، فإنّه مُصحِّح لقابلیّة المحلّ للابیضاض(2). انتهی مُحصّله.

بیان الإشکال: ما عرفت من أنّ العدم عبارة عن اللاشی ء، فلا یمکن أن یتوقّف علیه الوجود، و هو قدس سره معترف بأنّه لیس بشی ء و لا تأثیر و تأثّر له، فکیف یقول بأنّه یمکن أن یتوقّف الوجود علیه؟! و لا فرق فی ذلک بین توقّفه علی الوجود و توقّف الموجود علیه، و المصحّح لقابلیّة المحلّ للإحراق بالنار لیس هو عدم الرطوبة،


1- انظر کشف المراد: 23، إرشاد الطالبین: 164.
2- نهایة الدِّرایة 1: 220.

ص: 113

بل الرطوبة مانعة عن تأثیر النار.

فظهر: أنّ المقدّمة الاولی غیر تامّة.

و أمّا المقدّمة الثانیة من المقدّمات: و هی أنّ مقدّمة الواجب واجبة، فقد عرفت ما فیها مفصّلًا فی مسألة وجوب المقدّمة.

و أمّا المقدّمة الثالثة: و هی أنّ الأمر بالشی ء مستلزم للنهی عن ضدّه العامّ،

[المقام الثانی فی الضد العام]
اشارة

و هذا هو المقام الثانی. و المراد بالضدّ العامّ هو نقیضه؛ لیترتّب علیه وقوع الصلاة فی مثال الإزالة منهیّاً عنها؛ لأنّها نقیض و ضدّ عامّ لترک الصلاة الواجب مقدّمةً، فنقول:

إن أراد أنّ الأمر بالشی ء عین النهی عن ضدّه العامّ؛ أی أنّ البعث إلی ترک الصلاة عین الزجر عن فعلها، ففیه: أنّ الأمر لا یدلّ علی الزجر لا بهیئته و لا بمادّته، فإنّ هیئة الأمر موضوعة للبعث، و المادّة موضوعة للطبیعة، و شی ء منهما لا یدلّ علی النهی عن الضدّ، و لیس للمجموع منها- أیضاً- وضعٌ علی حِدة، و أیضاً لا یعقل أن یکون الأمر عین النهی.

و إن أراد أنّ الأمر بالشی ء یدلّ بالتضمّن علی النهی عن ضدّه، فهو- أیضاً- غیر معقول؛ لأنّه لا یعقل القول بأنّ الهیئة موضوعة للأمر بشی ء و النهی عن ضدّه؛ أی مجموعهما.

و أمّا ما ذکروه لبیان ذلک- من أنّ الأمر موضوع لطلب الفعل مع المنع عن الترک- ففساده أوضح من أن یخفی.

و أمّا دلالته علیه بالالتزام فقال بعض الأعاظم قدس سره فی تقریبه: إنّه ینسبق إلی أذهاننا من الأمر بشی ء النهی عن ضدّه العامّ، فیدلّ بالالتزام علی ذلک(1).

و فیه: أنّ مجرّد تصوّر ذلک و انسباقه إلی الذهن لا یدلّ علی أنّ الآمر أراد ذلک أیضاً، و مجرّد التصوّر غیر کافٍ فی ذلک، بل لا بدّ من التصدیق بأنّ المولی أراد بأمره


1- انظر أجود التقریرات 1: 252.

ص: 114

النهی عن ضدّه أیضاً.

فتلخّص: أنّ الأمر بالشی ء لا یدلّ بواحدة من الدلالات الثلاث علی النهی عن ضدّه العامّ.

و أمّا القول بالمُلازمة بین إرادة الأمر بشی ء و إرادة النهی عن ضدّه، فهو- أیضاً- فاسدٌ؛ لابتنائه علی ما ذکروه: من أنّ الإرادة غیر اختیاریّة لا تحتاج إلی مبادئها، فإنّ دعوی الملازمة علی هذا المبنی ممکنة، و أمّا بناءً علی ما هو التحقیق من أنّها مسبوقة بالمبادئ- أی التصوّر و التصدیق بالفائدة و غیرهما و لو ارتکازاً- فلا یستقیم دعواها، فإنّه لا فائدة فی النهی عن الضدّ بعد الأمر بضدّه، فإنّه کافٍ فی تحقّق الطلب الأکید، و أنّه لا یرضی بترکه.

فتلخّص: أنّ المقدّمات الثلاث المذکورة بأسرها فاسدة، فلا یصحّ القول بأنّ الأمر بالشی ء مُستلزم للنهی عن ضدّه الخاصّ من جهة المقدّمیة.

و أمّا استلزامه للنهی عن ضدّه الخاصّ من جهة الملازمة بینهما فی الخارج،

فتوضیحه یحتاج إلی رسم مقدّمات:

إحداها: أنّ الضدّ مع نقیض ضدّه الآخر متلازمان، کالسواد مع عدم البیاض، فإنّ السواد إمّا أن یصدق علیه البیاض أو اللابیاض، و إلّا فإن لم یصدق کلّ واحد منهما علیه یلزم ارتفاع النقیضین، فلا بدّ أن یصدق علیه أحدهما، و لا یصدق علیه البیاض؛ للزوم اجتماع الضدّین، فلا بدّ أن یصدق علیه اللابیاض، و هو المطلوب من ثبوت الملازمة بین أحد الضدّین و نقیض الضدّ الآخر، کما هو مقتضی مصداقیّة شی ء لعنوانین.

و ثانیتها: أنّ المتلازمین محکومان بحکم واحد، و إلّا فلو وجب أحد المتلازمین، و حُرم الآخر، لزم المحال، و کذلک لو جاز ترکه بالجواز بالمعنی الأعمّ فإنّه- أیضاً- کذلک فلا بدّ أن یکون محکوماً بحکم الآخر- أی الوجوب فی المثال- و لا

ص: 115

یجوز خلوّه عن الحکم أصلًا، فإنّه یمتنع خلوّ الواقعة عن الحکم، فإذا فُرض وجوب الإزالة لزم وجوب ترک الصلاة، الذی هو نقیض ضدّها الملازم لها وجوداً.

الثالثة من المقدّمات: أنّ الأمر بالشی ء یستلزم النهی عن ضدّه العامّ، و لیس المراد من الضدّ العامّ الترک، کما یظهر من بعض(1)، بل المراد منه نقیض المأمور به، و هو فعل الصلاة.

فنقول: مع التلازم بین ترک الصلاة و الإزالة، کما هو مقتضی ما ذکر فی المقدّمة الاولی، و أنّ ترک الصلاة واجب عند الأمر بالإزالة، کما هو مقتضی المقدّمة الثانیة، و أنّ فعل الصلاة محرّم بمقتضی المقدّمة الثالثة، یتمّ المطلوب من استلزام الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه الخاصّ؛ لکن هذا القول و الاستدلال مبنیّ علی تمامیّة المقدّمات الثلاث، و لکنّها بأسرها مخدوشة:

أمّا الاولی: فلوقوع مُغالطة فیها، و هی توهّم صدق نقیض البیاض- أی اللّابیاض- علی السواد بنحو الموجبة المعدولة المحمول.

و الصحیح أن یقال: لا بدّ أن یصدق علیه البیاض أو لا یصدق علیه البیاض، لا أنّه یصدق علیه اللّابیاض بنحو المعدولة الموجبة، و لیس نقیض صدق البیاض علی السواد هو صدق اللابیاض علی السواد بنحو المعدولة لإمکان ارتفاعهما، بل عدم صدق البیاض علیه بنحو السلب المحصّل.

و أمّا المقدّمة الثانیة ففیها: أنّ العدم و العدمیّ لیسا من الوقائع حتّی یقال لا بدّ أن یکون محکوماً بحکمٍ من الأحکام، فإنّ الأحکام إنّما هی للوقائع و أفعال المکلّفین، و العدم لیس من أفعالهم. و أمّا ما یُتراءی من حکمهم علی العدم- مثل وجوب تروک الإحرام- فهو مسامحة فی التعبیر، و إلّا فالفعل محرّم، لا أنّ الترک واجب.

و أمّا ثانیاً: فلأنّا لا نسلّم امتناع خلوّ الواقعة عن حکم؛ فإنّ الممتنع خلوّها


1- نهایة الأفکار 1: 360.

ص: 116

عن الحکم واقعاً لا الحکم الفعلیّ، فإنّه لا یمتنع خلوّها عن الحکم الفعلیّ.

و ثالثاً: إن ارید بالإباحة الإباحة الاقتضائیّة؛ لوجود مصلحة مقتضیة لها فی صیرورة الفعل مباحاً: فإنّ الفعل إمّا فیه مصلحة مقتضیة لفعله بنحو اللزوم فهو الواجب، أو مقتضیة للترک کذلک فهو المحرّم، أو للفعل لا بنحو اللزوم فهو المستحبّ، أو مقتضیة للترک کذلک فهو المکروه.

و إمّا أن لا یوجد فیه اقتضاء للفعل و الترک: فإمّا أن توجد مصلحة خارجة عنه مقتضیة للإباحة فهی الإباحة الاقتضائیّة، و إلّا فهی الإباحة اللااقتضائیّة، و حینئذٍ فإن ارید من تنافی وجوب أحد المُتلازمین مع إباحة الملازم الآخر الإباحةُ الاقتضائیّة فهو مُسلّم، لکن یمکن أن یحکم بالإباحة اللااقتضائیّة، فإنّه لا تنافی بین وجوب أحد المُتلازمین و إباحة المُلازم الآخر بهذا المعنی.

و أمّا المقدّمة الثالثة: فقد تقدّم الکلام فیها و فی عدم تمامیّتها، و حینئذٍ فلا یتمّ القول باستلزام الأمر بالشی ء النهیَ عن ضدّه الخاصّ بنحو الاستلزام أیضاً.

حول التفصیلات بین ضدّین لا ثالث لهما و غیرهما

و أمّا ما یُتراءی من کلام بعض الأعاظم: من التفصیل بین الضدّین اللذینِ لا ثالث لهما و بین ما لیس کذلک بالاستلزام فی الأوّل دون الثانی، فیستلزم الأمرُ بالسکون النهیَ عن الحرکة، أو بالعکس؛ لأنّهما من قبیل الأوّل؛ لاقتضاء المتفاهم العرفیّ ذلک(1).

فإن أراد أنّ الأمر بالسکون عین النهی عن الحرکة و بالعکس؛ بدعوی أنّ البعث هنا عین الزجر، فهو خلاف حکم العقل و المتفاهم العرفیّ، و إن أراد أنّ الأمر بالحرکة متّحد مع النهی عن السکون فی النتیجة، فلا فرق بین الأمر بالحرکة و بین


1- فوائد الاصول 1: 304.

ص: 117

الزجر عن السکون، و أنّهما سواءٌ نتیجةً، فلا یفید ذلک فی إثبات مطلوبه، بل علی خلافه أدلّ، فإنّ المدّعی للاستلزام یدّعی أنّه إذا تعلّق أمر بشی ء فهنا نهیٌ- أیضاً- متعلّق بضدّه، و مقتضی ما ذکر کفایة أحدهما، و أنّه إذا وجد أحدهما، فلا یحتاج إلی الآخر، لا أنّهما موجودان، کما هو المدّعی.

و لیعلم أنّ ما ذکرناه من الدلیل الأوّل- أی استلزام الأمر بالشی ء للنهی عن الضدّ من جهة المقدّمیة- إنّما هو فیما إذا قلنا بوجوب مطلق المقدّمة، و أمّا بناءً علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط، فالقول بالاقتضاء من جهة المقدّمیة موقوف علی مقدّمات أربع؛ الثلاث المذکورة سابقاً بزیادة رابعة، و هی أنّ المتلازمین فی الوجود لا بدّ أن یکونا محکومین بحکم واحد، لا بحکمین مختلفین.

و حاصل المقدّمات: أنّ ترک الضدّ مقدّمة لوجود الضدّ الآخر، و أنّ المقدّمة الموصلة واجبة، و الأمر بالشی ء یستلزم النهی عن ضدّه العامّ؛ لیکون ترک الترک الموصل محرَّماً، و أنّ المتلازمین فی الوجود لا بدّ أن یکونا محکومین بحکم واحد؛ لتصیر الصلاة- التی هی ملازمة لترک الترک الموصل- محرَّمة، فإنّ ضدّ الترک الموصل لیس عین الصلاة، بل ملازم لها، بخلاف ما لو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة، فإنّه لا یحتاج إلی ضمیمة المقدّمة الرابعة، و أیضاً علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة ینحصر دلیل الاستلزام بالدلیل الأوّل؛ أی جهة المقدّمیة؛ لأنّ المقدّمة الرابعة المذکورة إحدی مقدّمات الدلیل الثانی، و حینئذٍ فله دلیل واحد، بخلاف ما لو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة، فإنّهما دلیلان من جهة المقدّمیة و من جهة الملازمة [فی ثمرة بحث استلزام الأمر للنهی عن ضدّه].

ص: 118

بحث: حول ثمرة القول بالملازمة
اشارة

و أمّا ثمرة المسألة فقد عرفت الفرق بین القول بوجوب مطلق المقدّمة و بین القول بوجوب المقدّمة الموصلة، فنقول: إنّهم ذکروا ثمرةً لأصل البحث فیما لو فرض الضدّ من العبادات، کالصلاة بالنسبة إلی الإزالة، فتصیر فاسدة علی القول بالاستلزام، و عدم فسادها لو لم نقل به(1).

لکن ذلک مبنیّ علی أحد وجهین:

أحدهما: القول بأنّ النهی و الأمر الغیریّین یمکن التقرّب بهما إلی اللَّه تعالی، و مخالفتهما مبعّدة للعبد عن اللَّه تعالی؛ لاقتضاء النهی الفساد.

و ثانیهما: أن یقال: إنّ فی ترک الصلاة مصلحة ملزمة، أو أنّ فی فعلها مفسدة کذلک؛ لیصیر الترک محبوباً و فعلها مبغوضاً، فمع عدم صحّة هذین- کما هو الحق- فلا یتمّ ما ذکروه من الثمرة:

أمّا الأوّل: و هو أنّ الأمر الغیریّ لیس مقرِّباً، فلأنّه- بناءً علی ما ذکروه- عبارة عن البعث الترشُّحی الغیر الاختیاریّ(2).

و بناءً علی ما ذکرنا: عبارة عن البعث عن إرادة و اختیار مع مبادیها، لکن أحد مبادی ذلک البعث هو التصدیق بالفائدة، و الفائدة من البعث الغیریّ هو أنّه وسیلة إلی الإتیان بالواجب، لا أنّ فیه مصلحةً و منفعة مقتضیة لوجوبه و محبوبیّته، و مبغوضیّةً فی ترکه فلا مفسدة ذاتیّة فی فعل الصلاة- حینئذٍ- لتصیر مبغوضة و مُبعدة، و حینئذٍ فلا یتمّ ما ذکروه ثمرة لهذا البحث.


1- کفایة الاصول: 165، فوائد الاصول 1: 312.
2- انظر فوائد الاصول 1: 285، و کفایة الاصول: 131- 132.

ص: 119

مقالة الشیخ البهائی قدس سره

ثمّ لو سُلِّم أنّ الأمر بالشی ء یستلزم النهی عن ضدّه، و أنّه یستلزم فساده لو کان عبادة، فهل یصحّ ما ذکره الشیخ البهائی قدس سره ردّاً علی الثمرة المذکورة: من أنّه یکفی فی فساد العبادة عدم الأمر بها(1)، فهی فاسدة، سواء قلنا باستلزام الأمر بالشی ء النهیَ عن ضدّه أم لا؛ لأنّه لا أقلّ من عدم الأمر بها، و هو کافٍ فی بطلانها، فلا یحتاج إلی إثبات أنّ الأمر بالشی ء یستلزم النهی فی بطلان الضدّ العبادی؟

قال فی «الکفایة» ردّاً علیه: إنّه یکفی فی صحّة العبادة وجود ملاک الأمر فیها و إن لم یتعلّق بها أمر فعلًا لمانع، و الملاک موجود فی الصلاة مع ضدّیّتها للإزالة، و لا یحتاج إلی تعلّق الأمر بها(2).

و قال المحقّق الثانی قدس سره: إنّ الأمر متعلِّق بالصلاة فی الفرض، و موجود فیما إذا فُرض أنّ وقتها موسّع، و الأمر المتعلّق بالإزالة مضیّق؛ لأنّه فوریّ عند الزوال؛ و قال تعالی: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَّیْلِ»(3) فبناءً علی ما هو الحقّ من تعلُّق الأوامر و النواهی بالطبائع المطلقة من دون دَخْلٍ لخصوصیّات الأفراد فیه أصلًا، فالتخییر بین الأفراد عقلیّ لا شرعیّ، فبما أنّ للواجب الموسّع أفراداً غیر مزاحمة أمکن أن یتعلّق الأمرُ بالطبیعة؛ أی طبیعة الصلاة؛ لأنّ بعض أفرادها لا مُزاحم له، و الأمرُ بالإزالة- أیضاً- فوراً معاً؛ لأنّ المفروض أنّ الأمر بالصلاة موسّع بالأصالة، و لو فُرِض صیرورتها مُضیّقة بتأخیرها إلی أن بقی من الوقت بمقدار فعلها، و فُرض الأمر بالإزالة- أیضاً- فی ذلک الوقت، فلا مانع- حینئذٍ- من الالتزام بتعلُّق الأمر بطبیعة


1- انظر زبدة الاصول: 99 سطر 2.
2- انظر کفایة الاصول: 166.
3- الإسراء: 78.

ص: 120

الصلاة و لو ضاق وقتها، و کذا بطبیعة الإزالة؛ حیث إنّ هذا الفرد من الصلاة و إن انحصرت أفراد طبیعتها به بالعَرض، لکن أصل الطبیعة (هی) المتعلَّقة للأمر، فیمکن أن یُؤتی بهذا الفرد بقصد الأمر المتعلّق بالطبیعة(1). انتهی حاصل کلامه.

أقول: لا إشکال فیما ذکره قدس سره من تعلّق الأوامر بالطبائع المجرّدة من الخصوصیات الفردیّة، لکن المقصود من الأمر بها إیجادها فی الخارج، و الطبیعة قد تکون لها أفراد، و قد تنحصر فی فرد، و الأفراد- أیضاً- إمّا عرضیّة، کالصلاة فی هذا المکان و ذاک، أو أفراد طولیّة کثیرة، کالصلاة فی أوّل الوقت و ثانیه و ثالثه إلی آخر الوقت، و لا ریب فی عدم إمکان الأمر بالضدّین فیما لو انحصرت الطبیعة فی فرد، کما إذا ضاق الوقت و بقی بمقدار فعل الصلاة فقط و المسجد متنجِّس، فإنّ الأمر بالصلاة و الأمر بالإزالة فی الفرض لیس أمراً بالضدّین؛ لأنّ الأمرین متعلّقان بالطبیعتین، لکن ملاک استحالة الأمر بالضدّین موجود هنا؛ حیث إنّ الأمر و إن تعلّق بالطبیعة، لکن المقصود منه هو إیجاد الطبیعة، و ملاک استحالة الأمر بالضدّین هو عدم قدرة العبد علی امتثالهما، و هو متحقّق فیما نحن فیه أیضاً.

و أمّا لو فرض أنّ للطبیعة أفراداً طولیّة، کما لو أمر بالإزالة فی أوّل الوقت، و أمر بالصلاة لدلوک الشمس إلی غسق اللیل، فإنّه لیس فی أوّل الوقت أمر بالضدّین؛ لتعدّد الأمر- تعلّق أحدهما بطبیعة الصلاة، و الثانی بطبیعة الإزالة- و لیس فیه- أیضاً- ملاک الأمر بالضدّین لسعة وقت الصلاة، لکن لا یمکن الأمر الفعلیّ بالصلاة فی أوّل الوقت؛ لأنّه ینتهی إلی الاستحالة، و کذلک لو فرض للطبیعة أفراد عرضیّة، لکن بالنسبة إلی الفرد المزاحَم لا غیر.

و بالجملة: ما ذکره لتصحیح وجود الأمر بالصلاة محلّ إشکال و منع؛ فإنّه و إن لم یکن أَمرَ بالضدّین، لکن ملاک الاستحالة فی الصورة الاولی موجود، و فی الصورة


1- جامع المقاصد 5: 13- 14.

ص: 121

الثانیة و الثالثة- أیضاً- بالنسبة إلی الفرد المزاحم، فإنّه فیهما- أیضاً- ینتهی فعلیّة الأمر بالصلاة إلی الاستحالة.

بحث حول الترتّب
اشارة

و أجاب بعض الأعاظم عن إشکال الشیخ البهائی قدس سره بتصحیح وجود الأمر المتعلّق بالصلاة فی المثال بنحو الترتّب(1).

فنقول: قد وقع الخلط فی المقام فی محطّ البحث من القائلین بالترتّب و غیرهم من الاصولیین، فإنّ محطّ البحث و النزاع فی المقام إنّما هو ما لو فرض الأمر بطبیعة فی وقت مضیّق، کالأمر بالإزالة فوراً، و فرض تعلُّق أمر آخر بطبیعة اخری فی ذلک الوقت، فهل یمکن ذلک بنحو الترتُّب إذا لم یمکن الجمع بینهما فی ذلک الوقت؟ و أمّا إذا فرض أحد الأمرین موسّعاً فهو خارج عن محطّ البحث، فإنّهم صحّحوا الأمر بالضدّ بنحو الترتُّب؛ أی ترتُّب أحد الأمرین علی عصیان الآخر؛ بأن یکون أحدهما واجباً مطلقاً، کالأمر بالإزالة، و الآخر واجباً مشروطاً بما لو عصی الأمرَ الأوّل و خالفه، کالأمر بالصلاة لو خالف أمر الإزالة.

فلا بدّ من تقدیم امور لیتّضح الحال فی المقام:

الأوّل: أنّ الأوامر و إن کانت متعلّقة بالطبائع، لکن المقصود هو إیجادها فی الخارج، کما عرفت، و هو مسلّم عند المتأخّرین(2) من الاصولیین.

الثانی: لا یمکن جعل الطبیعة مرآةً و وجهاً لخصوصیّات أفرادها؛ بأن یحکی اللفظ الموضوع للطبیعة عن الأفراد بخصوصیّاتها کالعام، فإنّه فرق بینه و بین الطبیعة و لو بعد إجراء مقدّمات الحکمة، فإنّ العامّ یحکی عن خصوصیات الأفراد، بخلاف


1- فوائد الاصول 1: 373- 374. هدایة المسترشدین: 245.
2- کفایة الاصول: 171- 172، نهایة الأفکار 1: 381- 386.

ص: 122

المطلق الموضوع للطبیعة؛ لعدم إمکان حکایة اللفظ الموضوع لمعنیً عن معنیً آخر غیر ما هو الموضوع له، فإنّ الموضوع له فی قوله تعالی: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ»(1) هو طبیعة البیع لا أفراده، بخلاف ما لو قیل: «احِلّ کلّ بیع»، فإنّه یدلّ علی کلّ فردٍ فردٍ، و کم فرقٍ بینهما.

الثالث: أنّ المُزاحمة التی ذکروها فی المقام بین الضدّین، لیست فی مقام الإرادة و عالَمها، و لا فی مقام تعلّق الأمرین بکلّ واحدة من الطبیعتین، فإنّه لو فرض تعلُّق الأمر بالصلاة فی وقت مضیّق، و تعلُّق أمر آخر بالإزالة فی ذلک الوقت، فلیس بینهما تضادّ و تزاحم، بل المزاحمة إنّما هی فی صورة الابتلاء الخارجی بهما و فی مقام الامتثال فی وقت واحد، فمع عدم الابتلاء بهما، کما لو لم یتنجّس المسجد بعدُ أو تنجّس قبل ذلک الوقت، و اتّفق عدمه فی وقت وجوب الصلاة، فإنّه لا مزاحمة فی البین.

فی أقسام الترتّب:

إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّ الترتّب الشرعیّ إمّا غیر معقول، أو غیر واقع:

أمّا الأوّل: فلأنّ التزاحم کما عرفت متأخّر عن الحکم بمرتبتین، فکیف یمکن اشتراط أحد الأمرین بعصیان الآخر و جعل ذلک علاجاً للتزاحم؟!

و بعبارة اخری: إذا عرفت أنّ التزاحم إنّما یتحقّق بعد تعلُّق الأمرین بالموضوعین، و بعد الابتلاء الخارجی بهما، فلا یمکن للآمر أن ینظر إلی صورة التزاحم المتأخّر عن الحکم بمرتبتین، فضلًا عن أن یعالجه.

و أمّا الثانی: فلأنّه لو فُرض معقولیّة ذلک فالاشتراط و الترتُّب غیر واقعیین؛ لأنّ الاشتراط یحتاج إلی مئونة و بیان زائد علی بیان أصل الحکم، مع أنّ الأدلّة


1- البقرة: 275.

ص: 123

الشرعیّة- مثل قوله تعالی: «أَقِیمُوا الصَّلاةَ»*(1)- خالیة عن هذا الاشتراط، مع أنّک عرفت أنّ التزاحم فرع الابتلاء الخارجیّ، فلعلّه لم یقع و لا یقع إلی یوم القیامة، فالقول بالترتُّب غیر صحیح.

و أمّا الترتُّب العقلیّ: فإن ارید أنّ العقل یتصرّف فی الأدلّة الشرعیّة بتقییدها بالقدرة و غیرها مع إطلاقها، فهو- أیضاً- واضح الفساد، فإنّه لا سبیل للعقل إلی تقیید الأدلّة الشرعیّة و الخطابات المطلقة الصادرة من الشارع، و لیس للعبد أن یقیِّد الأوامر الصادرة من مولاه بقید.

و إن ارید أنّ العقل حاکم بمعذوریّة العاجز و الجاهل و غیرهما فی مخالفة الحکم الشرعیّ؛ بمعنی أنّه لا یصحّ عقوبته مع إطلاق الحکم بحیث یشمله، فهو مسلّم.

الخطابات القانونیّة:
و توضیحه یحتاج إلی تمهید امور:

الأوّل: أنّ ما ذکره فی غیر موردٍ من «الکفایة» من أنّ للأحکام مراتبَ أربعة:- مرتبة الاقتضاء، و مرتبة الإنشاء، و مرتبة الفعلیّة، و مرتبة التنجّز(2)- غیرُ متصوّر، و المتصوّر منها مرتبتان علی وجه، و هما مرتبة الإنشاء، و مرتبة الفعلیّة، و أمّا مرتبة الاقتضاء فلیست من مراتب الحکم؛ لأنّها قبل الحکم، کما أنّ مرتبة التنجّز بعد الحکم، و لیست- أیضاً- من مراتبه؛ و ذلک لأنّ جمیع الأحکام صادرة من الشارع لانقطاع الوحی بعد النبیّ صلی الله علیه و آله و لا دَخْلَ لعلم المکلّف و قدرته و جهله و عجزه فیها، و الأحکام کلّیّة قانونیّة تشمل جمیع المکلّفین، کالأوامر العرفیّة الصادرة من الموالی العرفیّة، و هی مرتبة الإنشاء.


1- البقرة: 43.
2- کفایة الاصول: 193 و 297.

ص: 124

و من الأحکام ما لم یصدر من الشارع؛ لمصالح فی عدم إجرائها أو مفاسد فیه، کالأحکام التی لم یُؤمر النبیّ صلی الله علیه و آله و الأئمّة علیهم السلام بإعلامها للناس بل هی مُستودعة عند صاحب الأمر- عجّل اللَّه تعالی فرجه- کنجاسة أهل الخلاف و کفرهم.

و منها: ما أوقعه الشارع فی مورد الإجراء، مثل «لِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ»(1) و «أَقِیمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّکاةَ»*(2) و نحوها المتوجّهة إلی جمیع المکلّفین الواقعة فی مورد الإجراء و العمل، و هی المرتبة الفعلیّة، و لا تختصّ بالعالم و القادر، بل تشمل الجاهل و العاجز أیضاً، غایة الأمر أنّ العاجز و الجاهل القاصر معذوران عقلًا فی المخالفة، و لیس هذا تقییداً للدلیل الشرعیّ؛ کی یتحقّق هنا مرتبة اخری للحکم هی مرتبة التنجّز.

الثانی: أنّهم ذکروا: أنّ الأمر بما هو خارج عن مورد الابتلاء مستهجن، و کذلک الزجر عنه، و لذا حکموا بعدم منجّزیة العلم الإجمالی بالمحرّم مع خروج بعض أطرافه عن مورد الابتلاء؛ لعدم العلم- حینئذٍ- بالتکلیف و الحکم الشرعیّ(3)، لکن هذا إنّما یصحّ فی الخطابات الجزئیّة الشخصیّة، و کذا یقبح بعث شخص أو زجره عن شی ء یعلم بإتیان المکلّف به أو زجره بنفسه و لو لم یأمره به أو یزجره عنه.

و أمّا الأحکام الکلّیّة القانونیّة مثل الأحکام الشرعیّة و الخطابات الإلهیّة و النبویّة صلی الله علیه و آله و کذا أوامر الموالی العرفیّة الکلّیّة القانونیّة، فهی إنّما تُستهجن إذا کان المأمور به و المنهیّ عنه خارجاً عن ابتلاء جمیع المکلّفین، و أمّا إذا لم یکن کذلک؛ لابتلاء بعض المکلّفین به، و إن خرج عن مورد ابتلاء بعضٍ آخر فهو غیر مُستهجن، فلیس الخطاب بمثل «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا»* و نحوه من الخطابات الکلّیّة، قبیحةً


1- آل عمران: 97.
2- البقرة: 43.
3- انظر فرائد الاصول: 250، 251، و فرائد الاصول 4: 50- 51.

ص: 125

و مستهجنة، و الشاهد علی ذلک أنّهم لا یقولون بذلک فی الأحکام الوضعیّة، کنجاسة الخمر الموجود فی مکان بعید خارج عن مورد الابتلاء، و کذلک نجاسة الدم و نحوه، و إلّا لزم الهرج و المرج فی الفقه.

و توهّم: انحلال الأحکام الکلّیّة القانونیّة المتوجّهة إلی المکلّفین إلی أحکام جزئیّةٍ بعدد المکلّفین، متوجّهةٍ إلی کلّ واحد من آحاد المکلّفین(1)، لا معنی له، بل هو غیر معقول؛ أ تری أنّه لو قال: «جاء الناس کلّهم» فی الإخبار کذباً، أنّه أکاذیب متعدّدة بعددهم؛ لانحلاله إلی ذلک؟! حاشا و کلّا، بل هو کذب واحد، و هو شاهد علی فساد القول بالانحلال بالمعنی المذکور.

فتلخّص: أنّ الأحکام الصادرة من الشارع کلّیة قانونیّة متوجّهة إلی جمیع المکلّفین- العالم منهم و الجاهل، القادر منهم و العاجز- غایة الأمر أنّ العقل یحکم بمعذوریة العاجز و الجاهل القاصر فی المخالفة، و لیس ذلک تقییداً لحکم الشارع کما عرفت.

الثالث: قد عرفت أنّ الأحکام الشرعیّة: إمّا لا یتصوّر فیها النظر إلی صورة التزاحم، فضلًا عن بیان علاجه و أنّه لا یمکن ذلک، و علی فرض إمکانه- أیضاً- غیر ناظرة إلیها؛ لأنّ بیان العلاج یحتاج إلی بیان زائد علی بیان أصل الحکم، کما یشهد بذلک الحسّ و الوجدان.

الرابع: أنّ القول بالترتُّب و تقیید الأحکام الشرعیّة بذلک فاسدٌ؛ لوجهین:

أحدهما: أنّه لو جاز ذلک لزم جواز إزالة المکلّف قدرته و تعجیز نفسه باختیاره، لو فرض أنّ الأحکام مشروطة بالقدرة؛ لأنّه- حینئذٍ- یصیر مثل قوله:

«قصّر إن کنت مسافراً» أو «صلّ أربع رکعات إن کنت حاضراً»، فإنّه یجوز السفر و التقصیر فی الصلاة، فکما یجوز ذلک لزم أن یجوز للمکلّف تعجیز نفسه؛ لأنّ الحکم


1- فوائد الاصول 1: 551.

ص: 126

مشروط بالقدرة علی الفرض، و لا یجب تحصیل شرط التکلیف أو إبقاؤه، مع عدم التزامهم بذلک.

و ثانیهما: أنّهم ذهبوا إلی الاحتیاط عند الشکّ فی القدرة، مع أنّه لو کان التکلیف مشروطاً بها فالقاعدة هی البراءة؛ للشکّ فی تحقُّق شرط التکلیف.

الخامس: أنّه قد یعجز المکلّف عن الإتیان بالمأمور بهما معاً فی المثال، و قد یقدر علی امتثال واحد منهما، و یعجز عن الجمع بینهما فی مقام الامتثال، فلا إشکال فی جواز الأمر و البعث فی الثانی؛ لأنّ کلّ واحدٍ منهما مقدور له، و الغیر المقدور هو الجمع بینهما و لم یتعلّق به أمر.

إذا عرفت ذلک نقول: إذا فُرض أنّ المولی أمر عبده بالإزالة، و أمره- أیضاً- بإنقاذ الغریق، و فرض أنّه لیس أحدهما أهمّ من الآخر، بل فرض تساویهما فی الأهمیة فقد یترکهما المکلّف بدون أن یأتی بفعل آخر مطلقاً، و قد یشتغل عند ترکهما بفعل مباح، و قد یشتغل بفعل محرّم، أو یأتی بأحدهما:

ففی الأوّل یستحقّ عقوبتین لمخالفته للتکلیفین.

و لا یتوهّم أنّه لا یقدر علی الجمع بینهما، فلا یصحّ له إلّا عقوبة واحدة؛ لأنّ المقدور لیس إلّا واحداً منهما؛ لأنّ المفروض أنّ کلّ واحد منهما مع قطع النظر عن الآخر مقدور له، فمع ترکهما معاً یستحقّ العقوبة لکلّ واحد منها.

و کذلک فی الصورة الثانیة.

و أمّا فی الصورة الثالثة: فیستحقّ فیها ثلاث عقوبات: أحدها لارتکابه المحرّم، و الثانیة و الثالثة لترکه الإزالة و الإنقاذ مع تمکّنه من الإتیان بکلّ واحدٍ منهما مع قطع النظر عن الآخر.

و أمّا فی الصورة الرابعة: فلا یستحقّ فیها عقوبة أصلًا؛ لأنّه مع الإتیان بواحدٍ منهما لا یقدر علی فعل الآخر، فهو معذور فی مخالفته عقلًا، مع أنّه حکم فعلیّ أیضاً.

ص: 127

هذا فی صورة تساوی التکلیفین فی الأهمیّة.

و أمّا لو فرض أنّ أحدهما أهمّ من الآخر، کما لو غرق اثنان: أحدهما ابن للمولی، و الآخر ابن أخٍ له، و فرض أنّ إنقاذ الابن أهمّ عقلًا من الآخر عنده، فإنْ تَرکَ إنقاذهما معاً استحقّ عقوبتین؛ لقدرته علی إنقاذ کلّ واحدٍ منهما مع قطع النظر عن الآخر، و إن أنقذ الابن و لم یقدر علی الآخر، فلا یستحقّ عقوبةً أصلًا فی مخالفة الأمر بالمهمّ؛ لمعذوریّته عقلًا لعدم قدرته علی امتثاله مع فعل الأهمّ، و لو أنقذ ابن الأخ المهمّ فلا یستحقّ عقوبة بالنسبة إلیه، و أمّا بالنسبة إلی ترک إنقاذ الابن الأهمّ، فلا یُعذِّره العقل لترکه و اشتغاله بالمهمّ.

فظهر من جمیع ما ذکرناه: أنّ ما استشکله الشیخ البهائی قدس سره علی الثمرة- بأنّ الأمر بالشی ء و إن لا یقتضی النهی عن الضدّ، لکنّه یقتضی عدم الأمر به، و هو کافٍ فی فساده لو کان عبادة(1)- غیرُ صحیح؛ لما عرفت من أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع، فالصلاة فی المثال مأمور بها، و کذلک الإزالة بنحو الإطلاق، مع أنّها ضدٌّ للإزالة، فلا یقتضی الأمرُ بها عدمَ الأمر بالصلاة فی المثال:

ففی صورة تساوی الضدّین فی الأهمیّة لو أتی بواحدٍ منهما، فالعقل حاکم بمعذوریّته فی مخالفة الآخر، مع أنّ أمره- أیضاً- فعلیّ، و الترتُّب الشرعیّ أو العقلیّ- کما عرفت- غیر معقول.

و فی صورة أهمیّة أحدهما لو أتی به فهو معذور- أیضاً- فی ترک الآخر.

و أمّا إذا أتی بالمهمّ فهو ممتثل بالنسبة إلیه، فیُثاب به، لکن حیث إنّه ترک الأهمّ، فلا یعذره العقل، فیصحّ عقوبته به؛ لما عرفت من أنّ الأوامر الشرعیّة کلّها کلّیّة قانونیّة متوجّهة إلی عامّة المکلّفین، و لیس حالات المکلّفین- من العلم و الجهل و القدرة و العجز- دخیلة فیها و لا ملحوظة، و إلّا لزم تقییدها بعدد أفراد المکلّفین؛


1- انظر زبدة الاصول: 99 سطر 2.

ص: 128

لاختلاف حالاتهم، و أنّ دعوی انحلالها إلی أوامر شخصیّة و أحکام جزئیّة غیرُ معقولة، و أنّ إرادة الشارع لم تتعلّق ببعث کلّ واحدٍ واحدٍ من المکلّفین و انبعاثه أو زجره و انزجاره، و إلّا لما أمکن التخلُّف، کما هو واضح.

مضافاً إلی أنّه لو انحلت الأوامر و النواهی الشرعیّة إلی أوامر و نواهٍ جزئیّة شخصیّة، فمع العلم بعصیان المکلّف لا معنی للبعث و الزجر لاستهجانه حینئذٍ، و کذا مع العلم بالإتیان و الموافقة و لو مع عدم الأمر و النهی، و کذا مع العلم بعدم قدرته علی الامتثال، فیلزم عدم الأمر و النهی بالنسبة إلی العاصین و المطیعین و العاجزین، و لا یلتزم بذلک أحدٌ قطعاً، بل الإرادة متعلّقة بجعل القانون، و معنی التشریع هو ذلک، و المکلّفون کلّهم فی شمول الأحکام لهم سواء من غیر استثناء، غایة الأمر أنّ العاجز و الجاهل القاصر معذوران عقلًا، و لا یصحّ عقوبتهما فی مخالفة الحکم الفعلیّ، و قد عرفت أنّ الأوامرَ الصادرة من الشارع- فی الآیات القرآنیّة و السنّة النبویّة صلی الله علیه و آله مطلقةٌ کلّیّة، و لیست جزئیّة.

رجع إلی بیان استحالة الترتّب:
اشارة

و أمّا بیان استحالة الترتُّب من جهة الآمر بأن یقال: کما أنّه یستحیل أمر الشارع بالضدّین لقبحه، فلا یمکن إرادته بالأمر بهما، کذلک یستحیل صدور أمرین منه: تعلّق أحدهما بشی ء فی وقت معیّن، و الآخر بشی ء آخر مضادّ له فی ذلک الوقت؛ بحیث لا یتمکّن العبد من امتثالهما، فإنّه لا ینقدح إرادة المولی الملتفِت به.

قال فی «الکفایة» ما حاصله: إنّه تصدّی جماعة من الأفاضل(1) لتصحیح الأمر بالضدّ بنحو الترتُّب علی العصیان، و عدم إطاعة الأمر بالشی ء بنحو الشرط المتأخّر،


1- هدایة المسترشدین: 245 سطر 19، الفصول الغرویّة: 96 سطر 26، کشف الغطاء: 27 سطر 19.

ص: 129

أو البناء علی العصیان بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن؛ بدعوی أنّه لا مانع عقلًا عن تعلُّق الأمر بالضدّین کذلک؛ أی بأن یکون الأمرُ بالأهمّ مطلقاً، و الأمرُ بالمهمّ معلّقاً علی عصیان أمر الأهمّ أو البناء علیه، بل هو واقع فی العرف کثیراً.

قال: قلت: إنّه و إن لم یکن ملاک الاستحالة فیه موجوداً فی مرتبة الأمر بالأهمّ، لکنّه موجود فی مرتبة الأمر بالمهمّ؛ بداهة فعلیّة الأمر بالأهمّ فی هذه المرتبة- أیضاً- و عدم سقوط أمر الأهمّ بعدُ بمجرّد المعصیة.

قال: لا یقال: إنّه بسوء اختیار المکلّف، و لا برهان علی امتناعه.

امّا نقول: إنّ سوء اختیار المکلّف لا یَقلب الممتنع ممکناً، و لا فرق فی الاستحالة بین ما إذا کان الضدّان فی عرض واحد، و بین ما نحن فیه.

إن قلت: فرقٌ بین الاجتماع فی عرض واحد و بین الاجتماع کذلک، فإنّ الطلب فی کلّ واحدٍ منهما یطرد الآخر فی الأوّل، بخلافه فی الثانی.

قلت: لیت شعری کیف لا یطرده الأمر بغیر الأهمّ؟! و هل یکون طرده له إلّا من جهة فعلیّته و مضادّة فعلیّته للأهمّ، و المفروض فعلیّة الأمر بغیر الأهمّ و مضادّة متعلّقه؟!

إن قلت: فما الحیلة فیما وقع کذلک من طلب الضدّین فی العرفیّات؟

قلت: لا یخلو إمّا أن یکون الأمر بالمهمّ بعد التجاوز عن الأمر بالأهمّ و طلبه حقیقةً، و إمّا أن یکون الأمر به إرشاداً إلی محبوبیّته و بقائه علی ما هو علیه من المصلحة و الغرض لو لا المزاحمة.

و قال رحمه الله: ثمّ إنّه لا أظنّ أن یلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق لعقوبتین فی صورة مخالفة الأمرین، و لذا کان سیّدنا الاستاذ (المیرزا حسن الشیرازی) لا یلتزم به علی ما ببالی، و کنّا نورد به علی الترتُّب، و کان بصدد تصحیحه(1). انتهی


1- کفایة الاصول: 166- 168.

ص: 130

ملخّصه.

أقول: إنّ تخصیصه الاشتراط علی العصیان بنحو الشرط المتأخّر فهو لعدم تصوّر الشرط المقارن فیه، فضلًا عن الشرط المتقدّم، و ذلک لأنّ المراد بالعصیان الذی هو شرط للأمر بالمهم هو العصیان الخارجی، و هو موجود زمانیّ؛ لأنّه عبارة عن تعطُّل المکلّف عن امتثال الأمر بالأهمّ فی مقدار من الزمان، کان یقدر علی الإتیان به فی هذا الزمان المظروف له، فلو أمره بإزالة النجاسة عن المسجد فی ساعة معیّنة أوّلها الدلوک- مثلًا- و فرض أنّه لا یمکن فعلها فی أقلّ من ساعة، ففی أوّل الدلوک و قبله لم یتحقّق عصیان للأمر بالإزالة، کما أنّه لم یتحقّق إطاعة فیهما، بل العصیان موقوف علی مضیّ مقدار من أوّل الدلوک و لو قلیلًا؛ بحیث لا یتمکّن المکلّف من امتثال أمر الإزالة فی تلک الساعة، فإذا رتّب الأمر بالمهمّ علی عصیان الأمر بالأهمّ، فلا یمکن إلّا بنحو الشرط المتأخّر لا غیر، هذا بخلاف ما لو رتّب أمر المهمّ علی العزم علی عصیان أمر الأهمّ، فإنّه یمکن بنحو الشرط المُقارن أیضاً.

و الأولی بیان ما أفاده المیرزا النائینی فی المقام- علی ما نقله بعض مُقرّری درسه- فإنّه قدس سره مهّد لتصحیح الترتُّب مقدّمات:

المقدمة الاولی فی بیان أمرین:

الأوّل: أنّ المتضادّین إذا تعلّق التکلیف بکلٍّ منهما أو بواحد منهما بالخصوص، مشروطاً بعدم الإتیان بمتعلّق الآخر، فلا محالة یکون التکلیفان المتعلّقان بهما طولیّین لا عرضیّین، و لا یلزم من الطلبین کذلک طلب الجمع بین الضدّین؛ لما ذکرنا، و إنّما یلزم من الطلبین ذلک إذا کان کلّ واحدٍ منهما فی عرضٍ واحد بأن یکون مطلقاً بالإضافة إلی الإتیان بمتعلّق الآخر و عدمه، بخلاف ما إذا جعل أحدهما مشروطاً بعدم الآخر، و یکشف عن ذلک أنّه إذا فرض إمکان الجمع بین شیئین کالقراءة و الدخول فی المسجد، و مع ذلک جعل أحدهما مشروطاً و مترتِّباً علی عدم الآخر، و قرأ حال

ص: 131

الدخول فی المسجد امتنع وقوعهما فی الخارج علی صفة المطلوبیّة، فلو أتی المکلّف بهما کذلک کان مشرِّعاً، فیکشف ذلک عن أنّ نفس ترتّب الخطابین یمنع من تحقّق الجمع بینهما.

الأمر الثانی: أنّه فی صورة عدم قدرة المکلّف علی امتثال التکلیفین الموجب لوقوع المزاحمة بینهما، و إن کان لا بدّ من رفع الید عمّا یقع به التزاحم؛ لاستحالة التکلیف بغیر المقدور عقلًا، إلّا أنّه لا مناص من الاقتصار علی ما یرتفع به التزاحم المذکور، و أمّا الزائد علیه فیستحیل سقوطه، فإنّه بلا موجب.

و من ثمَّ وقع الکلام فی أنّ الموجب للتزاحم هل هو إطلاق الخطابین؛ لیکون الساقط هو إطلاق خطاب المهمّ فقط، دون أصل خطابه، مشروطاً بعدم الإتیان بالأهمّ و مترتّباً علیه؛ لأنّ سقوطه بلا مُوجب کما عرفت، أو أنّ الموجب له نفس فعلیّة الخطابین لیسقط خطاب المهمّ من أصله، و یترتّب علی ذلک أنّ التزاحم إذا کان ناشئاً عن فعلیّة الخطابین، فلا بدّ من سقوطهما معاً إذا لم یکن أحدهما أهمّ، غایة الأمر أنّ العقل یستکشف خطاباً تخییریّاً شرعیّاً؛ لاستلزام عدمه تفویت الملاک الملزم، و هو قبیح علی الحکیم، و هذا بخلاف ما إذا کان التزاحم ناشئاً عن إطلاق الخطابین، فإنّه بناءً علیه یکون الساقط إطلاق الخطابین دون أنفسهما، فکلٌّ من الخطابین مشروط و مترتّب علی عدم الإتیان بمتعلَّق الآخر، و التخییر- حینئذٍ- عقلیّ لا شرعیّ.

و من الغریب أنّ العلّامة الأنصاری قدس سره مع إنکاره الترتّب، و بنائه علی سقوط أصل خطاب المهمّ، دون إطلاقه(1)، ذهب فی تعارض الخبرین- بناءً علی السببیّة- إلی سقوط إطلاق وجوب العمل علی طِبق کلّ واحد منهما ببیان: أنّ محذور التزاحم یرتفع عند سقوط الإطلاقین، فیکون وجوب العمل بکلّ منهما مشروطاً بعدم العمل علی طبق الآخر، و هذا التقیید و الاشتراط إنّما نشأ من اعتبار القدرة فی فعلیّة


1- مطارح الأنظار: 56- 57 سطر 34.

ص: 132

التکلیف(1).

و حاصل ما ذکره یرجع إلی الالتزام بخطابین مترتّب کلّ منهما علی عدم امتثال الآخر، فلیت شعری لو امتنع ترتّب أحد الخطابین علی عدم امتثال الآخر- کما فیما نحن فیه؛ لاستلزامه الجمع بین الضدّین، کما توهّم- فهل ضمّ ترتُّبٍ إلی مثله یوجب ارتفاع المحذور؟! إلّا أنّ الاشتباه من الأساطین غیر عزیز(2). انتهی.

أقول: ما ذکره فی هذه المقدّمة صحیح لا غبار علیه، لکن سیجی ء أنّه لا یترتّب علیه فائدة و ثمرة فی المقام.

و أمّا إشکاله علی الشیخ فهو من غرائب الإشکالات:

أمّا أوّلًا: فلأنّ الترتُّب المُدّعی فی المقام: عبارة عن فرض وجود أمرٍ بالأهمّ بنحو الإطلاق، و أمرٍ آخر مشروطاً بعصیان أمر الأهمّ، لا بعدم الإتیان به، و عصیانُ کلّ أمر و طاعتُه فی مرتبة متأخّرة عنه، و المفروض أنّ الأمر بالمهمّ مشروط بعصیان أمر الأهمّ، فهو متأخّر عن عصیان الأمر بالأهمّ؛ لأنّ المشروط متأخّر عن شرطه برتبة، خصوصاً بناءً علی مذهبه من رجوع الشرائط الشرعیّة کلّها إلی قیود الموضوع، فالأمر بالمهمّ مُتأخّر عن الأمر بالأهمّ بمرتبتین، فهذا هو الترتُّب المدّعی فی المقام.

و أمّا ما ذکره الشیخ قدس سره فلیس هو من الترتُّب أصلًا؛ لأنّه اشترط فی العمل بکلّ واحدٍ من الخبرین عدم الإتیان بمتعلّق الآخر لا عصیانه، کما لا یخفی علی من تأمّل فی عبارته الآتیة.

و لو أراد الشیخ قدس سره الترتّب الاصطلاحی یلزمه المحال؛ لأنّه إن کان العمل بکلّ واحد من الخبرین مشروطاً بعصیان الآخر، یلزم تقدّم کلّ واحد منهما علی الآخر


1- فرائد الاصول: 438 سطر 17.
2- انظر فوائد الاصول 1: 336- 339.

ص: 133

بمرتبتین، فیلزم تقدّم المتأخّر و تأخّر المتقدّم.

و أمّا ثانیاً: فلأنّ مُراد الشیخ قدس سره فی باب التعارض هو ما ذکرنا سابقاً: من أنّ الأحکام الصادرة من الشارع کلّها مُطلقة، و جمیع المکلّفین بالإضافة إلیها سواء، لکن العقل حاکم بمعذوریّة مثل العاجز فی مقام الامتثال، فإذا لم یقدر المکلّف علی الجمع فی امتثال الطلبین لو أتی بواحدٍ منهما، فهو لا یستحقّ عقوبة فی ترک الآخر، و لو ترکهما معاً استحقّ عقوبتین.

فإنّه قدس سره قال فی باب التعادل: إنّ الحکم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضین فی الجملة و عدم سقوطهما، لیس لأجل شمول العموم اللّفظی لأحدهما علی البدل. قال:

و لکن لمّا کان امتثال التکلیف منهما کسائر التکالیف الشرعیة و العرفیّة مشروطاً بالقدرة، و المفروض أنّ کلّ واحد منهما مقدور فی حال ترک الآخر، و غیر مقدور مع إیجاد الآخر، فکلٌّ منهما مع ترک الآخر مقدور یحرم ترکه، و یتعیّن فعله، و مع إیجاد الآخر یجوز ترکه، و لا یعاقب علیه، فوجوب الأخذ بأحدهما نتیجة أدلّة وجوب امتثال کلٍّ منهما بعد تقیید الامتثال بالقدرة(1). انتهی.

و هذه العبارة کما تری صریحة فیما ذکرناه، و لکن یرد علی الشیخ قدس سره أنّه لا اختصاص لما ذُکر بالمُهمَّینِ، بل یجری فی الأهمّ و المهمّ أیضاً.

المقدّمة الثانیة (التی ذکرها المیرزا(2) النائینی قدس سره): أنّ شرائط التکلیف کلّها ترجع إلی قیود الموضوع، و لا بدّ من أخذها مفروضة الوجود فی مقام الجعل و الإنشاء، فحال الشرائط کلّها حال الموضوع. و من الواضح أنّ الموضوع بعد وجوده خارجاً لا ینسلخ عن الموضوعیّة؛ لأنّه یستلزم بقاء الحکم بلا موضوع، فلا وجه لما


1- فرائد الاصول: 438.
2- فوائد الاصول 1: 339.

ص: 134

ذکره بعضهم: من أنّ الواجب المشروط بعد تحقّق شرطه ینقلب واجباً مُطلقاً(1)، و هو مساوق للقول: بأنّ الموضوع بعد تحقّقه خارجاً ینسلخ عن الموضوعیة، و لا یبعد أن یکون ذلک من جهة خلط موضوع الحکم بداعی الجعل و علّة التشریع؛ بتوهّم أنّ شرط التکلیف خارج عن موضوعه، بل هو من قبیل الداعی لجعل الحکم علی موضوعه، فبعد وجوده یتعلّق الحکم بموضوعه، و لا یبقی للاشتراط مجال أصلًا.

و هذا التوهّمُ: ناشٍ عن الخلطِ بین القضایا الحقیقیّة و الخارجیّة، و توهّم أنّ القضایا المتکفّلة لبیان الأحکام الشرعیّة من قبیل الثانیة؛ و من قبیل الإخبار عن إنشاء تکالیف عدیدة یتعلّق کلّ واحد منها بمکلّف خاصّ عند تحقّق شرطه.

لکنّه فاسد، بل القضایا المتکفّلة لبیان الأحکام هی بنحو القضایا الحقیقیّة، و هذا الخلط وقع فی جملة من المباحث:

منها: ما نحن فیه، فإنّه توهّم أنّه بعد عصیان الأمر بالأهمّ یکون الأمر بالمهمّ- أیضاً- مطلقاً، فلا محالة یقع التزاحم بین الخطابین (و یظهر من أحد المقرّرین(2) أنّ هذا الخلط إنّما وقع فی الکفایة).

و منها: إرجاع شرائط الأحکام الشرعیّة التکلیفیّة و الوضعیّة إلی شرط العلم و اللحاظ؛ سواء کان المعلوم متقدّماً أم متأخّراً أم مقارناً.

و منها: القول بأنّ سببیّة شی ء للحکم الشرعی إنّما هی من الامور التکوینیّة، لا من الامور الجعلیّة، و لا من الامور الانتزاعیّة؛ بتوهّم أنّ تأثیر دواعی الجعل فیه من الامور الواقعیّة التی لا تنالها ید الجعل تشریعاً، مع الغفلة عن أنّ الکلام إنّما هو فی سببیّة العقد للملکیّة- مثلًا- و نسبته إلیها نسبة الموضوع إلی حکمه، لا نسبة الداعی و العلّة إلی المعلول، و علیه فتعبیر الفقهاء عن العقود و الإیقاعات بالأسباب، و عن قیود


1- کفایة الاصول: 166- 167.
2- فوائد الاصول 1: 340.

ص: 135

الموضوع فی باب التکالیف بالشرائط، إنّما هو مجرّد اصطلاح، و إلّا فکلٌّ من السبب و الشرط قید من قیود الموضوع لا محالة.

و یعلم ممّا ذکرنا فساد توهّم: أنّ الالتزام بالترتُّب لا یدفع محذور التزاحم بین الخطابین- بتوهّم أنّ الأمر بالمهمّ بعد حصول عصیان الأمر بالأهمّ المفروض کونه شرطاً له فی عرض الأمر بالأهمّ، فیقع التزاحم و التمانع لا محالة- و ذلک لما عرفت أنّ حصول شرط الحکم فی الخارج لا یخرجه عن شرطیّته له، فالحکم المشروط به حدوثاً مشروط به بقاءً، فلیس هنا إطلاقان؛ لیقع التزاحم بینهما(1). انتهی.

أقول: یرد علیه أنّه لم یقم علی ما ذکره من رجوع الشروط إلی قیود الموضوع برهان و لا دلیل، و من المعلوم أنّه قد یتعلّق الغرض بشی ء مع قید؛ لأجل أنّ المصلحة الملزمة فیهما معاً، کما أشرنا إلیه سابقاً، کما إذا تعلّق غرضه بالصلاة فی المسجد، و عرفت أنّ فی هذه الصورة لا بدّ من إیجاد المسجد لو فرض عدمه و إیقاع الصلاة فیه، و قد یتعلّق الغرض بفعلٍ علی فرض وجود شرطٍ لا بدونه، و ربّما لا یکون الشرط محبوباً للمولی، بل قد یبغضه، و لکن لا یرضی بترک الحکم المشروط به علی فرض وجوده، کما إذا قال: «إن جاء زید فأکرمه» فإنّ الغرض قد تعلّق بإکرامه مشروطاً بمجیئه؛ للمصلحة فیه، لا بدونه؛ لعدم المصلحة حینئذٍ، فإذا کانت القیود المأخوذة فی متعلّق الأوامر و النواهی- بحسب اللُّبّ و نفس الأمر- علی قسمین بینهما کمال المغایرة، فلا یصحّ إرجاع أحدهما إلی الآخر؛ لعدم الداعی إلی ذلک، إلّا لمحذور یرد علیه، و المحذور الذی ذکره فی المقام: هو أنّه لو لا ذلک لزم القول بأنّ سببیّة شی ء للحکم الشرعیّ من الامور التکوینیّة، لکن لیس ذلک بمحذور أصلًا؛ فإنّه بعد أن کانت الشرطیّة و نحوها من الامور الاعتباریّة التی اعتبرها الشارع، لا محذور فی أن یجعل الشارع السببیّة و الشرطیّة للدلوک- مثلًا- لوجوب الصلاة.


1- تقدَّم تخریجه قریباً.

ص: 136

بل ما ذکره من إرجاع الشروط الشرعیّة إلی قیود الموضوع غیر صحیح، بعد ما عرفت من الفرق بینهما بحسب اللّب و نفس الأمر؛ لاختلاف الحکم بجعله شرطاً للحکم أو قیداً للموضوع، و إلّا لزم الاختلال فی الفقه، فإنّ هنا ثلاثة أشیاء:

قیدِ الموضوع، و قیدِ الحکم، و الداعی، و حکمُ کلّ واحد یُغایر حکم الآخر، و لا یصحّ الخلط بینها.

و أمّا ما ذکره- من أنّ الأحکام الشرعیّة بنحو القضایا الحقیقیّة لا الخارجیّة- فلا ارتباط له بالمقام، لکن حکم العقل لُبّیّ و لیس بنحو القضایا الحقیقیّة أو الخارجیّة.

و أمّا ما نقله عن بعضٍ- من أنّ المشروط بعد تحقّق شرطه یصیر مطلقاً- فهو- أیضاً ممنوع، بل محال؛ لأنّه إن أراد أنّه تتغیّر إرادة اللَّه تعالی، فیصیر حکمه تعالی مطلقاً بعد أن کان مشروطاً، فهو مستحیل، مع أنّ إرادة اللَّه تعالی لم تتعلّق ببعث المکلّفین و انبعاثهم، و إلّا لاستحال التخلُّف، بل إرادته تعالی تعلّقت بالحکم القانونی الکلی.

و إن أراد أنّه تعالی یجعل الحکم المشروط مطلقاً بعد حصول شرطه، فقد انقطع الوحی بعد النبیّ صلی الله علیه و آله و کملت الشریعة، فلا یمکن ذلک مع أنّه حکم آخر مجعول، لا أنّه تبدیل الحکم المشروط بالمطلق.

المقدّمة الثالثة (التی ذکرها المیرزا النائینی قدس سره): و حاصلها: أنّ الواجب علی قسمین: موسّع و مضیّق، و المضیّق- أیضاً- علی قسمین:

أحدهما: ما یکون فعلیّة الخطاب فیه متوقّفة علی مُضیّ زمانه و لو آناً ما، و أنّ لمُضیّ آنٍ ما دخْلًا فی الموضوع، فهو الجزء الأخیر له، کما لا یبعد دعوی ذلک فی القِصاص؛ فإنّه مترتّب علی تحقّق القتل و مُضیّ زمانه و لو آناً ما.

و ثانیهما: ما لیس کذلک، بل فعلیّة الخطاب فیه مساوقة لوجود آخر جزء من موضوعه و شرطه، و لیس بینهما تقدّم و تأخّر زماناً و إن تأخّرت عنه رتبةً، فنسبة الحکم إلی موضوعه و إن لم تکن نسبة المعلول إلی علّته التکوینیّة، لکنّها نظیرها،

ص: 137

فتخلّف الحکم عنه یرجع إلی الخُلف و المناقضة؛ لأنّه یلزم أن لا یکون الجزءُ الأخیر جزءاً أخیراً، و علیه فرّعنا بطلان الشرط المتأخّر.

و توهّمُ: لزوم تقدّم الخطاب علی الامتثال زماناً؛ بتقریب: أنّ وجوب الإمساک- مثلًا- لو لم یتقدّم علی الإمساک- مثلًا- فی أوّل الفجر و لو آناً ما، فإمّا أن یکون المکلّف حین توجُّه الخطاب إلیه متلبِّساً بالإمساک أوْ لا، و علی کلا التقدیرین یستحیل توجُّه الخطاب إلیه؛ لأنّ طلب الإمساک ممّن فُرض تحقُّقه منه طلبٌ للحاصل، کما أنّ طلبه ممّن فُرض عدم تلبُّسه طلبٌ للجمع بین النقیضین، و کلاهما مستحیل، فلا بدّ من تقدُّم الخطاب علی زمان الانبعاث و لو آناً ما(1).

مدفوعٌ: بأنّه لو صحّ ذلک لصحّ فی نظیره؛ أعنی به العلّة و المعلول التکوینیّین، فیقال: المعلول حین وجود علّته: إمّا موجود أو معدوم، فعلی الأوّل یلزم إیجاد الموجود، و علی الثانی یلزم تأثیر الموجود فی المعدوم.

و الحلّ فی المقامین: أنّ المعلول أو الامتثال لو کانا مفروضی الوجود فی أنفسهما حین وجود العلّة و الخطاب یلزم ما ذکر من المحذور، و أمّا لو فرض وجودهما مع قطع النظر عنهما فلا یلزم من المقارنة الزمانیّة محذور أصلًا.

مضافاً إلی أنّ المکلّف إن کان عالماً قبل الفجر- مثلًا- بتوجُّه الخطاب و وجوب الصوم عند الفجر- مثلًا- کفی ذلک فی إمکان تحقُّق الامتثال حین الفجر، فوجوده قبله لغوٌ؛ و لذا قلنا: إنّ تعلّم الأحکام و لو قبلها واجب علی المکلّف، فالمحرِّک له هو الخطاب المقارن لصدور متعلّقه.

هذا، مع أنّ تقدّم الخطاب و لو آناً ما یستلزم فعلیّة الخطاب قبل وجود شرطه، فلا بدّ من الالتزام بالواجب المعلّق المستحیل کما مرّ.

هذا کلّه، مع أنّه لو تمّ ذلک لجری فی الواجب الموسّع- أیضاً- إذا وقع فی أوّل


1- کفایة الاصول: 131.

ص: 138

وقته؛ لعدم الفرق- حینئذٍ- إلّا فی وجوب المقارنة و جوازها، مع أنّهم لا یقولون بذلک.

و الغرض من هذه المقدّمة و إبطال القول بلزوم تقدُّم الخطاب المزبور، هو إثبات أنّ زمانَ شرط الأمر بالأهمّ و زمانَ فعلیّة الخطاب و زمانَ امتثاله أو عصیانه- الذی هو شرط الأمر بالمهمّ- کلَّها متّحدةٌ، کما أن الشأن هو ذلک بالقیاس إلی الأمر بالمهمّ و شرط فعلیّته و امتثاله أو عصیانه، و لا تقدُّم فی جمیع ما تقدّم بالزمان، بل التقدّم بینهما بالرتبة، و حینئذٍ فلا وقع لبعض الإشکالات التی أوردها بعضٌ(1) فی المقام:

منها: أنّ زمان عصیان الأمر بالأهمّ متّحد مع زمان خطاب المهمّ، فلا بدّ من فرض تقدُّم خطاب المهمّ علی زمان امتثاله، و هو یستلزم الالتزام بالشرط المتأخّر و غیر ذلک من الإشکالات.

ثمَّ قال فی آخر کلامه: لو تنزّلنا عمّا اخترناه، و التزمنا بأنّ وصفَ التعقُّب بالعصیان شرطٌ لفعلیّة خطاب المهمّ المتقدّم علی زمان امتثاله، لما استلزم ذلک الجمعَ بین الضدّین کما توهّم؛ بداهة أنّ عنوان التعقُّب بالمعصیة إنّما یُنتزع من المکلّف و تحقّق عصیانه فی ظرفه المتأخّر، فإذا فُرض وجودُ المعصیة فی ظرفها، و کونُ التعقُّب بها شرطاً لخطاب المهمّ، یکون الحالُ بعینه الحالَ فی فرض کون نفس العصیان شرطاً، و علیه فلا یکون اجتماع الطلبین فی زمانٍ واحد طلباً للجمع بین المتعلّقین، کما تُوهِّم هذا کلُّه فی المُضیَّقین(2). انتهی.

أقول: هذه المقدّمة هی عمدة المقدّمات التی ذکرها، و مع ثبوتها یثبت الترتُّب، و مع عدم ثبوتها یمتنع القول به، و إن ذکر بعض المقرِّرین لدرسه خلاف ذلک، و أنّه لا دخل معتدّاً به لهذه المقدّمة فی المطلوب، و أنّه قدس سره إنّما ذکرها دفعاً لبعض الإشکالات


1- انظر نهایة الدرایة 1: 231 سطر 4.
2- أجود التقریرات 1: 288- 293.

ص: 139

الواردة فی المقام، و أنّ العُمدة هو ما سواها من المُقدّمات، لکن لیس کذلک، بل العُمدة فی إثبات مطلوبه هی هذه، فلا بدّ من ملاحظة صحّة ما ذکره فیها و سقمه، فأقول:

أمّا ما ذکره من اتّحاد زمان البعث و الانبعاث(1) فهو صحیح؛ لأنّ المراد من الانبعاث هو اقتضاء الانبعاث- کما صرّح هو به(2)- لا الانبعاث الفعلی الخارجی، فالبعث و اقتضاء الانبعاث کلاهما فی زمان واحد، کما أنّ زمان العلّة و المعلول واحد و تأخُّرُ الانبعاثِ بهذا المعنی و المعلولِ عن البعث و العلّة رتبیٌّ لا زمانیّ.

و کذلک ما ذکره: من اتّحاد زمان الشرط و المشروط، و أنّ تأخُّر المشروط عن الشرط رتبیٌّ لا زمانیّ، لکن العصیان لیس کذلک، و لیس زمانه متّحداً مع زمان الشرط و الحکم و البعث؛ و ذلک لما تقدّم من أنّ المراد به هنا هو العصیان الخارجیّ، و هو- کما تقدَّم- عبارة عن تعطّل المکلّف عن الإتیان بالمأمور به فی زمانه؛ بحیث لا یتمکّن من فعله فی وقته المضروب له، فلا بدّ فی صدق العصیان من تعطّله عنه بمضیّ مقدار من الزمان و لو قلیلًا، و إلّا فهو فی أوّل الوقت لیس بعاصٍ و لا ممتثل، فالعصیان متأخّر زماناً عن الأمر و البعث.

و بالجملة: المراد بالترتُّب هو أن یکون الأمر بالأهمّ و الأمر بالمهمّ کلاهما مضیّقین، أو أحدهما مضیّقاً و الآخر مُوسّعاً فی زمان واحد إذا فُرض ابتداؤهما فی وقت واحد فی الثانی، کما إذا امر بالصلاة لدُلوک الشمس إلی غَسَق اللیل، و امر بالإزالة عند الدُّلوک فوراً، و فُرض أنّ مرتبة المهمّ متأخّرة عن مرتبة الأهمّ و فی طوله، و حینئذٍ فنقول: قد عرفت أنّ الأمر بالمهمّ إن کان مشروطاً بعصیان أمر الأهمّ، فیلزم تغایرُ زمان الأمر بالأهمّ مع زمان أمر المهمّ، و مُضیُّ مقدارٍ من الزمان یتحقّق به عصیان الأمر بالأهمّ الذی هو شرط الأمر بالمهمّ، و إلّا فلم یتحقّق الشرط بعدُ، و قد عرفت


1- فوائد الاصول 1: 344.
2- نفس المصدر: 342.

ص: 140

أنّه یعتبر فی الترتُّب اتّحاد زمانهما.

و إن أراد أنّ الأمر بالمهمّ لیس مشروطاً بالعصیان، بل مشروط بالتلبّس به و الشروع فیه، کما یظهر من ذیل عبارته فی التقریرات، و أنّه یندفع غائلة طلب الضدّین بذلک، ففیه: أنّ العصیان لیس أمراً مُتدرّج الوجود و إن احتاج إلی مُضیِّ زمانٍ من الوقت و تعطّلِ المکلّف فی مقدار من زمانٍ لا یمکنه فعل المأمور به الأهمّ فی ذلک الوقت المضروب له؛ لأنّه زمانیّ، فلا یمکن تصوُّر التلبُّس و الشروع فیه، بل إنّما یتحقّق دفعةً واحدة و فی آنٍ واحد، فإنّه ما دام یمکنه فعل المأمور به الأهمّ فی وقته لم یتحقّق العصیان، و فی الآن الذی لا یمکنه فعله یتحقّق العصیان و الشروع إنّما یتصوّر فی الأمر المتدرِّج الوجود و التحقُّق، لا فی مثله.

مضافاً إلی أنّه لو سلّمنا ذلک، و أغمضنا النظر عن هذا الإشکال، لکن الشروع فی العصیان و التلبّس به لیس فی المرتبة المتأخّرة عن الأمر بالأهمّ؛ لیتفرّع علیه تأخّر المشروط به- أیضاً- عنه، و لیس اشتراطه بأیّ شرط موجباً لتأخّره عن الأمر بالأهمّ فی الرتبة؛ أ لا تری أنّه لو اشترط الأمر بالمهمّ بطلوع الشمس- مثلًا- فهل یوجب تأخّره عن الأمر بالأهمّ؟! کلّا، و المرتبة- أیضاً- من الامور الواقعیّة، و لیست مجرّد الاعتبار.

و أمّا ما صرّح به بأنّه یمکن اشتراط الأمر بالمهمّ بعنوان انتزاعیّ، کمفهوم «الذی یعصی»، و أنّه- أیضاً- یدفع غائلة طلب الضدّین، ففیه: ما سیجی ء فی المقدّمة الخامسة.

المقدّمة الرابعة (التی ذکرها المیرزا النائینی قدس سره): أنّ انحفاظ الخطاب علی تقدیرٍ یُتصوّر علی أنحاء ثلاثة:

أحدها: أن یکون الخطاب مشروطاً بذلک التقدیر أو مطلقاً بالنسبة إلیه.

و بعبارة اخری: انحفاظه إمّا بالإطلاق أو التقیید اللحاظی، و ذلک إنّما هو

ص: 141

بالنسبة إلی القیود التی یمکن تقیید الحکم بها، فالأوّل مثل الأمر بالحجّ بشرط الاستطاعة، و الثانی کالأمر بالصلاة علی تقدیری إطارة الطیر و عدمها، فإنّ الخطاب فی الأوّل محفوظ فی حال وجود القید، و الثانی فی الحالتین.

الثانی: انحفاظه بنتیجة الإطلاق و التقیید، و ذلک بالنسبة إلی القیود التی لا یمکن تقیید الحکم بها، کالعلم و الجهل، و الإطلاقُ و التقیید لا بد أن یُستکشفا من الدلیل الخارجی، و الأوّل کجمیع الخطابات و الأحکام الشرعیة بالنسبة إلی صورتی العلم و الجهل، سوی الجهر و الإخفات و القصر للمسافر، فإنّ الإجماع قائم علی إطلاق الأحکام سواهما بالنسبة إلی صورتی العلم و الجهل، و الثانی مثل وجوب الجهر فی القراءة أو الإخفات و القصر فی السفر، فإنّ الإجماع قائم علی تقیید ذلک بصورة العلم، و لا یصحّ الأخذ بالإطلاق فی هذا القسم بدون الدلیل، و معه یُستکشف کونه مطلقاً أو مقیّداً فی نفس الأمر.

الثالث: ما لا یکون من قبیل هذین القسمین و ذلک بالنسبة إلی کلّ تقدیر یقتضیه نفس الخطاب کالفعل و الترک، فإنّه لا یمکن تقیید الخطاب بالفعل، فإنّه تحصیل الحاصل، و لا بالترک فإنّه طلب النقیضین، فإذا کان التقیید مستحیلًا فالإطلاق بالنسبة إلیهما- أیضاً- کذلک.

و الفرق بین هذا القسم و بین القسمین الأوّلین: أنّ نسبة الخطاب إلی التقدیر فی الأوّلین نسبة العلّة إلی معلولها، و فی الثالث نسبة المعلول إلی العلّة، و أیضاً الخطاب فی الأخیر متکفّل لبیان التقدیر- أی الفعل أو الترک- و متعرّض لحاله؛ حیث إنّه یقتضی فعل المتعلّق و عدم ترکه، و لا تعرّض فیه لشی ء آخر سوی ذلک التقدیر، بخلاف القسمین الأوّلین، فإنّه لا تعرّض للخطاب فیهما بنفسه للتقادیر، بل متعرّض لبیان أمر آخر.

ثمّ فرّع علی ذلک: أنّ الأمر بالمهمّ المشروط بعصیان الأمر بالأهمّ متأخّر عنه

ص: 142

بمرتبتین أو بمراتب، فلیس طلباً للجمع بین المتعلّقین. انتهی.

أقول: الإطلاق علی قسمین:

الأوّل: الإطلاق الذی یحتجّ به العبد علی مولاه عند المخاصمة، و هذا إنّما هو بالنسبة إلی القیود التی یمکن تقیید الخطاب بها.

الثانی: الإطلاق الذی لا یصحّ للعبد الاحتجاج به علی مولاه عند المنازعة، و هو بالنسبة إلی القیود التی لا یمکن تقیید الخطاب بها.

و وجه عدم صحّة احتجاجه علی المولی فیه هو أنّ المفروض عدم إمکان تقیید الخطاب بها حتّی یُحتجّ به.

ففی القسم الأوّل: إذا جعل القادر المختار شیئاً موضوعاً لحکمه فإنّ الحکم لا یتجاوز عن موضوعه، فإذا جعل الموضوع نفس الطبیعة المطلقة، کما لو قال: «أعتق رقبة»، و امتثل المکلّف، و أعتق فرداً منها، لا یصحّ للمولی أن یقول: «إنّی أردت غیر هذا الفرد»، فیحتجّ العبد علیه: بأنّه لو کان کذلک، فلا بدّ لک أن تقیّد الموضوع؛ لأنّ المفروض أنّه قادر مختار، و قد عرفت سابقاً أنّ الإطلاق عبارة عن جعل الموضوع طبیعة مطلقة، لا لحاظ سرایة الحکم إلی جمیع الحالات.

فتلخّص: أنّ الإطلاق الذی یصحّ أن یحتجّ به العبد علی مولاه قسم واحد، و لیس فیه لحاظ أنّه سواء کان کذا أو کذا، فإنّه تقیید، و إن أراد باللحاظ ما ذکرناه فلا مشاحّة فی الاصطلاح.

و توهّم: أنّه فی القسم الثالث جعل الخطاب بنحو القضیة المهملة.

مدفوعٌ: بأنّه لا فرق بین هذا القسم و بین القسمین الأوّلین فی أنّ للأمر مادّة و هیئة، و المادّة موضوعة للطبیعة المطلقة، و قد عرفت أنّ معنی الإطلاق هو ذلک لیس إلّا فمعنی «صلِّ» هو البعث إلی المادّة؛ أی طبیعة الصلاة بنحو الإطلاق، لا الطبیعة المهملة، غایة الأمر أنّ التقیید فی هذا القسم الثالث غیر ممکن، فلأجله لا یمکن الأخذ

ص: 143

بالإطلاق بالنسبة إلی الفعل و الترک؛ لأنّ مقتضی نفس الإطلاق هو الفعل لا لأجل عدم الإطلاق؛ ضرورة أنّ الموضوع فی هذا القسم الثالث هو الموضوع فی القسمین الأوّلین.

نعم یمکن الأخذ بإطلاق الهیئة فی هذا القسم.

و أمّا تفریعه القول بالترتّب علی ما ذکره من أنّ الأمر بالمهمّ متأخّر عن الأمر بالأهمّ المشروط بعصیان الأمر بالأهمّ فی الرتبة.

ففیه أوّلًا: أنّ العصیان لیس متأخّراً عن الأمر به رتبةً لعدم وجود ملاکه فیه کما سیجی ء بیانه.

و ثانیاً: مجرّد التأخّر الرتبی لا یفید فی تصحیح الترتُّب و دفع غائلة طلب الضدّین شیئاً، فمجرّد تأخّر الشرط فی الرتبة لا یصحِّح الترتُّب.

فاتّضح ممّا ذکرنا أنّ هذه المُقدّمة- أیضاً- علی فرض صحّتها لا تفید شیئاً، و إن نقل عنه أنّها أهمّ المقدّمات لتصحیح الترتُّب(1).

ثمّ إنّه ذکر لبیان تأخُّر الأمر بالمهمّ تقریبات:
اشارة

الأوّل: أنّ الإطاعة فی مرتبة متأخّرة عن الأمر؛ لأنّ الانبعاث فی رتبة متأخّرة عن البعث، و الإطاعة مع عدمها- أیضاً- فی رتبة واحدة، فالعصیان متأخّر عن الأمر بمرتبة واحدة؛ لأنّه فی رتبة الإطاعة التی هی متأخّرة عن الأمر، فالحکم المشروط بعصیان أمرٍ متأخّرٌ عن ذلک الأمر.

الثانی: أنّ الأمر بالشی ء مقتضٍ للنهی عن ضدّه العامّ- بمعنی النقیض- أو مستلزم له، فالنهی عن الضدّ متأخّر عن الأمر؛ حیث إنّه مقتضٍ أو مستلزم له، فهو متأخّر عن مقتضیه فی الرتبة، فلا بدّ أن یکون العصیان متأخّراً عن الأمر؛ لما عرفت من أنّ الشی ء مع مصداقه فی مرتبة واحدة.


1- فوائد الاصول 1: 348.

ص: 144

الثالث: أنّ المشروط متأخّر عن شرطه بمرتبة واحدة، و حیث إنّ الأمر بالمهمّ مشروط بعصیان الأمر بالأهمّ، فهو متأخّر عنه.

أقول: قد عرفت أنّ أساس الترتُّب هو ذلک، و أنّ دفع غائلة طلب الضدّین إنّما هو باختلاف الطلبین فی الرتبة؛ بحیث لو فرض دفعها لا بهذه الحیثیّة، بل لحیثیّة اخری، لم یکن ترتُّباً و إن دفع الغائلة به، فلا بدّ أوّلًا من التنبیه علی أمرٍ بدیهیّ، و هو أن العصیان هل هو أمر وجودیّ زمانیّ، أو أنّه عدمیّ؛ أی الترک مطلقاً، أو لا لعذر؟

لا إشکال فی أنّه الأخیر، و أنّ العصیان عبارة عن ترک المأمور به لا لعذر، فهو أمر عدمیّ، لکن لا بدّ أن ینقضی من الوقت مقدار لا یتمکّن العبد من فعل المأمور به فی ذلک الوقت، فإذا ثبت أنّه أمر عدمیّ فإثبات المرتبة له؛ و أنّه فی مرتبة کذا و کذا، أو أنّه شرط واضح الفساد، فإنّ العدم و العدمیّ لا تحقّق لهما و إن احتاجا إلی مضیّ زمان بالعَرض، و قد تقدّم أنّ ما یقال: من أنّ عدم الملکة أو العدم المضاف له حظّ من الوجود، فهو فی مقام التعلیم و التعلُّم، و إلّا فالعدم عدم مطلقاً، و الحظّ للوجود إنّما هو للملکة أو المضاف إلیه، و عرفت أنّ القضایا التی بحسب الصورة موجبة و جُعل الموضوع فیها أمراً عدمیّاً، مثل «إنّ شریک الباری ممتنع»، لا بدّ و أن ترجع إلی السالبة المحصّلة بانتفاء الموضوع؛ أی أنّه لیس بموجود البتّة، و إلّا فالحکمُ بثبوت شی ء لشی ء فرع ثبوت المثبت له، حکمٌ عقلیّ کلّیّ بدیهیّ غیر قابل للتخصیص، و أمّا قولنا:

العقاب علی العصیان، فلا بدّ من توجیهه- أیضاً- حتّی لا یرد علیه هذا الإشکال العقلی، و کذلک لا یمکن جعل العصیان شرطاً لحکم، کما فیما نحن فیه، فإنّ الشرط مصحّح لفاعلیّة الفاعل أو لقابلیّة القابل، و العدم لا یصلح لذلک؛ فإنّه لا بدّ أن یؤثّر الشرط فی المشروط، و العدم غیر قابل للتأثیر فی شی ء و توهّمُ اختصاص ذلک بالشروط التکوینیّة لا الشرعیّة، فلا یعتبر فی الثانی تأثیر الشرط فی المشروط، خلافُ مذهب العدلیّة من إناطة الأحکام الشرعیة بمصالح و مفاسد واقعیّة، و أنّها

ص: 145

لیست جُزافیة.

و أمّا التقریب الأوّل:

ففیه أنّ التقدُّم و التأخّر الرتبیّین العقلیّین لا بدّ أن یکون لهما ملاک: إمّا بالتجوهر، کتقدّم أجزاء الماهیّة علیها فی الرتبة، أو بالعلّیة، کتقدّم العلّة علی معلولها، أو بالطبع، کتقدّم المقتضی علی مقتضاه بالطبع و الرّتبة، کلّ ذلک منتفٍ فیما نحن فیه؛ أی العصیان بالنسبة إلی الأمر؛ لیکون العصیان متأخّراً عنه فی الرتبة. نعم الإطاعة متأخّرة عن الأمر تأخّراً طبعیّاً لکن نقیضها و مصداق نقیضها لیسا کذلک لعدم الملاک فیهما.

و أمّا التقریب الثانی:

ففیه:

أوّلًا: أنّک قد عرفت أنّ الأمر بالشی ء لا یستلزم النهی عن الضدّ العامّ.

و ثانیاً: سلّمنا ذلک، لکن عرفت أنّ تأخُّر شی ءٍ عن شی ء فی الرتبة لا بدّ أن یکون له ملاک مفقود فیه، و منشأ توهُّم تأخُّر العصیان عن الأمر فی الرتبة هو الخلط بین التقدُّم الرُّتبی و الخارجی و ملاحظة أنّ الموجودَ مع شی ءٍ متأخّرٍ عن أمرٍ متأخّرٌ عن ذلک الأمر فی الحسّ و الخارج.

لکن أین هذا من التقدُّم الرُّتبیّ و التأخّر کذلک؟! فإنّ الرتبة أمر عقلیّ موطنه العقل لا الخارج.

و أمّا التقریب الثالث:

ففیه أنّ المشروط لیس متأخّراً عن الشرط فی الرتبة؛ لعدم ملاک التأخّر الرّتبی فیه، فرفع غائلة طلب الضدّین فیما إذا کان أمر المهمّ مشروطاً بعدم الإتیان بأمر الأهمّ، إنّما هو لعدم اجتماع الأمرین و الطلبین فی زمان واحد لا بالرتبة.

المقدّمة الخامسة (التی ذکرها المیرزا النائینی قدس سره): هی أنّه تنقسم موضوعات التکالیف و شرائطها إلی أقسام: لأنّ الموضوع إمّا قابل للرفع و الوضع أو لا، و الأوّل إمّا قابل لکلٍّ من الرفع و الدفع، أو قابل للدفع فقط، و علی کلا التقدیرین إمّا قابل

ص: 146

للرفع الاختیاری للمکلّف- أیضاً- أو لا، و الرفع التشریعی إمّا بنفس التکلیف أو بامتثاله.

هذا خلاصة التقسیم، فنقول: فیما إذا کان الموضوع ممّا لا تناله ید الوضع و الجعل و الرفع التشریعیین، کالوقت بالنسبة إلی الصلاة، فالخطاب المجامع لهذا الخطاب یقتضی إیجاب الجمع علی المکلّف، مع إطلاق کلّ واحد من الخطابین بالنسبة إلی حالتی فعل الآخر و ترکه، و إن کان کلٌّ منهما مشروطاً بعدم الآخر أو أحدُهما، فلا یقتضی الجمع.

و أمّا إذا کان قابلًا للرفع و الوضع الشرعیین، فالخطاب المجامع إن لم یکن متعرّضاً لموضوع الآخر من دفع أو رفع، فالکلام فیه هو الکلام فی القسم الأوّل طابق النعل بالنعل.

و أمّا إذا کان متعرّضاً له فإمّا أن یکون نفس الخطاب رافعاً أو دافعاً لموضوع الآخر، أو یکون امتثاله رافعاً لموضوع الآخر:

فعلی الأوّل: فهو ممّا یوجب عدم اجتماع الخطابین فی الفعلیّة، و لا یعقل فعلیّة کلیهما؛ لأنّ وجود أحد الخطابین رافع لموضوع الآخر فلا یبقی مجال لفعلیّة الآخر حتّی یقع المزاحمة.

و علی الثانی: أی ما کان امتثال أحد الخطابین رافعاً لموضوع الآخر، فهذا هو محلّ البحث فی الخطاب الترتُّبی؛ حیث یتحقّق اجتماع کلٍّ من الخطابین فی الفعلیة؛ لأنّه ما لم یتحقّق امتثال أحد الخطابین- الذی فرضنا أنّه رافع لموضوع الآخر بامتثاله- لا یرفع الخطاب الآخر، فیجتمع الخطابان فی الزمان و فی الفعلیّة بتحقّق موضوعهما، فهل یوجب هذا الاجتماع إیجاب الجمع؛ حتّی یکون مُحالًا، أو لا؟

الحقّ أنّه لا یوجب ذلک، بل یقتضی نقیض إیجاب الجمع؛ بحیث لا یکون الجمع مطلوباً لو فرض إمکانه؛ لمکان أنّ الخطاب بالمهمّ مشروط بعصیان الأهمّ

ص: 147

و خلوّ الزمان عنه، و مع هذا کیف یقتضیان إیجاب الجمع؟! فلو اقتضیا إیجاب الجمع و الحال هذه لزم من المحالات ما یوجب العجب فی کلّ من طرف الطلب و المطلوب:

أمّا الثانی: أی لزوم المحال من طرف المطلوب، فلأنّ مطلوبیّة المهمّ و وقوعه علی هذه الصفة إنّما یکون فی ظرف عصیان الأهمّ و خلوّ الزمان عنه، فوقوع المهمّ علی صفة المطلوبیّة فی حال وجود الأهمّ و امتثاله کما هو بحیث یعتبر ذلک فیه یستلزم الجمع بین النقیضین؛ و أنّ المطلوبیّة مقیّدة بوجود الأهمّ و عدمه.

و أمّا الأوّل: أی استلزام ذلک فی طرف الخطاب و الوجوب، فلأنّ خطاب الأهمّ من علل عدم خطاب المهمّ؛ لاقتضائه رفع موضوعه، فلو اجتمع خطابا الأهمّ و المهمّ، و صار خطاب المهمّ فی عرض خطاب الأهمّ، لکان من اجتماع علّة الشی ء مع عدم علّته، فلا بدّ إمّا أن تخرج العلّة عن کونها علّة، و إمّا العدمُ عن کونه عدماً، و إمّا أن تبقی العلّة علی علّیّتها، و العدمُ علی عدمه، و الکلّ کما تری من الخُلف و المناقضات العجیبة من جهات عدیدة، مضافاً إلی أنّ البرهان المنطقی- أیضاً- علی خلاف ذلک؛ فإنّ الأمر الترتُّبی المبحوث عنه فی المقام إذا أبرزناه بصورة القضیّة الحملیّة، یکون من المانعة الجمع لا الخلوّ، هکذا: إمّا أن یجب الإتیان بالأهمّ، و إمّا یجب الإتیان بالمهمّ.

انتهی(1) ملخّص کلامه قدس سره.

أقول: جمیع الصور المتصوَّرة فی المقام: إمّا طلب للجمع بین الضدّین، و إمّا خارج عن الترتُّب؛ و ذلک لأنّ الشرط: إمّا هو عصیان أمر الأهمّ، فقد عرفت أنّ تحقّقه یحتاج إلی مُضیّ مقدار من الوقت لا یتمکّن المکلّف معه من فعل الأهمّ و لو آناً ما، و حینئذٍ یسقط الأمر بالأهمّ، و یصیر الأمر بالمهمّ فعلیّاً، و لا بدّ فی الترتُّب- کما عرفت- من اجتماع الأمرین فی زمان واحد، و هنا لیس کذلک.

و إمّا أن یجعل الشرط هو الشروع و الاشتغال بالعصیان ففیه: أنّه قد عرفت أنّ


1- فوائد الاصول 1: 352- 361.

ص: 148

العصیان أمرٌ آنیّ لیس فیه شروع و خروج.

و ثانیاً: سلّمنا ذلک، لکن نقول: العصیان حین الشروع فیه إمّا متحقّق أو لا، لا إشکال فی أنّه الثانی، و حینئذٍ فالأمر بالأهمّ باقٍ و لم یسقط بعدُ؛ لأنّ المفروض عدم تحقّق العصیان الذی هو موجب لسقوطه، و المفروض أنّ شرط الأمر بالمهمّ- أیضاً- متحقّق؛ لأنّ المفروض أنّه الشروع فی العصیان لا نفس العصیان، و قد تحقّق الشروع و التلبّس به، فاجتمع الطلبان فی زمان واحد، و لیس ذاک إلّا طلباً للجمع بین المتعلَّقین، و هو محال.

و إن جعل الشرط عنواناً انتزاعیّاً ک «الذی یعصی»- الذی هو أمر اعتباریّ منتزع عن العصیان، فلا یخلو إمّا أن یکون هو مساوقاً للعصیان الخارجی، أو مساوقاً للشروع فیه و التلبُّس به، أو لما قبل العصیان:

فعلی الأوّل فلیس هو طلباً للجمع بین الخطابین فی زمان واحد، بل فی زمانین، کما إذا جعل الشرط نفس العصیان الخارجیّ طابق النعل بالنعل.

و علی الثانی و الثالث فهو طلب للجمع بین متعلَّقی الخطابین، و هو مستحیل.

حول أمثلة الترتّب:

ثمّ إنّه قدس سره استدلّ علی ما ذهب إلیه فی المقام بوقوعه فی الأحکام الشرعیّة:

منها: أنّه لو فرض أنّ اللَّه تعالی حرّم الإقامة من أوّل الفجر إلی الزوال، ثمّ قال: «إن عصیت و أقمت وجب علیک الصوم».

و منها: أنّه لو فرض أنّه حرّم الإقامة من الزوال إلی الغروب، ثمّ قال: «إن عصیت و أقمت وجب علیک إتمام الصلاة أربع رکعات».

و منها: ما لو فُرض أنّه کان مدیوناً فی السنین السابقة، و فرض أنّه ربح فی السنة التی هو فیها، فهو مأمور بأداء الدَّین، و أنّه إن عصی و لم یؤد الدین وجب علیه

ص: 149

خمس ربحه.

و غیر ذلک من الفروع التی رُتِّب فیها حکمٌ علی عصیانِ حکمٍ آخر، و لا مفرّ عنها للفقیه إلّا بالالتزام بالترتُّب، و أدلّ الدلیل علی إمکان الشی ء وقوعه.

و الفرق بین تلک الأمثلة و بین ما نحن فیه: هو أنّ الجمع بین الحکمین فی مقام الامتثال فی الأمثلة ممکن، بخلاف ما نحن فیه، فإنّ المفروض فیه أنّ طلبهما مع قطع النظر عن الترتُّب طلب للجمع بین الضدّین، و قد عرفت أنّ هذا الفرق غیر فارق، و أنّ الترتُّب إن کان ممکناً فلا فرق فیه بین الموردین(1).

أقول: یرد علیه:

أوّلًا: أنّ العصیان لیس متأخّراً عن الأمر فی الرتبة- کما عرفت، و سنشیر إلیه- و الترتُّب إنّما هو فیما إذا کان الشرط متأخّراً عن المشروط فیها.

و ثانیاً: موضوع القصر و الإتمام إنّما هو نفس الإقامة أو العزم علیها؛ لقوله تعالی: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ وَ مَنْ کانَ مَرِیضاً أَوْ عَلی سَفَرٍ»(2) الآیة، و لیس موضوعها عصیان الأمر بالإقامة، کما هو واضح.

و علی فرض أنّ عصیانَ کلِّ حکمٍ متأخّرٌ عنه فی الرتبة، ففیما نحن فیه موضوع الحکم هو الإقامة أو العزم علیها، و لیسا مُتأخّرَینِ عن النهی عن الإقامة فی الرتبة؛ لعدم وجود ملاک التأخّر الرُّتبی فیه، و النقض موقوف علی صحّة ما ینتقض به و مُسلَّمیَّته، و ما ذکره لیس من الترتُّب فی شی ء.

و توهّم: أنّ الإقامة و إن لم تکن متأخّرة عن النهی عنها بالذات، لکن العصیان منتزع عن الإقامة، و الإقامة منشأ لانتزاع مفهوم العصیان، فالإقامة متأخّرة عن الحکم فی الرتبة بالعَرض.


1- انظر فوائد الاصول 1: 357- 359.
2- البقرة: 185.

ص: 150

فاسد؛ لأنّ العصیان و إن کان مُنتزَعاً عن الإقامة، لکن لا من حیث إنّها إقامة، بل من حیث إنّها مخالَفة للتکلیف بدون عذر، و إلّا یلزم أن یکون المقیم مطلقاً- سواء کانت الإقامة محرّکة أم لا، و سواء کان ملتفتاً إلی التکلیف أم لا، و سواء خالفَ بلا عذر أو مع العذر- قد ارتکب محرّماً و معصیة، و هو کما تری.

و ما یقال: کلّ ما بالعَرض لا بدّ و أن ینتهی إلی ما بالذات، فالعصیان أمر عرضیّ لا بدّ و أن ینتهی و یرجع إلی ذاتیّ، و هو الإقامة، فهو صحیح، لکن ما بالعرض فیما نحن فیه یرجع إلی حیثیّة المخالفة للحکم، لا إلی ذات الإقامة.

و بالجملة: ما ذکره من الأمثلة لیس من الترتُّب أصلًا.

و ثالثاً: لو فُرض أنّ الموضوع لوجوب الصوم هو العصیان، و فُرض تسلیم تأخُّر العصیان عن الأمر، فإمّا أن تکون الإقامة من الفجر إلی الزوال، أو من الزوال إلی الغروب، أو من ابتداء العشرة إلی انتهائها، عصیاناً واحداً؛ بحیث یتوقّف تحقُّقه علی مُضیّ تمام المدّة، و أنّه لو بقی من المدّة أقلّ قلیل لم یتحقّق العصیان، أو لا، بل الإقامة فیها فی کلّ آنٍ مفروضٍ معصیة واحدة:

فعلی الأوّل: یلزم وجوب الصوم من الزوال إلی الغروب فی المثال الأوّل، و بعد الغروب فی المثال الثانی، و بعد انقضاء العشرة فی الثالث، و الکلّ کما تری غیر واقع فی الشریعة، و ذلک کلّه واضح؛ لأنّ الحکم إنّما یتحقّق و یصیر فعلیّاً إذا تحقّق الشرط و الموضوع- أی العصیان، و المفروض أنّ تحقّقه یحتاج إلی مُضیّ المدّة المذکورة.

و علی الثانی: فالموضوع و الشرط: إمّا هو معصیة واحدة منها(1)، أو جمیع المعاصی فی المدّة الواقعة من الفجر إلی الزوال، أو من الزوال إلی الغروب، أو إلی انقضاء العشرة:

فعلی الثانی الکلام فیه هو الکلام فی الأوّل طابق النعل بالنعل.


1- أی من المعاصی المفروضة فی کل آنٍ من آنات الإقامة.

ص: 151

و علی الأوّل: فالعصیان- کما عرفت- یحتاج فی تحقُّقه إلی مُضیّ مقدار من الوقت، فالمعصیة فی الآن الأوّل تتوقّف علی مُضیّ ذلک الآن، فیلزم وجوب الصوم بعد ذلک الآن من الفجر، و هو- أیضاً- کما تری.

و رابعاً: قد عرفت أنّ الترتُّب إنّما هو فیما لو کان الأمران فی زمان واحد، و علی فرض کون الشرط هو العصیان یسقط الأمر بالأهمّ عند فعلیّة الأمر بالمهمّ.

مضافاً إلی أنّ الأمثلة المذکورة ممّا یمکن الجمع فیها بین الحکمین فیها، و الترتُّب لیس کذلک.

هذا إذا جعل العصیان الخارجیّ شرطاً للأمر بالمهمّ.

و أمّا إذا جعل الشرط هو العنوان المنتزع- کما إذا نهی عن الإقامة، و قال: «إن کنت ممّن یعصی هذا الحکم، أو ممّن یقیم فی المدّة، وجب علیک الصوم»- فیرد علیه أنّ تلک الأمثلة دلیل علی نقیض مطلوبه و عدم صحّة الترتُّب و عدم إمکانه؛ لأنّه لو کان ذلک ترتُّباً لزم إمّا أن لا تقع الإقامة مبغوضة، و إمّا أن لا یقع الصوم مطلوباً، کما صرّح قدس سره فی الأمرین المترتّبین: أنّهما بحیث لو أتی بهما المکلّف علی فرض المحال، لم یقعا علی صفة المطلوبیّة(1)، و فی المثال حیث إنّ الأهمّ حکم تحریمیّ، و المهمّ المترتّب علیه حکم إیجابیّ، فبناء علی ما ذکره لو أقام و صام لزم إمّا أن لا تقع الإقامة علی صفة المبغوضیّة، و لم تکن محرّمة، أو لا یقع الصوم علی صفة المطلوبیّة، و لا یکون واجباً، مع أنّه لا إشکال فی أنّ الإقامة وقعت فی الأمثلة مبغوضة، و الصوم محبوباً، و هو دلیل علی أنّ الأمثلة لیست من الترتُّب فی شی ء.

و أمّا مسألة الخُمس فهی لیست من الترتُّب أصلًا؛ لأنّ موضوع الخُمس هو الغنیمة؛ لقوله تعالی: «وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ»(2) الآیة، فکلّما


1- انظر فوائد الاصول 1: 363.
2- الأنفال: 41.

ص: 152

تحقّقت الغنیمة یتحقّق وجوب الخمس فی آخر تلک السنة بشرائطه، غایة الأمر أنّه لو کان علیه دَیْن و أدّاه فی السنة، لا یجب خمسه؛ لانتفاء موضوعه- أی الغنیمة- و لیس وجوب الخمس فی الشریعة مترتّباً علی عصیان الأمر بالأداء کما لا یخفی.

و قال المحقّق العراقی قدس سره فی المقام ما حاصله: ما ذکره الاصولیّون من الترتُّب- لتصحیح الأمرین المتعلّقین بالضدّین- فی غایة المتانة، و لا إشکال فیه، و لکن لا حاجة إلیه فی المقام؛ و ذلک لأنّه لو فرض أنّ الأمرین متساویان فی الأهمیّة فلا یصحّ أن یقال: إنّ کلّاً منهما مشروط بعصیان الآخر لأدائه إلی الاستحالة، و هو تقدّم الشی ء علی نفسه؛ حیث إنّ العصیان متأخّر عن الأمر، و المشروط بالمتأخّر- أیضاً- متأخّر، فإذا فُرض أنّ کلّ واحد منهما مشروط بعصیان الآخر، لزم تقدّم کلٍّ منهما علی الآخر و تأخّره عنه، و لیس کلّ واحد منهما مشروطاً بعدم الآخر أیضاً، لا لأجل ما ذُکر؛ فإنّ الاستحالة غیر لازمة له، و لا لأجل محذور آخر، و هو لزوم طلب الجمع بین الضدّین إذا ترکهما المکلّف کلیهما؛ حیث إنّ شرط کلٍّ منهما متحقّق؛ لأنّه لو أوجد أحدهما ینهدم موضوع الآخر و شرطه، فلا یلزم الاستحالة و طلب الجمع، بل عدم مشروطیّة کلٍّ منهما بعدم الآخر لعدم الداعی و الباعث لجعل المطلق مشروطاً، مع إمکان إبقاء الطلبین علی إطلاقهما، کما هو المفروض فیما نحن فیه، غایة الأمر أنّ العقل حاکم بتخییر المکلّف بینهما. هذا فی المهمّین.

و هکذا الکلام فیما إذا کان أحدهما أهمّ من الآخر، فإنّ عدم استلزام الطلبین اللّذین أحدهما أهمّ من الآخر للجمع بین طلب الضدّین إنّما هو لأجل أنّ اقتضاء الأمر بالمهمّ اقتضاء ناقص، و اقتضاء الأمر بالأهمّ اقتضاء تامّ، و ذلک فإنّ الأمر قد یقتضی سدّ باب جمیع الأعدام المتصوّرة المتوجّهة إلی المأمور به، کالعدم من جهة الشرط أو وجود المانع أو وجود المُزاحم، و حینئذٍ فاقتضاؤه تامّ، و قد لا یقتضی سدّ جمیع الأعدام المتصوّرة بل بعضها، کالأمر بالمهمّ؛ حیث إنّه لا یقتضی سدّ العدم

ص: 153

المتوجّه إلیه من ناحیة وجود المزاحم، و هو المأمور به بالأمر بالأهمّ، و حینئذٍ فالأمران کلاهما باقیان علی إطلاقهما، و مع ذلک لا یلزم طلب الجمع بدون الاحتیاج إلی جعل الأمر بالمهمّ مشروطاً بعصیان أمر الأهمّ(1).

ثم استشکل علی نفسه بما أورده صاحب الکفایة قدس سره- کما أنّ المیرزا النائینی قدس سره أیضاً أورد هذا الإشکال علی نفسه، و هو أنّه و إن لا یلزم الجمع بین الطلبین فی مرتبة الأهمّ، و لا مطاردة بینهما فی هذه المرتبة، إلّا أنّ المطاردة بینهما باقیة فی مرتبة الأمر بالمهمّ؛ بداهة فعلیّة الأمر بالمهمّ و الأهمّ کلیهما فی تلک المرتبة، و لیس ذلک إلّا طلباً للجمع بین الضدّین، و هو مُستحیل(2)-.

و أجاب عنه بما ذکره: من أنّ اقتضاء الأمر بالمهمّ اقتضاء ناقص لا یسدّ باب جمیع الأعدام المتوجّهة إلیه، فمع الأمر بالمهمّ لیس طلباً للجمع بینهما(3).

و أجاب المیرزا النائینی قدس سره عن الإشکال: بأنّ الأمر بالمهمّ مشروط بعصیان الأهم، فلیس طلباً للجمع بینهما(4).

أقول: جمیع ما ذکره قدس سره صحیح إلّا ما ذکره فی مقام الجواب عن الإشکال، فإنّه إن أراد أنّ اقتضاء الأمر بالمهمّ ناقص ما دام لم یسقط الأمر بالأهمّ بالعصیان، فإذا عصاه سقط أمره، و صار أمر المهمّ تامّاً، فهو خارج عن الترتُّب؛ لما عرفت من أنّ الأمرین فی الترتّب لا بدّ أن یکونا فی زمان واحد، و دفع غائلة اجتماع الطلبین بالتقدّم و التأخّر الرتبیین، و ما نحن فیه لیس کذلک.

و إن أراد أنّ اقتضاء الأمر بالمُهمّ یصیر تامّاً قبل سقوط الأمر بالأهمّ و لو


1- نهایة الأفکار 1: 373، و مقالات الاصول: 119 سطر 20.
2- کفایة الاصول: 166- 167.
3- انظر مقالات الاصول 1: 120 سطر 11، و نهایة الأفکار 1: 375.
4- فوائد الاصول 1: 375.

ص: 154

آناً ما، فیلزم طلب الجمع بین الضدّین فی ذلک الآن بدون أن یترتّب أحدهما علی الآخر، و هو محال.

و من ذلک یظهر الجواب عمّا ذکره المحقّق النائینی قدس سره أیضاً.

و یظهر- أیضاً- فساد تقریب آخر ذکروه للترتُّب، و حاصله: أنّ اقتضاء کلّ أمر إنّما هو فی مرتبة ذاته، لا فی مرتبة تأثیره و معلوله، کما أنّ اقتضاء العلّة للمعلول إنّما هو فی مرتبة ذاتها، لا فی مرتبة المعلول، فاقتضاء الأمر بالأهمّ فی مرتبة ذاته لا فی مرتبة تأثیره، و کذلک اقتضاء الأمر بالمهمّ- أیضاً- فی مرتبة ذاته، و هی مرتبة تأثیر الأمر بالأهمّ، لا فی مرتبة ذات الأمر بالأهمّ، و حینئذٍ ففی مرتبة اقتضاء الأمر بالمهمّ لیس للأمر بالأهمّ اقتضاء، فیندفع غائلة طلب الضدّین.

و جوابه یظهر ممّا ذکرناه، و حاصله: أنّه لا یخلو إمّا أن یبقی الأمر بالأهمّ و اقتضاؤه لأثره فی مرتبة اقتضاء الأمر بالمهمّ و حین فعلیّته، أو لا، بل یسقط الأمر بالأهمّ قبل اقتضاء الأمر بالمهمّ:

فعلی الأوّل فهو لیس إلّا طلباً للجمع بین الضدّین بدون التقدُّم و التأخُّر الرُّتبیین، و هو محال.

و علی الثانی یخرج الفرض عن محطّ البحث؛ فإنّک قد عرفت غیر مرّة أنّ محطّه إنّما هو فیما إذا کان هناک أمران متعلّقان بالضدّین فی زمان واحد، و کان المهمّ منهما متأخّراً عن الآخر فی الرتبة، و إنّ ما ذکره لیس کذلک.

فانقدح من جمیع ما ذکرناه أنّ الإشکال الذی ذکره الشیخ البهائی فی المقام لا یندفع بالترتُّب فإن أمکن دفعه بما ذکرناه سابقاً فهو، و إلّا فالإشکال باقٍ بحاله، فیلزم فساد الضدّ العبادیّ لو لم نقل بکفایة وجود الملاک فی صحّة العبادة و عدم احتیاجها إلی الأمر.

ص: 155

الفصل الرابع عشر فی أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط

هل یجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه؟ و قبل الخوض فی المطلب یقع الکلام فی محطّ البحث، و أنّه ما ذا؟ فإنّه یتصوّر علی وجوه:

الأوّل: أنّه یحتمل أن یراد بالإمکان فیه هو الإمکان الذاتیّ؛ بأن یقال: هل یمکن صدور الأمر ذاتاً من الآمر مع علمه بانتفاء شرطه، أو لا؛ حیث إنّ الأمر من الأفعال الاختیاریّة، فلا بدّ له من علّة تامّة مرکّبة من الأجزاء و الشرائط، فمع انتفاء الشرط لا یمکن وجود المشروط؟

الثانی: أن یراد بالإمکان الوقوعی منه، و یراد بالشرط شرط الأمر؛ بأن یقال: هل یمکن صدور الأمر و وقوعه فی الخارج من الآمر مع علم الامر بانتفاء شرط الأمر، و أنّه لا یلزم منه فی الخارج محذور، أو لا، بل یلزم من وجوده المحال؟

الثالث: أن یُراد الإمکان الوقوعیّ- أیضاً- لکن یراد بالشرط شرط المأمور به و متعلّق الأمر؛ أی شرط وجوده.

الرابع: أن یراد الإمکان الوقوعی- أیضاً- لکن ارید من الشرط شرط التکلیف، کقدرة العبد علی الامتثال.

ص: 156

و بعبارة اخری: محلّ البحث هو: أنّه هل یجوز التکلیف بغیر المقدور أو لا؟

الخامس: أن یقال: هل یجوز أمر الآمر و إنشاؤه للتکلیف مع علمه بانتفاء شرط فعلیّة التکلیف أو لا یجوز؟

فنقول: أمّا الأوّل فهو لا یوافق عنوان البحث؛ حیث اخذ فی عنوانه علم الآمر بانتفاء الشرط، فإنّه علیه لا وجه للتقیید بالعلم کما لا یخفی، و کذلک الثانی، و أنّه لا بدّ من حذفه إلّا أن یرجع إلی الثالث.

و أمّا الثالث فهو ممکن، و البحث فیه معقول، و لذلک وقع البحث فیه بین الأشاعرة و المعتزلة.

و کذلک الرابع و الخامس؛ بأن یقال: هل یجوز إنشاء التکلیف مع العلم بعدم حصول شرط التکلیف أبداً، کعدم النسخ، کما یظهر من استدلال الأشاعرة لجواز ذلک بقضیة أمر(1) إبراهیم علیه السلام بذبح ولده، فإنّه تعالی أمره بذبح ابنه مع علمه تعالی بعدم وجود شرط فعلیّة وجوب الذبح، و هو عدم النسخ.

و حینئذٍ فنقول: إنّ هذا البحث من المعتزلة و الأشاعرة من شُعب النزاع فی اتّحاد الطلب و الإرادة، فذهبت الأشاعرة إلی تغایرهما، و أنّ فی النفس ما یسمّونه کلاماً نفسیّاً، و الطلب هو الإنشائی منه، و أنّه یمکن أن یطلب المولی شیئاً و ینشئه، لکن لم تتعلّق إرادته به؛ حیث إنّه لو تعلّقت إرادته به لزم المحال، و هو تخلُّف المراد عن الإرادة(2)، فذهبوا إلی جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه(3)، و حیث إنّ الإمامیّة و المعتزلة ذهبوا إلی اتّحادهما مصداقاً- و أنّه لا شی ء فی النفس غیر الإرادة و ما هو مبدأٌ للطلب فیما نحن فیه، و أنّ مبدأه و منشأه هی الإرادة فقط- ذهبوا إلی عدم جواز


1- هدایة المسترشدین: 304، سطر 19.
2- هدایة المسترشدین: 133، کفایة الاصول: 86- 87.
3- انظر کفایة الاصول: 169- 170، و القوانین 1: 126 سطر 1، و معالم الدین: 85 سطر 10.

ص: 157

أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه؛ لعدم ما هو منشأ و مبدأ له فی النفس، فإنّ البعث الحقیقی إنّما هو للانبعاث، فمع العلم بعدم انبعاث المکلّف لعدم شرطه یقبح البعث، فلا یمکن صدوره من المولی الحکیم(1).

و لکنّه مبنیّ علی القول بانحلال التکالیف الکلّیة و العامّة المتوجّهة إلی العموم إلی تکالیف جزئیّة متوجّهة إلی آحاد المکلّفین، لکن قد عرفت ما فیه.

توضیح ذلک: أنّک قد عرفت أنّ البعث الحقیقیّ لا یمکن بالنسبة إلی الشخص العاجز الغیر القادر، و لا یصحّ للشارع بعثه إلی الغیر المقدور له، و کذا بالنسبة إلی من یعلم أنّه لا ینبعث، و کذلک بالنسبة إلی من یعلم الآمر بأنّه یأتی بالمأمور به و إن لم یأمره به فی التوصُّلیّات، و کذلک بالنسبة إلی خصوص المکلّف الذی یکون المأمور به خارجاً عن مورد ابتلائه؛ کلّ ذلک لأجل أنّ غایة البعث و الزجر الحقیقیّین هو انبعاث المکلّف إلی المأمور به و انزجاره عن المنهی عنه، اللذان هما غایتان للبعث و الزجر و مبدءان لهما، المنتفیان فی هذه الموارد، فیمتنع البعث و الزجر إلی أشخاص هؤلاء المکلّفین؛ لعدم المبدأ و المنشإ لهما، فلو انحلت الأوامر و النواهی الکلّیّة القانونیّة المتوجّهة إلی عموم المکلّفین إلی أوامر و نواهٍ جزئیّة متوجّهة إلی آحاد المکلّفین و أشخاصهم، لزم الالتزام بعدم ثبوت الأحکام للعاجزین و الجاهلین القاصرین، و کذلک العاصین و الآتین بالمأمور به من دون بعث، و هو کما تری لا یلتزم به أحد، فیکشف ذلک عن فساد دعوی الانحلال. مضافاً إلی أنّه یؤدّی إلی الاختلال فی الفقه، و یلزم الحکم بعدم نجاسة الخمر الخارج عن مورد الابتلاء، و أن لا تحرم الامّ و الاخت الخارجتان عن محلّ ابتلائه، و غیر ذلک من الأحکام التکلیفیّة و الوضعیّة، خصوصاً علی مذهب الشیخ قدس سره من أنّ الأحکام الوضعیّة منتزعة عن الأحکام التکلیفیّة(2)،


1- انظر معالم الدین: 85، و الفصول الغرویّة: 109، و کفایة الاصول: 169- 170.
2- الرسائل: 351 سطر 2.

ص: 158

و قد عرفت أنّ الإرادة متعلّقة بالجعل التشریعیّ و الأحکام الکلّیّة، و لیست متوجّهة إلی آحاد المکلّفین و أشخاصهم کلّ واحد علی حدة، و أنّ جمیع المکلّفین بالنسبة إلی الأحکام سواء، غایة الأمر أنّ مثل العاجز و الجاهل القاصر معذوران فی مخالفتها عقلًا، و أنّ ملاک قبح جعل الحکم القانونیّ هو عجز جمیع المکلّفین و عدم قدرتهم کلّهم، أو العلم بعدم انبعاث جمیعهم أو خروج المکلّف به عن مورد ابتلاء جمیعهم، فإنّ الجعل- حینئذٍ- لغوٌ و مستحیل، و حینئذٍ فلا وجه للاستدلال للقول بعدم الجواز فی المقام بعدم تحقُّق شرط فعلیّته بالنسبة إلی بعض المکلّفین، کما لا یخفی.

مضافاً إلی أنّه وقع فی الشریعة ممّا هو من هذا القبیل فإنّ نجاسة أهل الخلاف و کفرهم من الأحکام التی أنشأها الشارع، و لکن لم تبلغ حدّ الفعلیّة، مستودَعةً عند الأئمّة علیهم السلام و صاحب الأمر- عجّل اللَّه فرجه- حتی یصدر الأمر من اللَّه تعالی بإبلاغها.

ص: 159

الفصل الخامس عشر فی متعلَّق الأوامر و النواهی

هل الأوامر و النواهی متعلّقة بالطبائع أو بالأفراد؟ و قبل الشروع فی البحث لا بدّ أوّلًا من تصویر محلّ النزاع، ثمّ الکلام فیه.

فاعلم أنّه یُتصوّر النزاع بصور:

إحداها: أن یقال: إنّ هذه المسألة متفرّعة علی النزاع فی وجود الکلی الطبیعی فی الخارج و عدمه: فعلی الأوّل لا بدّ أن نقول بتعلّقهما بالطبائع لا الأفراد، و لکن لا یخفی ما فیه، فإنّ مسألة وجود الکلی الطبیعی و عدمه مسألة دقیقة عقلیّة فلسفیّة، و هذه المسألة مسألة عرفیّة عقلائیّة لا بدّ فیها من ملاحظة المتفاهم العرفیّ، و لا ارتباط لإحداهما بالأُخری لتتفرّع علیها.

و ثانیتها: أن یقال: إنّ هذه المسألة متفرّعة علی أصالة الوجود أو الماهیّة: فعلی الأوّل لا بدّ أن یقال: إنّ متعلّق الأوامر و النواهی هو الأفراد، و علی الثانی الطبائع.

و هو- أیضاً- کما تری؛ لا یصحّ ابتناء هذه المسألة العرفیّة علی تلک المسألة الفلسفیّة الدقیقة.

الثالثة: أن یقال: هذا البحث متفرّع علی البحث فی أنّ المادّة فی الأوامر هل

ص: 160

هی موضوعة للطبیعة المطلقة، أو الأفراد؛ بناءً علی أنّ الوضع فیها عامّ و الموضوع له خاصّ؟

و فیه أیضاً: أنّ محلّ النزاع فی المقام: انما هو فی متعلّق الأوامر و النواهی؟ و انّه ما هو و هو أعمّ من المادّة؛ لوضوح أنّ الأوامر و النواهی قد تتعلّقان بالماهیّة المقیّدة لا المطلقة، مثل أن یقال: یجب علیک الصلاة فی المسجد- مثلًا- و نحو ذلک.

مُضافاً إلی أنّه بناءً علیه لا وجه لتکرار ذلک البحث مرّتین فی الاصول.

الرابع: أن یقال: إنّ النزاع فی المقام إنّما هو فی أنّ هیئة الأوامر موضوعة للبعث و الإغراء إلی نفس الطبیعة، أو إلی إیجادها: فعلی الأوّل لا بدّ من القول بتعلُّقها بالطبائع، و علی الثانی بالأفراد.

و فیه: ما لا یخفی، فإنّ تعلُّق الأمر بالفرد الخارجیّ غیر معقول؛ لأنّه أمر بتحصیل الحاصل، فاحتماله منفیّ قطعاً.

الخامس: أن یقال: المأخوذ فی متعلّق الطلب هل هو نفس الطبائع، أو الأفراد الخارجیّة مع خصوصیّاتها الشخصیّة؟

و هو- أیضاً- کما تری غیر قابل لأن یقع البحث فیه بین الأعلام؛ لأنّه لا مجال لأحد أن یتوهّم أنّ متعلّقها الموجود الخارجیّ المتحقّق، فإنّه طلب لتحصیل الحاصل.

السادس: أن یقال: إنّ متعلّقها الطبائع بما هی هی، أو أنّه هی مع إضافات و توابع منضمّة إلیها، کما هو ظاهر «الکفایة»(1).

و فیه أیضاً: أنّه إن ارید بالإضافات هو الخصوصیّات الخارجیّة فمرجعه إلی الوجه الخامس، و إن ارید بها الخصوصیّات الذهنیّة بتصوّرها فی الذهن، فإن کانت دخیلة فی الغرض و المطلوب فهو صحیح، لکنّه غیر قابل للبحث؛ فإنّه لا یتوهّم أحد تعلُّقها بالطبائع المطلقة المجرّدة.


1- کفایة الاصول: 171.

ص: 161

و إن لم تکن دخیلة فی الغرض و المطلوب ففیه: أنّه فاسد؛ لأنّه لا یتوهّم أحد بتعلُّقها بالطبائع مقیّدةً بما لیس له دخل فی الغرض و المطلوب، کما لا یعقل خروج ما هو دخیل فی الغرض عن متعلّق الأمر، و لا یعقل حکایة اللفظ الموضوع بإزاء الطبیعة المُطلقة عن الخصوصیّات الشخصیّة و العوارض الخارجیّة، و لو فرض أنّ الطبائع المطلقة بما هی هی تمام المطلوب و الغرض، فلا بدّ من تعلُّقها بها کذلک.

و توهّم منافاة ذلک لکونها من حیث هی لیست إلّا هی لا موجودة و لا معدومة(1).

مدفوع: بأنّه لا مساس لإحدی القضیّتین بالأُخری؛ لیتوهّم التنافی بینهما، و لیس النزاع فی أنّ الهیئة موضوعة للبعث إلی إیجاد الماهیّة، أو إلی الماهیة بنفسها.

و لا فرق فیما ذکرناه بین الطلب و الأمر، فما یظهر من «الکفایة» من الفرق بینهما- بإمکان تعلُّق الطلب بنفس الطبائع من حیث هی، دون الأمر(2)- ففیه أنّ الطلب هو عین الأمر لا فرق بینهما کما واضح.

ثمّ إنّ المحقّق العراقی قدس سره بعد أن اختار تعلُّق الأوامر بالطبائع قال: إذا تعلّق بعنوان علی نحو صرف الوجود، فهل یسری إلی أفراده و مصادیقه بنحو التبادل؛ علی نحوٍ تکون الأفراد بما لها من الحدود الفردیّة و الخصوصیّات الشخصیّة متعلَّقةً للطلب، أو لا؟

و علی الثانی هل یسری إلی الحصص المقارنة للأفراد، کما فی الطبیعة الساریة، أو لا، بل الطلب و الأمر یقف علی نفس الطبیعیّ و القدر المشترک بین الحصص؟

قال: و توضیح المرام یحتاج إلی تقدیم مقدّمة: هی أنّه لا إشکال أنّ الطبیعیّ الذی له أفراد، کلُّ فرد منه مشتمل علی مرتبة من الطبیعیّ غیر المرتبة التی یشتمل


1- الفصول الغرویّة: 108، 125.
2- کفایة الاصول: 171- 172.

ص: 162

علیها الفرد الآخر، و من ذلک یتصوّر للطبیعیّ حصص عدیدة حسب تعدّد الأفراد المغایرة کلُّ حصّة منه- باعتبار محدودیّتها بالمشخّصات الفردیّة- مع حصّته الاخری، کما فی الإنسان؛ حیث إنّ الإنسانیّة الموجودة فی ضمن «زید» بملاحظة تقارنها لخواصّه، غیر الإنسانیّة الموجودة فی ضمن «عمرو» المقارنة لخواصّه، و لهذا تتحقّق حصص من الإنسانیّة: حصّة قارنت خواصّ زید، و حصّة قارنت خواصّ عمرو، و هکذا، و لا ینافی ذلک اتّحاد تلک الحصص بحسب الذات و الحقیقة، و کون الجمیع تحت جنس واحد و فصل فارد؛ من حیث صدق الحیوان الناطق علی کلّ واحد من الحصص کما لا یخفی، و هذا هو المراد من الکلمة الدارجة بین أهل الفنّ: أنّ نسبة الطبیعیّ إلی الأفراد کنسبة الآباء إلی الأبناء، و أنّ مع کلّ أب فرداً من الطبیعی غیر ما یکون للأب الآخر، و تکون الآباء مع اختلافها و تباینها بحسب المرتبة متّحدة ذاتاً؛ بحیث تندرج الجمیع تحت نوع واحد.

و بما ذکرنا من اختلاف الحصص من جهة المرتبة و اتّحادها ذاتاً، اتّضح لک: أنّه یمکن انتزاع عناوین متعدّدة من کلّ حصّة، بعضها من مقوّمات مرتبة کلّ حصّة، و بعضها من مقوّمات ذاتها، و کلّ ما هو مقوّم للمرتبة فهو مقسّم لذاتها، و هذا هو من قولهم(1): إنّ کلّ مقوّم للعالی مقوّم للسافل و لا عکس.

إذا عرفت المقدّمة فالتحقیق: یقضی بوقوف الطلب علی نفس الطبیعیّ و عدم سرایته لا إلی الخصوصیّات الفردیّة، و لا إلی حصص الطبیعیّ الموجودة فی ضمن الأفراد المقارنة لخواصّها، و الدلیل علی ذلک أمران:

الأوّل: أنّا نری بالوجدان عند طلب شی ء و الأمر به أنّه لا یکون المطلوب إلّا صرف الطبیعی من دون مدخلیّة للحصص فی ذلک، فضلًا عن الخصوصیّات الفردیّة.

الثانی: أنّ الطلب تابع للمصلحة، و لا یتعلّق إلّا بما تقوم به المصلحة، فمع قیام


1- انظر حاشیة ملّا عبد اللَّه: 52 سطر 5.

ص: 163

المصلحة بصرف الطبیعیّ و عدم سرایتها إلی الخصوصیّات الفردیّة و لا إلی الحصص، یستحیل سرایة الطلب إلی الحدود الفردیّة أو الحصص المقارنة.

ثمّ لا یخفی أنّ ما ذکرناه- من عدم سرایة الطلب إلی الحصص- إنّما هو بالقیاس إلی الحیثیّة التی بها تمتاز هذه الحصص الفردیّة بعضُها عن البعض الآخر، المشترک معه فی الجنس و الفصل القریبین. و أمّا بالنسبة إلی الحیثیّة الاخری، و التی بها تشترک هذه الحصص، و تمتاز بها عن أفراد النوع الآخر المشارک لها فی الجنس القریب، و هی الحیثیّة التی بها قوام نوعیّتها، فلا بأس بدعوی السرایة إلیها، بل لا محیص عنها؛ من جهة أنّ الحصص- بالقیاس إلی تلک الحیثیّة و اشتمالها علی مُقوِّمها العالی- لیست إلّا عین الطبیعی، فلا وجه لخروجها عن المطلوبیّة، فعلی ذلک تکون الحصص المزبورة کلّ واحدة منها بالقیاس إلی بعضِ حدودِها- و هو الطبیعیّ- تکون تحت الطلب، و بالقیاس إلی حدودها الخاصّة تکون تحت الترخیص، و خارجة عن دائرة المطلوبیّة، لا أنّها علی الإطلاق تحت الطلب، و لا خارجة کذلک عن دائرة الطلب، و نتیجة ذلک کون التخییر بین الحصص شرعیّاً لا عقلیّاً ... إلی أن قال:

إن قلت: إنّ الطلب بعد تعلُّقه بالعناوین و الصور الذهنیّة- لا بالمُعنونات الخارجیّة، کما هو المفروض- تستحیل سرایته إلی الحصص الفردیّة؛ حیث إنّ الحصص بقیودها الذهنیّة تُباین الطبیعیّ، و إن کان کلٌّ من الحصص الفردیّة و الطبیعیّ ملحوظاً بنحو المرآتیّة للخارج؛ إذ لازم ذلک تحقّق صورتین ذهنیّتین، و من الواضح أنّ الصورتین الممتاز إحداهما عن الاخری فی وعاء تقرّرهما متباینتان.

قلت: إنّ المدّعی هو تعلُّق الطلب بالطبیعی بما هو مرآة للخارج، و لا ریب فی أنّ وجود الطبیعی فی الخارج لا یمتاز عن وجود الحصص، بل هو الجهة المشترکة الجامعة بین الحصص، و المرئیُّ بالطبیعی الملحوظ مرآةً للخارج لیس إلّا تلک الجهة الجامعة بین الحصص، و هذا مرادنا من سرایة الطلب من الطبیعی إلی حصصه، بل

ص: 164

التأمّل یقضی بأنّ التعبیر بالسرایة فی المقام مسامحی؛ إذ بالنظر الدِّقّی یکون الطلب المتعلّق بالطبیعی الملحوظ مرآةً للخارج، متوجِّهاً إلی تلک الجهة الجامعة بین الحصص، فمتعلّق ذلک الطلب فی الحقیقة تلک الجهة الجامعة(1). انتهی.

أقول: ما ذکره- من أنّ نسبة الطبیعی إلی الأفراد هو نسبة الآباء إلی الأبناء- لیس مجرّد لفظ و اصطلاح، بل هو نظیر ما ذکره الرجل الهمدانی من أنّ نسبة الطبیعی إلی الأفراد نسبة الأب الواحد إلی الأبناء، و أنّ الطبیعی موجود فی الخارج بنعت الوحدة- أی الجامع بین الأفراد- و لیس مجرّد لفظ و اصطلاح.

و استدلّ علی مذهبه: بأنّا ننتزع من الأفراد الخارجیّة مفهوماً واحداً، و مع أنّها کثیرة یُنتزع منها ذلک المفهوم، مثل انتزاع مفهوم الإنسان من زید و عمرو و بکر و سائر الأفراد، و لا یمکن انتزاع مفهوم واحد منها بما أنّها کثیرة، فلا بدّ لها من جامع مشترک بینها موجود فی الخارج(2).

و فیه: أنّ الخارج ظرف للأفراد بنعت الکثرة، و لا یمکن وجودها فیه بنعت الوحدة، و لا تنتزع المفاهیم الکلّیّة من الأفراد الخارجیّة؛ بأن یوقَع شی ء من الخارج فی الذهن، فإنّه غیر معقول، بل تنتزع من الأفراد الذهنیّة بلحاظها و تصوُّرها أوّلًا و إلغاء خصوصیّاتها الفردیّة و ما یمتاز کلّ واحد منها عن الآخر.

و استدلّ- أیضاً- بأنّه قد تتوارد العلل المتعدّدة- المستقلّة کلّ واحدة منها فی العلّیّة و التأثیر- علی معلول واحد، کقتل واحد بسهمین أو برمحین، و کتسخّن الماء بالنار و الشمس، و رفع اثنین صخرةً لا یقدر کلّ منهما مُستقلّاً علی رفعها، و نحوها من الأمثلة، و حینئذٍ فإمّا أن یُؤثِّر کلّ منهما مستقلّاً، و هو مستحیل، و إمّا أن لا یؤثّر شی ء منهما، و هو- أیضاً- مُستحیل، و إمّا أن یُؤثّر کلّ واحد منهما تأثیراً ناقصاً، و هو


1- بدائع الأفکار 1: 407- 410.
2- انظر رسائل ابن سینا: 467- 471.

ص: 165

- أیضاً- محال، و إمّا أن یؤثّر المجموع، فهو أمر اعتباری لیس غیرَ کلّ واحد منهما، فلا بدّ أن یُؤثِّر الجامع بینهما، و لا یمکن تأثیره إلّا إذا کان موجوداً فی الخارج، و هو المطلوب و المراد من وجود الطبیعی فیه.

و فیه: أنّه وقع الخلط فی کلامه بین العلّة الإلهیّة- أی علّة الإیجاد- و بین العلّة الطبیعیّة، فإنّ أثر کلّ علّة لا یمکن انفکاکه عنها و تفویضه إلی علّة اخری، و معلول کلّ علّة إلهیّة یتعلّق بها بتمام وجودها تمامَ التعلّق، و لا ارتباط له بغیرها من العلل.

و أمّا الأمثلة المذکورة فأثّر کلّ علّة عبارة عن حرکة العضلات المسبوقة بالإرادة و مقدّماتها فی مثال رفع الصخرة، و أمّا قتل واحد بإصابة سهمین و نحوهما، فقتل الشخص إنّما هو بإزهاق روحه، و هو مُسبَّب عن خروج مقدار من الدم من عروق بدنه، فإن أصابه سهم واحد فیخرج الدم المذکور فی مدّة معیّنة، و إن أصابه سهمان فیخرج الدم المذکور فی نصف تلک المدّة، فهذه الأمثلة لا تدلّ علی ما ذهب إلیه.

و استدلّ- أیضاً- بأنَّه لا ریب فی أنّ طبیعة الإنسان- مثلًا- طبیعة واحدة، و لا ریب فی أنّ الطبائع موجودة فی الخارج، فینتج أنّ طبیعة الإنسان موجودة فی الخارج.

و فیه: أنَّ المُراد من الوحدة فی قولهم: «طبیعة الإنسان واحدة»(1) هی الوحدة النوعیّة التی موطنها الذهن، و کذلک الوحدة الجنسیّة للحیوان و الفصلیّة للناطق، فإنّ موطنَ جمیعها و وعاءَها الذهن لا الخارج أی الوحدة الشخصیّة الخارجیّة، و حینئذٍ فلا یتمّ الاستدلال.

و صنّف الشیخ الرئیس رسالة فی ردّ ذلک المذهب، و ذهب إلی أنّ نسبة الطبیعی إلی الأفراد نسبة الآباء إلی الأبناء، و أنّ کلّ واحد من الأفراد هو تمام الطبیعی(2)،


1- انظر شرح المنظومة( قسم الفلسفة): 111 سطر 8.
2- رسائل ابن سینا 1: 471.

ص: 166

و حیث إنّهم عجزوا عن الجواب عن الرجل الهمدانی، و عن الشیخ الرئیس، جمعوا بین قولیهما: بأنّ المراد ممّا ذکره الرجل الهمدانی هو نفس الطبیعة بما هی هی، و ممّا ذکره الشیخ الرئیس و أتباعه الحصص و نسبة هذا الجمع إلی المحقّق العراقی کان شائعاً بین بعض الأساتذة، کالمیر سید علی الکاشانی قدس سره لکن الجمع بین هذین المذهبین کالجمع بین الضدّین أو النقیضین مُستحیل.

ثمّ إنَّ ما ذکره- من أنّ الأمر المتعلّق بالطبیعة لا یسری إلی الحصص إنّما هو بالنسبة إلی الحیثیّة التی بها تمتاز هذه الحصص الفردیّة بعضها عن بعض، و أمّا بالنسبة إلی الحیثیّة التی ... الخ- فهو من غرائب الکلام، فإنَّ الحصّة المُقارنة لفرد من نوع لیس امتیازها عن الحصّة المقارنة لفردٍ آخرٍ من نوع آخر بالفصل فقط، بل به و بالخصوصیّات الشخصیّة الفردیّة کلیهما، و حینئذٍ نقول: إنَّ المصلحة إذا کانت قائمة بنفس الطبیعی، لا بخصوصیّات الأفراد، فصرّح هو قدس سره بأنّه یستحیل سرایة الأمر منها إلی الأفراد فما ذکره مُخالف لما صرّح به.

ص: 167

الفصل السادس عشر فی بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب

إذا نُسخ الوجوب فهل یبقی الجواز أو لا؟ لا بدّ أوّلًا من تنقیح محطّ البحث، و بیان معنی الوجوب، ثمّ البحث فیه، فنقول:

الوجوب هو البعث الناشئ عن إرادة ملزمة، فإنّه قد یرید الإنسان شیئاً فی الإرادة الفاعلیّة؛ بحیث یسدّ باب جمیع الأعدام التی تتوجّه إلیه، و کذلک فی الإرادة التشریعیّة، و قد یرید الإنسان لکن لا بالنحو الأکید، و علی أیّ تقدیر فالبعث المنشأ عن الإرادتین بعث واحد لا اختلاف فی حقیقته، فلا فرق بین الوجوب و الاستحباب فی حقیقة البعث، و إنّما الفرق بینهما هو أنّ البعث فی أحدهما مسبوق بالإرادة الأکیدة، و فی الآخر بالإرادة الغیر الأکیدة، فینتزع الوجوب من الأوّل، و الاستحباب من الثانی.

إذا عرفت ذلک نقول: قد یقال: إنّ محطّ البحث هو الإرادة؛ بأن یقال: إذا زال الإلزام و التحتّم فی الإرادة، فهل یبقی الرجحان، أو أصل الإرادة- بمعنی الرخصة- أو لا؟

و یُمکن أن یقال: إنَّ محطّ البحث هو الوجوب، و أنّه إذا نُسخ الوجوب المُنتزع

ص: 168

عن البعث فهل یبقی الرجحان، أو أصل الرخصة و الجواز، أو لا؟

و علی أیّ تقدیر: البحث إمّا عن إمکان ذلک و عدمه، أو فی وجود الدلیل الاجتهادی علیه بعد الفراغ عن إمکانه، و أنّه إذا فُقِد الدلیل الاجتهادی هل یجری الاستصحاب أو لا؟ فنقول:

المقام الأوّل: حول إمکان البقاء، و فیه تقریبان:

أمّا الأوّل: فقد یقال فی تقریب بقاء الجواز أو الرجحان: إنّ الإرادة و إن کانت من الحقائق البسیطة، لکنّها ذات مراتب، کمرتبة الإلزام، و مرتبة الرجحان، و مرتبة الجواز و الرخصة، فإذا زالت المرتبة الاولی بالنسخ بقیت المراتب الاخر، و إذا فُرض زوال المرتبتین الأوّلتین تبقی الثالثة.

قلت: أمّا أنّ الإرادة من الحقائق البسیطة فهو مسلّم، و کذلک کونها ذات مراتب، لکن لیس معنی وجود المراتب المختلفة لشی ء اجتماعها کلّها فی الموجود الواحد الشخصی؛ لیتفرّع علیه أنّه إذا زالت مرتبة منها بقیت الاخری، بل المراد أنّ أفراد الإرادة و مصادیقها مختلفة فی الوجود، و أنّ منها أکیدة مُلزِمة، و بعضها راجحة غیر مُلزمة، و بعضها لا تشتمل علی الرجحان، و یستحیل اجتماعها فی فردٍ واحدٍ منها؛ أ لا تری أنّ کلّ واحدٍ من النور و الوجود بسیط ذو مراتب؛ بمعنی أنّ مصادیقه و أفراده مختلفة فی الشدّة و الضعف- مثلًا- لا أنّ المراتب جمیعها مُجتمعة فی مصداق واحد شخصی؛ بحیث لو انتفی مرتبة منها بقیت الاخری، و لذا تری أنّهم یقولون: إنّ الهیولی فصلها مُضمَّن فی جنسها، و أنّ الصورة جنسها مُضمَّن فی فصلها، و المُراد أنّ الهیولی لیست مثل سائر الأجسام المرکَّبة، فیها حیثیّتان: إحداهما منشأ انتزاع الجنس، و الاخری منشأ انتزاع الفصل، و کذلک الصورة، بل لیس فیهما إلّا حیثیّة واحدة هی منشأ انتزاع الجنس و الفصل؛ لأنّ الهیولی و الصورة بسیطتان و الإرادة- أیضاً- من هذا القبیل، فالأجزاء التی یذکر لها فی مقام التعریف أجزاء حدّیّة، لا أنّها أجزاء

ص: 169

للمحدود.

فتلخّص: أنّه لا معنی للتقریب الأوّل فی بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب.

و أمّا الثانی: فهو أنّه إذا نُسخ الوجوب المنتزع عن البعث، فهل یبقی الجواز أو لا؟

فقد یقال فی تقریبه کما فی الإرادة: أنّ البعث و إن کان بسیطاً، لکنّه ذو مراتب، فإذا زالت مرتبة منها بالنسخ- و هی مرتبة الإلزام- یبقی مع المرتبة الاخری بالتقریب المذکور فی الإرادة.

و الجواب هو الجواب، فإنّ کلّ واحد من البعث الوجوبی و الاستحبابی و الترخیصی موجود خاصّ ناشٍ عن إرادة خاصّة، ففی کلّ واحد منها مرتبة من المراتب غیر المرتبة التی فی الآخر، لا أنّ المراتب مجتمعة فی البعث الخاصّ الوجوبی؛ کی تبقی المرتبة الاخری بعد نسخ مرتبة الوجوب.

فاتّضح بذلک: أنّه إذا نُسخ الوجوب فلا یمکن بقاء الرجحان أو الجواز.

المقام الثانی: ثمَّ لو فُرض إمکانه فهل یقتضی دلیلا الناسخ و المنسوخ البقاءَ أو لا؟

قال المحقّق العراقی قدس سره فی تقریبه ما حاصله: إنّه إذا قال المولی: «أکرم العلماء»، ثمّ قال: «لا بأس بترک إکرامهم»، فکما أنّ مقتضی الجمع بین الدلیلین هو استحباب الإکرام و رجحانه، فکذلک ما نحن فیه، فإذا فُرض أنّ صلاة الجمعة کانت واجبة، ثمّ نسخ وجوبها، فالدلیل الناسخ إنّما یرفع الإلزام و الحتمیّة، فیبقی أصل الرجحان أو الرخصة بمقتضی دلیل المنسوخ.

و بالجملة: فقضیّة مُلاحظة الدلیلین و الجمع بینهما هو بقاء الرخصة و الجواز.

ثمّ استشکل علی نفسه: بأنّ ذلک إنّما یصحّ إذا لم یکن الناسخ حاکماً علی دلیل المنسوخ، لکن لیس کذلک، بل الدلیل الناسخ حاکم علی دلیل المنسوخ، فیرتفع دلیل

ص: 170

المنسوخ رأساً.

قال: قلت: إنّ حکومته إنّما هی بالنسبة إلی بعض مدلوله؛ أی بالنسبة إلی ظهوره فی الإلزام، و أمّا بالنسبة إلی ظهوره فی الرخصة و الرجحان فلا.

اللهمّ إلّا أن یُقال: إنَّ الناسخ حاکم علی المنسوخ و ظهوره بأسره و تمامه، لکن مع فرض کون الدلیل الناسخ مجملًا بالنسبة إلی رفع غیر الإلزام من المراتب، فیمکن أن یقال ببقاء ظهوره بالنسبة إلی الرجحان أو أصل الجواز علی فرض عدم سرایة إجماله إلی دلیل المنسوخ و صیرورته مُجملًا(1).

أقول: أمّا القیاس الذی ذکره فهو فی غیر محلّه، و أنّه مع الفارق.

توضیح ذلک: أنّه لو قال: «أکرم العلماء»، ثمّ قال: «لا بأس بترک إکرامهم»، فإنّ الجمع العُرفیّ بینهما یقتضی الحمل علی الاستحباب؛ و ذلک لما عرفت سابقاً: من أنَّ هیئة الأمر لیست موضوعة للوجوب، بل حملها علی الوجوب إنّما هو لأجل أنّه یصحّ للمولی علی العبد الاحتجاج بالأمر، و لا یصحّ اعتذاره: بأنّه احتمل الاستحباب، فمع تحقُّق الأمر و لو بنحو الإطلاق یتحقّق موضوع صحّة العقاب بحکم العرف و العقلاء، و هو إنّما یصحّ إذا لم یصرِّح المولی بخلافه، و إلّا فلا ینتزع منه الوجوب، کما هو المفروض فی المثال.

و لو سلّمنا أنّ الهیئة موضوعة للوجوب، لکنّ تصریحه بعدم البأس فی ترک الإکرام فی المثال، قرینةٌ صریحة فی إرادة الاستحباب منها، و أنّها مستعملة فی غیر ما وُضعت له، و علی أیّ تقدیر فمقتضی الجمع العرفی فی المثال هو إرادة الاستحباب، بخلاف ما نحن فیه، فما ذکره- من أنّ الدلیل الناسخ إنّما یرفع ظهوره فی الإلزام دون ظهوره فی الرجحان أو الرخصة- إنّما یستقیم إذا کان لدلیل المنسوخ ظهورات مُتعدّدة: أحدها ظهوره فی الإلزام، و ثانیها ظهوره فی الرجحان، و ثالثها ظهوره فی


1- بدائع الأفکار( تقریرات العراقی) 1: 413- 414.

ص: 171

الرخصة، و لکلّ واحد منها مصلحة علی حِدَة مُستقلّة؛ لإناطة الأحکام بالمصالح و المفاسد النفس الأمریّة، فإذا ارتفع ظهوره فی الإلزام بالدلیل الناسخ بقی الظهوران الأوّلان بحالهما.

و لکن فساده غیر خفیّ، فإنّه لیس فی البعث إلّا ظهور واحد فی الوجوب، فإذا دلّ الناسخ علی رفعه فلا یبقی لدلیل المنسوخ ما یبقی معه الرجحان أو الرخصة، و حینئذٍ فالقیاس فی غیر محلّه.

ثمّ إنّ ما ذکره من عدم سرایة إجمال الدلیل الناسخ إلی دلیل المنسوخ- أیضاً- ممنوع، فإنّ عدم السرایة إنّما یُسلّم لو فرض عدم حکومة الدلیل الناسخ علی دلیل المنسوخ و عدم تعرُّضه لحاله و دلالته، کالعامّ و الخاصّ المنفصل، کما لو قال: «أکرم العلماء»، ثمّ قال منفصلًا: «لا تکرم زیداً العالم»، و تردّد زید بین زید بن عمر و زید بن بکر، فإنّ ظهور العامّ لا یختلّ بذلک؛ أی بإجمال الدلیل المخصِّص المجمل، بخلاف ما لو فرض حکومة الدلیل الثانی علی الأوّل و تعرّضه لحاله و دلالته، کما هو المفروض فیما نحن فیه، فإنّ إجمال الحاکم یسری إلی الأوّل، فإجمال الدلیل الناسخ یسری إلی دلیل المنسوخ و یوجب إجماله.

المقام الثالث: ثمّ بعد فرض عدم دلیل اجتهادیّ فی المقام، فهل یمکن إثبات بقاء الجواز بالاستصحاب؛ بأن یقال: إنّ الجواز بالمعنی الأوّل کان موجوداً فی ضمن الوجوب المتحقّق سابقاً، فإذا نُسخ الوجوب یُشکّ فی بقاء الجواز و عدمه، فیُستصحب؟

و فرّعه بعضهم علی جواز جریان الاستصحاب فی القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلی، و هو ما إذا شُکّ فی حدوث فرد مقارناً لارتفاع فرده الآخر الموجود سابقاً، الذی کان الکلی فی ضمنه(1).


1- کفایة الاصول: 173.

ص: 172

لکن علی فرض الإغماض عن عمّا سیجی ء إن شاء اللَّه من الاشکال فیما ذکره الشیخ قدس سره فی بعض صور استصحاب الکلی من القسم الثالث، و هو ما لو شک فی تبدل رتبة من لونٍ کالسواد مثلًا مع القطع بارتفاعها إلی رتبة اخری منه، و ذلک لرجوعه إلی القسم الأوّل من استصحاب الکلی بل هو هو بعینه، لا مجال لهذا الاستصحاب فی المقام؛ لعدم اجتماع شرائطه، فإنّه یعتبر فی الاستصحاب أن یکون المستصحب من الأحکام الشرعیّة، أو یترتّب علیه حُکم شرعی فی استصحاب الموضوعات الخارجیّة، و المُستصحب فی المقام هو الجواز الکلی الجامع بین الجواز فی ضمن الوجوب و الجواز الموجود فی ضمن فرد آخر، فإنّ الوجوب و الاستحباب و ان کانا من الأحکام الشرعیّة، لکن الجامع بینهما لیس من مجعولات الشارع، و لا یترتّب علیه أثر شرعی أیضاً، و حینئذٍ فلا یصحّ الاستصحاب المذکور.

ص: 173

الفصل السابع عشر فی الوجوب التخییری

اشارة

لا إشکال فی وجود الأوامر التعیینیّة فی الشریعة المطهّرة، و کذلک الأوامر التخییریّة بحسب الظاهر، مثل التخییر بین القراءة و التسبیحات الأربع فی الرکعتین الأخیرتین، و مثل التخییر فی الکفّارة بین الخصال الثلاث، لکن لا بدّ أن یُبحث فی أنّه هل یمکن الأمر بشیئین علی نحو التردید بینهما؛ لتُحمل الأوامر الشرعیّة التخییریّة علی ظاهرها، أو أنّه غیر ممکن عقلًا، فیحمل ما هو الظاهر فی التخییر بینهما علی أحد الأقوال فی المسألة من وجوب کلّ واحد منهما علی البدل، و عدم جواز ترکه إلّا إلی بدل(1)، أو وجوب الواحد لا بعینه(2)، أو وجوب کلّ واحد منهما مع سقوطه بفعل واحد منهما(3)، أو وجوب الواحد المعیّن عند اللَّه تعالی(4)؟

فقد یقال: بامتناع تعلّق الأمر بأحد الشیئین علی نحو الإبهام و التردّد الواقعی؛


1- انظر فوائد الاصول 1: 235، هدایة المسترشدین: 247 سطر 34.
2- المحصول فی علم الاصول 1: 273.
3- قال فی هدایة المسترشدین: 249 سطر 20.
4- المحصول فی علم اصول الفقه 1: 274.

ص: 174

بأن یکون الواجب هو المردّد بینهما فی نفس الأمر، لا المُردّد عند المکلّف المعیّن فی الواقع، فإنّه ممکن واقع بلا إشکال، فإنّه قد یعلم المکلّف وجوب شی ء، و یشکّ فی أنّ الواجب هو ذا أو ذاک، فالتردید إنّما هو فی علم المُکلَّف به، و إلّا فهو مُعیّن عند اللَّه تعالی، بل المُمتنع وجوب المردّد بین الشیئین واقعاً.

فقیل فی تقریب ذلک: إنّ صفحة الخارج بالنسبة إلیه تعالی و إرادته الإیجادیّة، مثلُ صفحة الذهن بالنسبة إلی تعلُّق الإرادة فی الإرادة التشریعیّة، فکما لا یعقل إیجاد المردَّد بین شیئین واقعاً- بأن یکون الموجود هو الأمر المبهم المُردّد- فکذلک لا یعقل تعلُّق الإرادة فی غیر الإیجاد التکوینی أیضاً بالمردّد بین الصورتین الذهنیّتین، و حینئذٍ فوجود الإرادة کذلک فی النفس محال.

أقول: الملاک کلّ الملاک فی الامتناع هو عدم إمکان تعلّق إرادة واحدة بالمُردّد بین شیئین واقعاً، لکن الأمر فی الواجبات التخییریّة لیس کذلک، فإنّا إذا راجعنا وجداننا نجد وجود الإرادة فی الأوامر التخییریّة، و کذلک البعث، و کذلک کلّ فردٍ من فردی الواجب المخیّر، فإنّ متعلّق الأوامر فی الأوامر التشریعیّة هو التشریع و جعل القانون.

و بالجملة: قد یُرید الإنسان شیئاً و یقتصر علیه، و یبعث عبده نحوه، و الواجب- حینئذٍ- تعیینیّ، و قد لا یقتصر علیه، بل یُرید غیره- أیضاً- و یبعث نحوه أیضاً، لکن حیث یری أنّه یکفی فی تحقُّق الغرض وجود أحدهما، أو بینهما و یقول: «افعل هذا أو ذاک»، فهنا إرادتان مُشخَّصتان، و بعثان مُتعیّنان مُتعلّقان بهما کذلک، فیصیر الواجب تخییریّاً، و لا یلزمه وجود أمر مبهم مردّد، لا فی الإرادة، و لا فی البعث، و لا فی متعلَّقی البعثین، فإنّ کلّ ذلک مُشخّص معیّن، و حینئذٍ فلا مانع من إبقاء ظهور الأوامر التخییریّة بحالها، و لا یحتاج إلی القول بأنّ الواجب هو أحدهما لیصیر تعیینیّاً، غایة الأمر أنّه- حینئذٍ- کلّیّ منحصر فی فردین، و لا یحتاج- أیضاً- إلی ما ذهب إلیه فی

ص: 175

«الکفایة» من أنّ الواجب هو الجامع بینهما واقعاً، و أنّ تعلُّقه بالفردین فی الظاهر للإرشاد إلی ذلک.

و أمّا ما ذکره: من أنّ الواحد لا یصدر من اثنین من حیث إنّهما اثنان، فالمصلحة الواحدة لا یمکن أن تصدر من اثنین(1).

ففیه: أنّ تقسیم الواجب إلی التعیینی و التخییری، و کذلک سائر تقسیماته لیس فی مقام الثبوت و المصلحة، بل التقسیمات إنّما هی بملاحظة الأمر و البعث، فإنّ الآمر إذا بعث المکلّف نحو شی ءٍ مُعیّن یصیر الواجب تعیینیّاً، و نحو أحد الشیئین ببعثه إلی شی ء آخر- أیضاً- مع تخلّل کلمة «أو» بینهما، یصیر واجباً تخییریّاً، سواء قامت المصلحة بالجامع أو غیره.

و بالجملة: لا یلزم من الوجوب التخییری وجود أمر مبهم مردّد بین شیئین واقعاً؛ لیلزم المحال.

خاتمة فی التخییر بین الأقلّ و الأکثر:

اختلفوا فی جواز التخییر بین الأقلّ و الأکثر، و محطّ البحث فیه إنّما هو فیما إذا اخذ الأقلّ لا بشرط طرفاً للتخییر، لا بشرط لا؛ لوضوح أنّه لو اخذ کذلک و بحدّه الخاصّ صار مُبایناً للأکثر، و التخییر بینهما- حینئذٍ- تخییر بین المُتباینین، و لا ریب و لا إشکال فی إمکانه حینئذٍ.

و من ذلک یظهر فساد ما فی «الکفایة» من جعل الأقلّ بحدّه الخاصّ و بشرط لا طرفاً(2) له، و هو واضح.

فنقول: الأقلّ و الأکثر إمّا أن یکونا من الامور الدفعیّة الوجود، کرسم الخطّ


1- کفایة الاصول: 176.
2- کفایة الاصول: 176.

ص: 176

الذی هو بقدر الذراع بوضع «مسطرة» طولها ذراع علی ما یتأثّر بوضعها علیه، و وضع «مسطرة» طولها شبر کذلک، و قد یکونان من الامور التدریجیّة الوجود، کرسم الخطّ بمقدار ذراع أو بقدر شبر بمدّ قلم من نقطة إلی هذا المقدار، و علی کلا التقدیرین المصلحة فی کلّ واحد من الأقلّ و الأکثر: إمّا هی غیر المصلحة التی فی الآخر، لکن بحیث لو وُجد و تحقّق أحدهما لم یکن للآخر موقع؛ بأن یشتمل کلّ واحدٍ علی مصلحة وافیة بتمام الغرض، و إمّا فی کلٍّ منهما مصلحة واحدة مُعیّنة. فهذه أربع صور.

فقال بعض الأعاظم ما حاصله: إنَّ الأقلّ و الأکثر إذا کانا من الماهیّات المشککة التی ما به الامتیاز فیها عین ما به الاشتراک، کالخطّ إذا تعلّق به أمر، فیمکن التخییر بین الأقلّ و الأکثر فیه، و کذلک إذا کان کلّ واحدٍ منهما مُحصّلًا لعنوان واحدٍ ذی مصلحة، کصلاة الغرقی و المسافر و الحاضر و غیرهما، فإنّ کلّ واحد منهما محصّل لعنوان التخشّع و التخضّع بنحو العبودیّة الذی یترتّب علیه المصلحة، فإنّ التخییر بین الأقلّ و الأکثر فی هذه الصورة- أیضاً- مُمکن(1).

أقول: إنّ أخذ الأقلّ فی هاتین الصورتین بشرط لا، فقد عرفت خروجه عن محلّ النزاع؛ لأنّ مرجعه إلی التخییر بین المتباینین، و إن اخذ لا بشرط فالمحصّل للغرض هو الأقلّ- حینئذٍ- و الأکثر لا یمکن أن یحصل به الغرض، فلا معنی للتخییر بینهما.

فالتحقیق أن یقال: إنّ الأقلّ و الأکثر إمّا من الامور الواقعیّة الدفعیّة الوجود، و المصلحة فی أحدهما غیر المصلحة فی الآخر، لکن یکفی إحداهما فی حُصول الغرض، فإن کانت المصلحتان مُتزاحمتین فی الوجود استحال التخییر بینهما؛ لعدم إمکان ذلک فی الأکثر لوجود الأقلّ فی ضمن الأکثر، فلا بُدَّ أن یترتّب علیه أثره من المصلحة، و المفروض أنّ فی الأکثر- أیضاً- مصلحة تترتّب علیه، فحیث إنّ المصلحتین


1- انظر نهایة الأفکار 2: 393- 394.

ص: 177

مُتزاحمتان فی الوجود- کما هو المفروض- فهو یؤدّی إلی الاستحالة.

و إن لم تتزاحم المصلحتان فی الوجود أمکن التخییر بینهما، و إن ترتّب علی الأقلّ فی الفرض عین المصلحة التی تترتّب علی الأکثر، فلا یمکن أن یتعلّق الأمر بالأکثر؛ لأنّ الأقلّ الموجود کافٍ فی ترتُّب تلک المصلحة و وافٍ بالغرض، فالزیادة علیه لغو.

و إن کان الأقلّ و الأکثر من الامور المتدرّجة الوجود، فمع إیجاد الأقلّ یترتّب علیه الأثر المطلوب، فهو کافٍ فی تحقّق المطلوب و وافٍ بالغرض فالأمر بالزائد عنه- أی الأکثر- لغو، و لا فرق فیه بین تغایر مصلحة الأقلّ مع مصلحة الأکثر و عدمه.

ص: 178

ص: 179

الفصل الثامن عشر فی الوجوب الکفائی

لا ریب فی أنَّه من سنخ الوجوب، و لا ریب- أیضاً- فی إمکانه و وقوعه، کأکثر أحکام المیّت و تجهیزاته، و هذا ممّا لا إشکال فیه، و إنّما الإشکال فی تصویره و کیفیّة تعلُّق الوجوب و توجّهه إلی المکلّفین:

فقد یقال: إنّ التکلیف فیه مُتوجّه إلی جمیع المکلّفین بنحو الاستغراق(1).

و قد یُقال: إنّه متوجّه إلی واحد غیر معیّن(2).

و قد یقال: إنّه متوجّه إلی مجموعهم من حیث المجموع(3).

و قد یقال: إنّه متوجّه إلی فردٍ مُردّدٍ بین الأفراد(4).

فنقول: أمّا الثالث: فالمجموع أمر اعتباریّ لا وجود له فی الخارج، غیر قابل لأن یتوجّه إلیه التکلیف، فإنّه لا بدّ أن یتوجّه إلی ما له تحقّق و وجود فی الخارج.


1- کفایة الاصول: 177، هدایة المسترشدین: 268.
2- انظر مفاتیح الاصول: 312 سطر 8.
3- هدایة المسترشدین: 268.
4- منتهی الدرایة 2: 563.

ص: 180

لا یقال: قد یُؤمر جماعة برفع صخرة عظیمة- مثلًا- لا یقدر کلّ واحد منهم علی رفعها وحده، و لکن یقدر جمیعهم علی ذلک، فإنّ الأمر- حینئذٍ- لیس متوجِّهاً إلی کلّ واحد، فلا بدّ أن یتوجّه إلی جمیعهم بما هو کذلک.

لأنّا نقول: لیس الأمر کذلک، فإنّ للصخرة مقداراً من القوی الطبیعیة التی تشدّها إلی المرکز- أی الأرض- أو أنّ للأرض قوّة جاذبة لها إلیها، فإذا صارت فی الأرض بمقتضی إحدی القوّتین، فلا ترتفع من مرکزها إلّا بقوّة تخالفها مع زیادتها علی الاولی، و فی الفرض لیس لکلٍّ واحدٍ من الجماعة القوّة المخالفة زیادة عن مقدار ما فی الصخرة من القوّة، أو ما فی الأرض من الجاذبة، لکن قوی جمیعهم زائدة علی ما فیها أو علی ما فی الأرض من القوّة، و المؤثّر فی رفع الصخرة- حینئذٍ- لیس مجموع قواهم من حیث المجموع، بل یستعمل کلّ واحد منهم قوّته، و یرفع کلّ واحد من الصخرة بمقدار ما له من القوّة، لا أنّ المؤثّر هو المجموع من حیث المجموع الذی لا تحقّق له فی الخارج.

فعلم ممّا ذکرنا: أنّ القول الثالث غیر متصوّر.

و أمّا القول الثانی- و هو توجُّه التکلیف فیه إلی واحد غیر معیّن- فإن ارید به مفهوم الواحد الغیر المعیَّن فالتکالیف متوجّهة إلی الموجودین، و المفهوم لا وجود له فی الخارج.

و إن ارید أنّه متوجِّه إلی واحدٍ خارجیّ مقیّداً بأنّه غیر معیّن، فلا معنی له؛ لأنّ کلّ واحدٍ من المُکلّفین معیّن.

و من ذلک یظهر: أنّ قولَ بعض الفقهاء:- إنّ صاعاً من صُبْرة مُعیَّنة(1) کلیٌّ- فاسدٌ؛ لأنّ کلّ صاع من الصُّبرة معیَّن، لا کلی.

و إن ارید أنّ التکلیف فیه متوجِّه إلی عنوان الواحد الغیر المعیّن، الذی یصدق


1- منیة الطالب 1: 294- 295.

ص: 181

علی کلّ واحدٍ من المکلّفین، لا إلی خصوص آحادهم- کزید و عمر مثلًا- لا أن یکون قید عدم التعیین للفرد الخارجی؛ لیرد علیه الإشکال المتقدّم، فهو مُتصوّر معقول لا إشکال فیه.

و أمّا القول الرابع- و هو أنّ التکلیف فیه متوجّه إلی واحد مردّد- فقد یُستشکل: بأنّ التکلیف لا یمکن أن یتوجّه إلی الفرد المردّد، کواحد من زید و عمر بنحو التردید الواقعیّ، و یُجاب عنه بالنقض بالواجب المخیَّر، فإنّ التکلیف فیه متعلِّق بأحد الأفراد بنحو التردید الواقعیّ مع صحّته و وقوعه.

و أورد علیه بعضٌ بالفرق بینهما، لکن لم یبیّن وجه الفرق، و الذی یسهّل الخطب أنّه لیس فی الواجب التخییریّ إرادة واحدة و بعث واحد مُتعلّقان إمّا بهذا الفعل أو بذاک بنحو التردید الواقعیّ، کما عرفت مفصّلًا؛ لأنّه مستحیل، بل حیث إنّه یری المولی أنّ لهذا الفعل مصلحةً، فیریده و یبعث نحوه، ثمّ یری أنّ فی فعلٍ آخر مصلحة اخری مُغنیة عن الاولی، فیریده و یبعث نحوه، و حیث إنّ المفروض کفایة إحدی المصلحتین یفصل بین البعثین ب «أَو»، و یقول: «افعل هذا أو ذاک»، ففیه إرادتان و بعثان لا واحدة، فیمکن أن یقال فی الواجب الکفائیّ نظیر ذلک أیضاً، فلا إشکال فیه من حیث التصویر.

و أمّا القول الأوّل- و هو توجّه التکلیف و الوجوب إلی المکلّفین بنحو الاستغراق- فقال بعض الأعاظم ما حاصله: إنّ للوجوب إضافةً إلی المُکلِّف- بالکسر- و إضافةً إلی المُکلَّف- بالفتح- و إضافةً إلی المکلَّف به، و الوجوب الکفائی یشترک مع الوجوب العینیّ فی الإضافتین الأوّلتین، فکما أنّ للوجوب العینی إضافةً إلی المُکلّفین بنحو الاستغراق، کذلک الوجوب الکفائیّ له إضافة إلیهم بنحو الاستغراق، لکنّهما یفترقان فی الإضافة الثالثة؛ أعنی إضافته إلی المکلَّف به، فإنّه مطلوب من کلّ واحد واحد من المکلّفین فی الواجب العینیّ، فالممتثل منهم مُثاب و إن لم یمتثله

ص: 182

بعض آخر.

و بعبارة اخری: لا یسقط تکلیف بعض فی الواجب العینیّ بامتثال آخر، بخلاف الواجب الکفائیّ، فإنّهم إن أخلّوا به جمیعاً أثموا، و استحقّوا العقاب، لکن لو أتی به بعضهم سقط عن الآخرین، و أنّه لو شُکّ فی واجب أنّه عینیّ أو کفائیّ أمکن جریان البراءة عن العینیّة(1).

و قال المیرزا النائینی قدس سره: إنّ الوجوب العینیّ یشترک مع الکفائیّ فی الإضافة إلی المکلِّف- بالکسر- و الإضافة إلی المکلَّف به، و إنّما یفترقان فی الإضافة إلی المکلَّف- بالفتح- حیث إنّ التکلیف متوجّه إلی المکلَّفین فی العینیّ بنحو الوجود الساری، و فی الکفائیّ بنحو صرف الوجود(2). انتهی.

أقول: الواجبات الکفائیّة علی أنحاء مختلفة:

منها: ما لا یمکن أن یوجد و یتحقّق منها فی الخارج إلّا فرد واحد، کقتل سابّ النبیّ صلی الله علیه و آله أو دفن المیّت، فإنّه لا یعقل تحقّق فردین منهما فی الخارج، و أمّا اجتماع جماعة علی قتله أو علی دفن میّت فهو قتل واحد و دفن واحد، صدر من کلّ واحد منهم بعضُه، لا متعدّد.

و منها: ما یمکن أن یتحقّق منه أزید من فرد واحد، و هو- أیضاً- علی قسمین، فإنّ الزائد علی فرد واحد إمّا مبغوض للمولی، أو لا محبوب و لا مبغوض.

و منها: ما یکون المطلوب منه صرف الوجود الذی یتحقّق بإتیان فرد واحد و أکثر.

أمّا النحو الأوّل: فالظاهر أنّه بنحو الاستغراق غیر متصوّر فإنّ بعث جماعة إلی ما لا یمکن صدوره إلّا من واحد منهم، غیر معقول بعثاً مُطلقاً إلّا بنحو الاشتراط؛ بأن


1- انظر نهایة الاصول 1: 210- 211.
2- انظر أجود التقریرات 1: 187.

ص: 183

أمَر کلّ واحدٍ منهم به بشرط العلم بعدم عزم الباقین علی إتیانه، فإنّه معقول متصوّر، و کذلک لا یعقل البعث المطلق لهم بنحو صِرف الوجود، فإنّه یصدق إذا تعدّد المکلّفون أیضاً.

أمّا النحو الثانی فأوضح من ذلک فساداً و من حیث عدم المعقولیّة، فإنّه لو فرض أنّ المطلوب هو فرد واحد فقط، و باقی الأفراد مبغوضة، لا معنی لبعثهم جمیعاً نحوه؛ لجواز أن ینبعث الزائد علی واحد منهم، فیأتی بفرد مبغوض، سواء کان بنحو الاستغراق أو صرف الوجود.

و النحو الثالث أیضاً کذلک و هو الذی فرض فیه: أنّ المطلوب فرد واحد، و الزائد علیه لا محبوب و لا مبغوض، فإنّ تکلیفهم جمیعاً بنحو الاستغراق غیر معقول، کما لو أمر المولی عبیده بإتیان الماء للشرب، فإنّه لو أتی کلّ واحد منهم بکأس من الماء لعاتبهم و قبَّح عملهم، و کذلک لو ترکوا جمیعهم؛ بخلاف ما لو أتی به واحد منهم، فالمأمور هو ذاک الواحد منهم.

و بالجملة: التکلیف بالنسبة إلی غیر الواحد منهم لغوٌ و بلا وجه، و أمّا التکلیف فی هذا النحو بنحو صِرْف الوجود فلا إشکال فیه.

و إذا عرفت أنّ التکلیف بنحو الاستغراق فی الواجب کفایةً غیر معقول فی جمیع الصور، و کذلک بنحو صرف الوجود فی بعضها، فلا بدّ أن یقال: إنَّ التکلیف فیه مُتوجّه إلی واحدٍ من المکلّفین؛ أی هذا العنوان الذی یصدق علی کلّ واحد منهم.

أو یقال: إنّه متوجّه إلی کلّ واحد منهم بشرط علمه بعدم عزم الباقین علیه؛ أی بشرط لا، أو بشرط عدم إقدام الباقین علی فعله لو فرض أنّه بنحو الاستغراق، و لا یعقل- أیضاً- إن کان بنحو صِرف الوجود.

أو یقال بتوجُّه التکلیف إلیهم بنحو التردید الواقعیّ؛ لما عرفت من إمکانه و عدم الإشکال فیه.

ص: 184

ص: 185

الفصل التاسع عشر فی الواجب الموسَّع و المضیَّق

المبحث الأوّل: حول تعریفهما

اشارة

قد یقسّم الواجب إلی الموقّت و الغیر الموقّت، و الموقّت- أیضاً- إلی الموسَّع و المضیَّق.

قال قدس سره فی «الکفایة»: إنّ الزمان و إن کان ممّا لا بدّ منه فی کلّ واجب، إلّا أنّه قد یکون له دخلٌ فیه، أو لا دخل له فیه، فالأوّل هو الموقّت، و الثانی الغیر الموقّت، و الأوّل إمّا أن یکون الزمان المأخوذ فیه بقدره فمضیّق، و إمّا أن یکون أوسع منه فموسّع(1) انتهی.

و الأولی فی الموقّت و غیره ما ذکره فی «الفصول» و اختاره المیرزا النائینی 0:

و هو أنّ الزمان بحسب مقام الثبوت إمّا له دخلٌ فی تحقّق المصلحة، أو لیس له دخل فیه أصلًا؛ بحیث لو فرض إمکان انفکاکه عن الزمان تحقّقت المصلحة.


1- انظر کفایة الاصول: 177.

ص: 186

و الأوّل علی قسمین:

لأنّ ما له الدخل فی المصلحة إمّا هو مُطلق الوقت و الزمان، و إمّا زمان معیّن، و جری الاصطلاح علی أن یُطلق الموقّت علی ما یکون الزمان المعیَّن دخیلًا فی المصلحة، و الغیر الموقّت علی ما لا یکون الزمان المعیّن دخیلًا فیها، سواء لم یکن دخیلًا فیها أصلًا، أو یکون الدخیل هو مطلق الزمان.

و الموقّت- أیضاً- علی قسمین: مُوسَّع إن لم یکن الزمان المأخوذ فیه بقدره، کالصلاة من دلوک الشمس إلی غَسَق اللیل، و مُضیَّق إن کان بقدره؛ کالصوم من الفجر إلی الغروب(1).

و من ذلک یظهر فساد ما ذکره فی «الکفایة» من التعریف المذکور، فإنّه جعل الموقّت ما للزمان دخل فیه، سواء کان بنحو الإطلاق، أو زمان معیّن، لکن لیس کذلک کما عرفت، فکما لا یصحّ أن یقیّد المأمور به بإتیانه فی الوقت فیما لا دخل للوقت فی مصلحته أصلًا، کذلک فیما لمطلق الوقت دَخْلٌ فیها؛ لعدم انفکاکه عنه، فإنّه- أیضاً- یُعدّ من غیر الموقّت کما قبله.

ثمَّ إنّه اورد علی الواجب الموسَّع إشکال عقلیّ فی غایة الوهن: و هو أنّه إذا فرض أنّ الزمان أوسع من الواجب، کالصلاة من دلوک الشمس إلی غَسَق اللیل، فیجوز ترکه فی أوّل الوقت، و جواز الترک یُنافی الوجوب، فلا بدّ أن یُخصّص ما ظاهره ذلک، إمّا بأوّل الوقت، لکن لو عصی و أخّرها، و أتی بها فی آخر الوقت، کفت و أجزأت عن الواجب، کما ورد فی الخبر: (أنّ أوّل الوقت رضوان اللَّه، و آخر الوقت غفران اللَّه)(2)، و إمّا أن یُخصِّص بآخر الوقت، و الإتیان به فی أوّل الوقت نقلٌ یسقط


1- انظر الفصول الغرویّة: 104.
2- وسائل الشیعة 3: 90/ 16 باب 3 من أبواب المواقیت. الفقیه 1: 140/ 6 باب مواقیت الصلاة، الفقه المنسوب للامام الرضا: 77.

ص: 187

به الفرض(1).

و فیه: أنّ المفروض فیه أنّ الصلاة واجبة من أوّل الوقت إلی آخره؛ أی من دلوک الشمس إلی غَسَق اللیل، و جواز الترک فی جمیع هذا الوقت المحدود یُنافی الوجوب، لا جواز الترک فی بعض الوقت، و المخالفة و العصیان إنّما یتحقّقان لو ترکها فی جمیع أجزاء الوقت، لا فی بعضها فقط، و هو واضح.

و اورد علی الواجب المضیّق- أیضاً- إشکال عقلیّ: و هو أنّه لا ریب فی أنّ الانبعاث مُتأخّر زماناً عن البعث، فإذا بعثه فی أوّل الوقت، کالأمر بالصوم فی أوّل الفجر، فإمّا أن ینبعث المکلّف فی أوّل الوقت- أیضاً- فهو خلفٌ؛ لأنّ المفروض أنّ الانبعاث متأخّر زماناً عن البعث، فلا یُمکن وقوعه فی زمانه، و إمّا أن یتأخّر عنه بالزمان و لو قلیلًا، فیلزم عدم تطابق الفعل لأوّل الوقت، و هو- أیضاً- خلف(2).

و فیه: أوّلًا: أنّا لا نُسلِّم أنّه لا بدّ من تأخُّر زمان الانبعاث عن زمان البعث، بل و لا التأخّر الرتبیّ، کتأخّر المعلول عن علّته؛ لأنّ الانبعاث لیس معلولًا للبعث، بل تأخّره عنه بالطبع، فإنّ الانبعاث مُسبِّب عن المبادئ الکامنة فی نفس المکلّف من الحبّ و الخوف و الشوق و نحو ذلک، و حینئذٍ فلو أمره فی أوّل اللیل بالإمساک من الفجر بنحو الواجب المشروط، ینبعث المکلّف فی أوّل الفجر، مع تعلُّق الوجوب- أیضاً- فی ذلک الوقت، و لا إشکال فیه.

و ثانیاً: سلّمنا تأخُّر الانبعاث عن البعث زماناً، لکن یمکن أن یأمر قبل الوقت به بنحو الواجب المُعلّق؛ بتعلیق الواجب علی دخول الوقت و إن کان الوجوب فعلیّاً قبل الوقت بإنشائه قبله، فلا إشکال فیه.


1- انظر قوانین الاصول 1: 118 سطر 5، المعتمد 1: 124- 133.
2- انظر فوائد الاصول 1: 236.

ص: 188

المبحث الثانی عدم إمکان صیرورة الموسّع مضیّقاً

بقی الکلام: فی أنّه هل یصیر الموسّع مضیّقاً لو أخّره إلی أن بقی من الوقت بمقدار فعله أو لا؟

فنقول: إذا تعلّق الأمر بطبیعة فی وقت موسّع، و لها أفراد، فالمکلّف مخیّر فی الإتیان بأیّ فرد منها، و هذا التخییر عقلیّ؛ لأنّ المفروض أنّ خصوصیّة کلّ واحد من الأفراد غیر دخیلة فی المطلوب منها، و إلّا لم یتعلّق الأمر بنفس الطبیعة، و مع دخل کلّ واحدة من الخصوصیّات فیه مع تعلّق الأمر بها یصیر الواجب مضیّقاً، فالشارع من حیث إنّه شارع لا یجوز له أن یخیِّر العبد بین أفراد الطبیعة التی أمر بها، نعم یصحّ له ذلک بما هو أحد أفراد العقلاء. نعم لو فرض أنّ خصوصیّة کلّ فرد دخیلة فی الغرض فلا بدّ أن یتعلّق بکلّ واحدٍ من الأفراد أمرٌ؛ لتعدُّد المحصِّل له، و حینئذٍ فلو خیَّره الشارع بینها کان التخییر شرعیّاً، و ما نحن فیه لیس کذلک.

إذا عرفت ذلک نقول: لو أخّر المکلّف الواجب الموسّع حتّی بقی من الوقت مقدار فعله فقط عمداً أو نسیاناً، فلا ریب فی أنّه لا یعقل أن یصیر مضیّقاً:

أمّا أوّلًا: فلأنّ الأمر فی الموسّع- کما عرفت- متعلّق بالطبیعة فی ذلک وقت المحدود بحدّین، کالصلاة من دلوک الشمس إلی غروبها، و هذا الفرد الواقع فی آخر الوقت من مصادیق تلک الطبیعة؛ بداهة أنّه یصدق علیه أنّه صلاة واقعة بین الحدّین، کسائر أفرادها فی ذلک الوقت.

و ثانیاً: عرفت أنّ الأمر فی الواجب المُوسَّع متعلّق بالطبیعة، و لا دخل لخصوصیّات أفرادها فی الغرض و المصلحة، بخلاف الواجب المضیّق، فإنّ خصوصیّة

ص: 189

کلّ واحد من الأفراد دخیلة فیه، و الأمر فیها- أیضاً- متعلّق بالفرد الخاصّ، فلو صار الواجب الموسّع مضیّقاً بضیق وقته لزم التغییر فی إرادة الشارع، و تصیر مُتعلّقة بالفرد الخاصّ بعد ما کانت متعلّقة بالطبیعة، و هو غیر معقول.

فظهر أنّ الموسّع لا یصیر مُضیّقاً بضیق وقته، لکن العقل یحکم بلزوم الإتیان بخصوص هذا الفرد، لا من جهة أنّه مضیّق، بل من جهة أنّ الطبیعة المأمور بها انحصرت فی هذا الفرد، و لا فرد لها غیره فی الفرض.

المبحث الثالث حول دلالة الأمر علی وجوب الإتیان خارج الوقت

اشارة

ثمّ إنّه هل یدلّ الأمر المتعلّق بالموقّت علی وجوب الإتیان به خارج الوقت لو لم یأتِ به فی الوقت عمداً أو نسیاناً أو غیرهما؟

قال فی الکفایة: لو کان الأمر فی الموقَّت متعلِّقاً بأصل الطبیعة و التقیُّد بالوقت- لقیام دلیل آخر منفصل لیس له إطلاق بالنسبة إلی حالات المکلّف من الصحّة و المرض و العجز و غیر ذلک- لکان قضیّة إطلاق الأمر بأصل الطبیعة هو ثبوت الوجوب بعد خروج الوقت، و أنّ التقیید به إنّما هو لأجل أنّه تمام المطلوب، لا أصل المطلوب(1) انتهی.

و فیه ما لا یخفی، فإنّ ما ذکره خارج عن محلّ الکلام، فإنّ محلّه هو: أنّ الأمر بالموقّت هل یدلّ علی وجوبه بعد خروج الوقت؟ فذهب بعضٌ إلی دلالته علی ذلک؛ لأنّه مع عدم التمکّن من تحصیل مصلحة الوقت، یلزم عدم تفویت أصل مصلحة


1- انظر کفایة الاصول: 178.

ص: 190

الطبیعة، و ما ذکره فی الکفایة هو دلالة الإطلاق علی ذلک، و لا شکّ فیه و لا شبهة تعتریه، لکنّه خارج عن المبحث.

و الحقّ أنّه لا دلالة لأمر الموقّت علی وجوب الإتیان به خارج الوقت کما عرفت، فالقضاء إنّما هو بأمرٍ جدید.

مقتضی الاستصحاب

ثمّ مع عدم دلالته علی ذلک فهل یمکن استصحاب الوجوب بعد خروج الوقت؟

و الحقّ عدم جریانه، توضیح ذلک یحتاج إلی بیان مقدّمة: و هی أنّهم ذکروا أنّه یُعتبر فی الاستصحاب بقاء الموضوع(1)، و الأولی أن یُقال: إنّه یُعتبر فی الاستصحاب اتّحاد القضیّة المشکوکة مع المُتیقّنة، فإذا تعلّق الحکم بعنوان کلی مقیّد بقید، کما لو قال:

«الماء إذا تغیّر ینجس» فالموضوع لهذا الحکم هو عنوان الماء المُتغیّر، بخلاف ما إذا جعل الموضوع مطلق الماء.

و الحاصل: أنّ الموضوع لحکمٍ إذا کان کلیّاً، فهو مع التقیید بقیدٍ موضوعٌ، و بدون التقیید به موضوع آخر، کما إذا قال: «العنب إذا غلی ینجس»، فإنّ الموضوع فیه مغایر للزبیب، فإنّه موضوع آخر. هذا إذا کان الموضوع هو العنوان الکلی.

و أمّا إذا جعل الموضوع مصداقاً خارجیّاً، کما لو فرض وجود ماءٍ متغیّر فی الخارج، فیقال: «هذا الماء متغیّر، و کل ماءٍ مُتغیّر نجس، فهذا الماء نجس»، فالموضوع هو المشار إلیه بقولنا: «هذا»، فإذا فُرض زوال التغیُّر عنه فی الخارج، و احتُمل أنّه لا یکون زوال التغیُّر بنفسه مُطهِّراً، أمکن جریان استصحاب النجاسة حینئذٍ، فإنّ الموضوع هو المشار إلیه الخارجیّ، و التغیّر واسطة فی الثبوت- أی ثبوت حکم النجاسة له- فلا یضرّ انتفاؤه فی جریان الاستصحاب، و کذلک الکلام فی العنب


1- فرائد الاصول: 399 سطر 19، درر الفوائد: 573.

ص: 191

الموجود فی الخارج، فإنّه محکوم بأنّه إذا غلی ینجس، فإنّه إذا صار زبیباً یُستصحب ذلک الحکم؛ لما بیّناه.

و بالجملة: إذا جعل و عُلّق الحکم علی عنوان کلی و جُعل موضوعاً لحکمٍ، فهو یختلف باختلاف القیود وجوداً و عدماً، و أمّا الموضوع الخارجیّ فلیس کذلک، لا یختلف باختلاف قیوده و حالاته إلّا أن یتغیّر ماهیّته، کما إذا صار الکلبُ مِلحاً.

إذا عرفت ذلک نقول: حیث إنّ الموضوع فیما نحن فیه هو العنوان الکلی؛ أی الصلاة من دلوک الشمس إلی غسق اللیل، و المفروض أنّه لم یوجد فی الخارج، و إلّا لم یحتجْ إلی الاستصحاب، فبانتفاء قیده الذی هو الوقت المعیّن بخروج الوقت، یتغیّر الموضوع، و یصیر طبیعةَ الصلاة، لا المقیّدة بالوقت المحدود، فلا یجری الاستصحاب؛ لعدم اتّحاد القضیّة المتیقّنة مع المشکوکة و المفروض أنّ الموضوع هو العنوان الکلی لا المصداق الخارجیّ لأنّ المفروض أنّه لم یوجده المکلّف و إلّا انتفی الوجوب لأنّ الخارج ظرف للسقوط لا الثبوت فالمقام مجری البراءة لا الاستصحاب.

ص: 192

ص: 193

المطلب الثانی فی النواهی و فیه فصول:

اشارة

ص: 194

ص: 195

الفصل الأوّل فی متعلَّق النهی

هل النهی مثل الأمر فی الدلالة علی الطلب بمادّته و هیئته، و أنّ الفرق بینهما إنّما هو فی المتعلّق، و أنّ متعلّق الأمر هو الوجود و متعلّق النهی هو العدم، أو أنّه لا فرق بینهما فی المُتعلّق، و أنّه الوجود فیهما، و الفرق فی أنفسهما؟

وجهان: اختار أوّلهما فی «الکفایة»، لکن لا بدّ من بیان أنّ الفرض الأوّل هل هو متصوّر عقلًا أو لا؟

فنقول: لا ریب فی أنّ الطلب مسبوق بمقدّمات الإرادة من التصوّر و التصدیق بأنّ المطلوب ذو مصلحة فی الأمر و مفسدة فی النهی، و الاشتیاق إلیه فی بعض الأوقات لتتعلّق به الإرادة و البعث إلیه، و هذه کلّها غیر متصوّرة فی العدم لا عقلًا و لا عرفاً، فإنّ العدم المطلق منه و المضاف لیس شی ء یوجد فیه المصلحة أو المفسدة، أو یشتاق إلیه أو یراد و یبعث نحوه، و أیضاً قولُنا: العدم ذو مصلحة أو مشتاق إلیه أو مراد، قضیّةٌ موجبة لا بدّ لها من وجود الموضوع، فلا یصحّ جعل العدم موضوعاً لها.

و بالجملة: توهُّم أنّ العدم متعلَّق للطلب فی النواهی و البعث و غیرهما غیر معقول.

و أمّا بملاحظة العرف فالأمر مرکّب من مادّة و هیئة فهو بمادّته یدلّ علی نفس

ص: 196

الطبیعة و بهیئته یدلّ علی البعث و الإغراء إلیها، و أمّا النهی، مثل «لا تضرب» فمادّته هی مادّة الأمر مثل «اضرب»، تدلّ علی طبیعة الضرب مع زیادة کلمة «لا»، و لیس فیه ما یدلّ علی الطلب، بل هیئته تدلّ علی الزجر عن الوجود.

و بالجملة: کلّ واحد من الأمر و النهی متعلِّق بالوجود، و لا فرق بینهما فی ذلک، و إنّما الفرق بینهما فی أنفسهما، و أنّ الأمر هو طلب الوجود، و النهی زجر عن الوجود، و ذلک هو مُقتضی العقل و العرف.

ثمّ إنّه لا وجه للنزاع و البحث فی أنّ النهی عبارة عن طلب الکفّ عن الفعل، أو نفس أن لا تفعل(1)، سواء قلنا بأنّ النهی هو طلب العدم، أم قلنا بأنّه زجر عن الوجود:

أمّا علی الثانی فواضح؛ لأنّه لا طلب حتّی یتوهّم أنّه طلب للکفّ، أو نفس أن لا یفعل.

و أمّا علی الأوّل- الذی اختاره فی الکفایة- فهو- أیضاً- کذلک؛ لأنّه- حینئذٍ- و إن کان طلباً، لکن مُتعلّقه العدم لا الوجود.

ثمّ إنّ ما ذکره فی «الکفایة» من أنّ الترک- أیضاً- مقدور، و إلّا لما کان الفعل مقدوراً- أیضاً- فإنَّ القدرة بالنسبة إلی طرفی الوجود و العدم علی حدٍّ سواء، و أنّها ذات إضافة إلی طرفی الوجود و العدم، کما فُصّل ذلک فی الکتب الحَکَمیّة(2)، فإن أراد بذلک أنّ للمکلّف إضافة إلی وجود الأفعال الاختیاریّة و عدمها؛ سواء ارید بها الإضافة الإشراقیّة، أو الإضافة المقولیّة، فلا معنی له، فإنّ الإضافة تحتاج إلی المتضایفین، و لا یمکن تحقُّقها مع أحد المُتضایفین فقط، و إن ارید بذلک أنّ المکلّف قادر علی إیجاد الفعل فی المستقبل، فهو صحیح.


1- معالم الدین: 94- 95.
2- الأسفار 6: 308.

ص: 197

الفصل الثانی فی منشأ الفرق بین مُرادَی الأمر و النهی

لا ریب و لا إشکال فی أنّه إذا نهی المولی عن طبیعة، فالمراد الزجر عن جمیع أفرادها عند العرف و العقلاء، فلا بدّ أن یترک المکلّف جمیع الأفراد، و لو أمر بها کفی فی الامتثال إیجاد فرد منها.

و لا إشکال فی ذلک فی المُتفاهَم العرفیّ، و إنّما الإشکال فی منشأ ذلک و أنّه هل هو بحکم العقل- أی البرهان العقلیّ- أو أنّه مقتضی اللغة و مدلول اللفظ أو أنّه بحسب المتفاهم العرفیّ.

قد یقال: إنّه مُقتضی حکم العقل- کما اختاره فی «الکفایة»- لأنّه یصدق إیجاد الطبیعة بإیجاد فرد منها؛ لأنّها عین الفرد فی الخارج، فإذا أتی به فقد أتی بتمام المطلوب، فیتحقّق الامتثال فیما لو أمر بها، و أمّا فی صورة النهی عنها فلأنّ المفروض أنّها تصدق بإیجاد فرد منها، فلو ترک فرداً منها و أوجد الآخر، فانتفاء الطبیعة و إن یصدق بترک فرد، لکن یصدق إیجادها بفرد آخر منها، فهی موجودة، فیلزم أن تکون موجودة

ص: 198

و معدومة معاً، و هو محال، فهی موجودة- حینئذٍ- فلا یتحقّق الامتثال(1).

لکن هذا الاستدلال فاسد؛ لأنّ کلّ فرد من أفراد طبیعة- تمامها فی الخارج- یتکثّر وجودها فی الخارج بعدد الأفراد، لا أنّ حصّة منها موجودة فی ضمن فرد، و حصّة اخری منها فی فرد آخر، و حینئذٍ فکما أنّه إذا أوجد فرداً من الطبیعة فقد أوجدها، کذلک إذا ترک فرداً منها فقد ترکها؛ لعدم الفرق فی ذلک بعد ما فرض أنّ الطبیعة عین کلّ فرد فی الخارج فالبرهان العقلیّ قائم علی خلاف ما ذکره.

و أمّا دلالة النهی علی ذلک فهی- أیضاً- ممنوعة، فإنّ المادّة موضوعة للطبیعة المجرّدة، و الهیئة موضوعة للزجر عنها، و لیس للمجموع من حیث المجموع وضع آخر نوعیّ.

و أمّا احتمال أنّ وضع المادّة فی النهی غیر وضعها فی الأمر فهو کما تری، و کذلک احتمال أنّ استعمال صیغة النهی- مثل «لا تضرب»- فی نفی جمیع أفرادها بنحو المجازیّة لعلاقة نوعیّة.

و حینئذٍ فانحصر القول بأنّ ذلک حکم عرفیّ عقلائیّ، لا عقلیّ؛ فإنّ مقتضی الحکم العقلیّ الدِّقّی: هو أنّ الطبیعة توجد بإیجاد فرد منها، و تنعدم بإعدام فرد منها؛ لأنّه مُقتضی کون الطبیعة عین الأفراد فی الخارج، و أنّها تتکثّر بتکثّرها، و لا یصحّ أن یقال: إنّ بناء العقلاء علی ما ذکر إنّما هو لأجل أنّ وجود الطبیعة إنّما هو بوجود فرد منها، و انعدامها بإعدام جمیع أفرادها و انتفائها، فإنّه- أیضاً- لا یستقیم؛ لأنّ مقتضی حکم العقلاء هو- أنّه إذا أتی بالمنهیّ عنه مراراً، استحقّ العقوبة بعدد الأفراد التی ارتکبها، و أنّه لو اتّفق أنّه حصّل مقدّمات ارتکابه، لکن لم یرتکبها أصلًا عدّ ذلک طاعة عندهم، و لو تکرّر ذلک و لم یرتکبها عُدَّ ذلک إطاعات، و أنّه لو أتی بفرد منها فالنهی باقٍ بحاله بالنسبة إلی سائر الأفراد، و هذا منافٍ للحکم بأنّ انتفاء الطبیعة


1- کفایة الاصول: 182- 183.

ص: 199

بانتفاء جمیع الأفراد فقط؛ لأنّ مقتضاه أنّ ترک جمیع الأفراد إطاعة واحدة.

و ذکر بعض الأعاظم فی المقام ما حاصله: أنّ المُنشَأ فی النهی هی طبیعة الطلب المتعلّق بطبیعة ترک شرب الخمر- مثلًا- فی «لا تشرب الخمر»، لا شخص خاصّ من الطلب، و طبیعة الطلب بنفسها متکثّرة فی الخارج بتکثّر الأفراد، فلکلّ فرد من المنهیّ عنه فرد من الطلب، فلذلک بنی العقلاء علی أنّ الإتیان بالأفراد المُتعدّدة للطبیعة المنهیّ عنها، هو عصیانات متعدّدة، و أنّ الإطاعة لا تحصل إلّا بإعدام جمیع أفرادها(1) انتهی خلاصة کلامه قدس سره.

و فیه: أنّه لا بدّ فی المقام من ملاحظة القواعد اللّغویّة أیضاً، و ما ذکره قدس سره لا ینطبق علیها، فإنّه لو کان المُنشَأ فی النواهی هو طبیعة الطلب و سنخه، فلِمَ لا یقولون به فی الأوامر؛ ضرورة أنّ مادّتهما واحدة؟!

و إن أراد أنّ النهی متعلّق بالأفراد بنحو الاستغراق- کما ذهب إلیه المیرزا النائینی قدس سره(2)- فهو أیضاً غیر مستقیم إلّا بنحو المجازیّة فی الاستعمال، و لا یلتزم به هو قدس سره.

و قال بعضٌ آخر: إنّ النهی لیس طلباً مثل الأمر، بل هو عبارة عن الزجر عن متعلَّقه، و أنّ انتفاء الطبیعة بانتفاء جمیع الأفراد من الأحکام العقلائیّة، و لعلّه لأجل أنّ الأمر و النهی لا یسقطان بالعصیان، بل سقوطهما إمّا بالإطاعة، أو بانتفاء الموضوع، أو بموت المکلّف، و أمّا العصیان فهو لیس مُسقطاً له، بل التکلیف معه- أیضاً- باقٍ بحاله بارتکاب فرد من الطبیعة المنهیّ عنها(3). انتهی ملخّصه.

و فیه: أنّه قد یسقط التکلیف بالعصیان- أیضاً- بارتکاب فرد من الطبیعة


1- نهایة الدرایة 1: 262.
2- فوائد الاصول 1: 395.
3- نهایة الاصول: 222- 223.

ص: 200

المنهیّ عنها، کما إذا نهی عن صِرف وجودها؛ أی أوّل فرد یتحقّق، فإنّ باقی الأفراد- حینئذٍ- لیست منهیّاً عنها، فبإیجاد الفرد الأوّل یسقط التکلیف.

و أمّا ما أفاده فی «الکفایة»: من أنّه یمکن التمسُّک بإطلاق المتعلَّق علی أنّ المراد ترک جمیع الأفراد من هذه الجهة(1).

ففیه: أنّه إن أراد من إطلاق المتعلَّق من هذه الجهة أنّه لاحظ التسویة بین الأفراد، و أنّه قال- مثلًا-: «لا تشرب الخمر سواء ارتکبته مرّة أو أکثر أم لا»، ففیه- مع أنّ الإطلاق اللحاظی غیر متحقّق- أنّ ذلک لیس هو من الإطلاق، بل هو عموم.

و إن أراد بالإطلاق عدم اللحاظ فلیس ذلک من حالات المتعلّق، بل هو من حالات المکلّف.

و أمّا ما یقال: من أنّه إذا فُرض أنّ المفسدة ثابتة فی کلّ فرد من أفراد الطبیعة، فالنهی عنها متوجِّه إلی جمیع الأفراد بنحو الاستغراق، و أنّ المرادَ من «لا تشرب الخمر» الزجرُ عن جمیعها بنحو الاستغراق، فهو قرینة عامّة فی سائر النواهی أیضاً، و لذلک یحکم العرف و العقلاء بذلک أیضاً(2).

ففیه أیضاً: أنّه إن ارید أنّ المادّة موضوعة للطبیعة المجرّدة، و مستعملة فیها أیضاً، لکنّها جعلت حاکیة عن خصوصیّات الأفراد، فهو محال؛ لأنّ الطبیعة المطلقة- بما هی کذلک- مباینة لخصوصیّات الأفراد، فکیف یمکن حکایتها عنها، و إن اتّحدت مع الأفراد فی الخارج، بل هی عینها فیه؟! فإنّ اتّحادَ الطبیعة مع الأفراد فی الخارج، و أنّ کلَّ فردٍ منها تمام الطبیعة، مسألةٌ، و حکایةُ اللفظ الموضوع لها مجرّدة عن خُصوصیّات الأفراد مسألةٌ اخری، و الاولی مُسلَّمة، و الثانیة ممنوعة.

مضافاً إلی أنّه لا فرق بین الأمر و النهی فی أنّ متعلّق کلّ واحدٍ منهما شی ء


1- انظر کفایة الاصول: 183.
2- انظر فوائد الاصول 1: 395.

ص: 201

واحد، و الهیئة و لفظ «لا» الناهیة- أیضاً- موضوعة للدلالة علی الزجر، فلِمَ لا یلتزم بذلک فی الأمر؟!

و إن ارید أنّ المادّة الموضوعة للطبیعة مستعملة فی جمیع الأفراد مجازاً لمناسبة اتّحادها مع الأفراد فی الخارج.

ففیه: أنّ المفهوم من لفظة «لا تضرب»- مثلًا- غیر ذلک عرفاً، مضافاً إلی أنّه لا مناسبة و لا علاقة بین نفس الطبیعة و خصوصیّات الأفراد لتستعمل فیها مجازاً.

و بالجملة: ما ذکره- من أنّ النهی هو الزجر عن کلّ فردٍ فرد من أفراد الطبیعة- لا یساعده العُرف و لا العقل و لا اللغة.

و غایة ما یمکن أن یقال فی المقام: هو أنّ المادّة المتعلّقة للنهی و إن کانت بعینها التی تقع هی متعلَّقة للأمر- أیضاً- فی مثل «اضرب» و «لا تضرب»، و أنّه لا فرق بین مادّتها فی الوضع و الدلالة، لکن الفرق إنّما هو بین نفس الأمر و النهی، فإنّ الأمر حیث إنّه بعث إلی الطبیعة، و أنّ الطبیعة تتحقّق بوجود فرد منها، فإذا أتی المکلّف بفرد منها کان مطیعاً عند العرف و العقلاء؛ لإیجاده تمام الطبیعة- حینئذٍ- فیسقط الأمر، بخلاف النهی؛ حیث إنّه زجر عن الطبیعة، فإذا حصلت مقدّمات ارتکابها، و لم یمنعه مانع عنه، فانتهی و انزجر عن جمیع أفرادها، عُدّ فی العرف مطیعاً، و هکذا لو اتّفق ذلک مکرّراً یُعدّ مُطیعاً بعدد کفّ نفسه عنها مرّاتٍ عدیدة عرفاً کذلک، و أنّه لا یسقط النهی عندهم بارتکاب فرد منها بنحو العصیان، بل هو باقٍ بحاله، و أنّه لو ارتکبها مرّات، و أتی بأفراد منها، یعدّ ذلک عصیانات بعدد الأفراد المأتیّ بها، فتأمّل فی المقام.

ص: 202

ص: 203

الفصل الثالث فی اجتماع الأمر و النهی

اشارة

هل یجوز اجتماع الأمر و النهی فی واحد أو لا؟ کذا عنونوا هذا البحث(1)، لکنّه لیس بسدید، فإنّ المراد بالواحد إمّا الواحد الشخصیّ أو النوعیّ أو الجنسیّ أو الأعمّ من الجمیع، و علی أیّ تقدیر فالأمر دائر ما بین بدیهیّة الجواز و بدیهیّة الامتناع؛ لأنّه إن ارید بالواحد الواحد الشخصیّ الخارجیّ، فالشی ء بعد وجوده الخارجیّ لا یمکن أن یتعلّق به أمر أو نهی، فیمتنع الجواز، و إن ارید به الواحد الجنسیّ فالجواز بدیهیّ، کالأمر بالسجود للَّه و النهی عنه للصنم، أو الأمر بالحرکة المُتخصِّصة بالصلاة و الحرکة المتحصِّصة بالغصب، فإنّه لا ریب و لا إشکال فی جوازه.

فالأولی أن یُعنون البحث هکذا: هل یجوز تعلُّق الأمر و النهی الفعلیّین بعنوانین متصادقین علی واحد شخصیّ أو لا؟ فإنّ النزاع فیه معقول کُبرویّ؛ أی فی الجواز و عدمه، و أمّا بناءً علی ما ذکروه فالنزاع صُغرویّ فی أصل الاجتماع و عدمه، و أیضاً الواحد الجنسیّ لیس مصداقاً لعنوانین فی اصطلاح أهل المیزان، فإنّ المصداق


1- انظر قوانین الاصول 1: 140، الفصول الغرویة: 124، کفایة الاصول: 183.

ص: 204

فی اصطلاحهم هو الفرد الخارجیّ.

ثمّ إنّه لا بدّ فی المقام من تقدیم امور:

الأمر الأوّل: بیان الفرق بین هذه المسألة و مسألة النهی فی العبادات

قال فی «الکفایة» ما حاصله: إنّ الفرق بینهما هو أنّ الجهة المبحوث عنها فیهما مختلفة، کما هو المناط فی تغایر المسألتین، فإنّ البحث فیما نحن فیه إنّما هو: فی أنّ تعدُّد الجهة و العنوان فی واحد هل یوجب تعدّد متعلّقی الأمر و النهی؛ بحیث ترتفع غائلة استحالة الاجتماع فی الواحد بوجه واحد، أو لا یوجبه؟ فالنزاع فی سرایة کلّ واحد من الأمر و النهی إلی متعلَّق الآخر و عدمها، فالأوّل لأجل اتّحاد مُتعلّقیهما وجوداً، و عدم سرایته لتعدّدهما وجهاً، بخلاف الجهة المبحوث عنها فی تلک المسألة، فإنّ البحث فیها هو: أنّ النهی فی العبادات هل یوجب فسادها بعد الفراغ عن توجّهه إلیها أو لا؟

و أمّا ما ذکره صاحب «الفصول»- من أنّ الفرق بینهما و امتیازهما إنّما هو لتغایر موضوعیهما(1)- فاسد؛ لما ذکرنا من أنّه إذا کانت الجهة المبحوث عنها واحدة فی المسألتین فهما واحدة و إن اختلف موضوعاهما أو محمولاهما، و إن کانت متعدّدة فهی مُتعدّدة متغایرة و إن اتّحد موضوعاهما أو محمولاهما(2). انتهی.

أقول: فی مراده من الجهة المبحوث عنها التی ذکرها احتمالات بحسب مقام التصوّر:

الأوّل: أن یُرید منها الحیثیّة التی وقع البحث فیها، کالبحث فی حیثیّة جواز الاجتماع و عدمه، بخلافه فی المسألة الاخری، فإنّ البحث فیها فی حیثیّة الفساد و عدمه.


1- انظر الفصول الغرویّة: 140 سطر 19.
2- کفایة الاصول: 184- 185.

ص: 205

الثانی: أن یرید منها ما هو سبب البحث و علّته التی وقع البحث فیها لأجله.

الثالث: أن یرید منها منشأ القول بالجواز و عدمه، و أنّ منشأ القول بعدم الجواز هو سرایة النهی إلی متعلّق الآخر، و منشأ القول بالجواز عدم سرایته.

فنقول: مراده قدس سره هو الاحتمال الأخیر لتصریحه قدس سره بذلک.

لکن یرد علیه: أنّه إذا کان بین مسألتین تغایر بتمام ذاتیهما، کما إذا تغایرا موضوعاً و محمولًا، أو ببعض ذاتیهما، کما لو اتّحد موضوعهما و تغایر محمولهما أو بالعکس، فلا وجه لأن یبیّن الفرق بینهما بالآثار و العوارض المترتّبة علیهما، کما لو قیل: أنّ الفرق بین الإنسان و الحجر هو أنّ الأوّل مستقیم القامة، بخلاف الحجر، مع أنّهما متباینان فی مرتبة ذاتیهما، و ما نحن فیه من هذا القبیل، فإنّ المسألتین المذکورتین مُتباینتان فی مرتبة ذاتهما موضوعاً و محمولًا، و لا ارتباط لإحداهما بالأُخری، و لا جهة اشتراک بینهما کی یحتاج إلی بیان ما به الامتیاز، فالحقّ أنّ اختلاف المسألتین إنّما هو فی الجهة المبحوث عنها بالمعنی الأوّل، کما ذکره فی «الفصول».

الأمر الثانی: فی کون المسألة اصولیة

إنّ هذه المسألة هل هی من المسائل الاصولیّة، أو من المبادئ الأحکامیّة، أو من المبادئ التصدیقیّة، أو من المسائل الکلامیّة، أو من الفروع الفقهیّة؟

قال المیرزا النائینی قدس سره: حیث إنّ القول بامتناع الاجتماع یؤدّی إلی باب التعارض، فهی من المسائل التصدیقیّة(1).

و قال بعض الأعاظم: حیث إنّ موضوع الاصول هو الحجّة فی الفقه، و أنّه یبحث فیه عن أحوال الحجّة، فهذه المسألة من المبادئ الأحکامیّة؛ لأنّه لا یبحث فیها عن أحوال الحجّة؛ لتکون من المسائل الاصولیّة، بل یستأنس بها فی الأحکام


1- انظر فوائد الاصول 1: 400.

ص: 206

الشرعیّة(1).

و قال فی «الکفایة»: إنّه و إن کان فی هذه المسألة جهات من البحث کلّ واحدة من الجهات تناسب أن تکون من مسائل کلّ واحدة من المذکورات، لکن لا داعی لجعلها من مباحث غیر الاصول، مع أنّهم ذکروها فی الاصول، و إمکان جعلها من المسائل الاصولیّة؛ لأنّ المناط فی المسائل الاصولیّة هو وقوع نتیجتها فی طریق الاستنباط، و هذه المسألة کذلک(2).

أقول: أمّا ما أفاده المیرزا النائینی قدس سره فیظهر من کلامه أنّ مراده من المبادئ التصدیقیّة غیر ما هو المصطلح علیه، فإنّها فی الاصطلاح: عبارة عن البراهین و الاستدلالات التی یتوقّف التصدیق بالمسائل علیها.

و أمّا ما ذکره البعض الآخر من أنّها من المبادئ الأحکامیّة، و أنّ الموضوع لعلم الاصول هو الحجّة فی الفقه، فقد تقدّم الکلام فیه مفصّلًا:

أوّلًا: بأنّا لا نسلّم ما هو المعروف من أنّه لا بدّ لکلّ علمٍ موضوعٌ یُبحث فیه عن أحواله و عوارضه الذاتیّة(3)؛ لاستلزامه خروج جُلّ مسائل کثیر من العلوم عنها؛ مثلًا: أنّهم ذکروا أنّ موضوع علم الفقه هو أفعال المکلّفین(4)، مع أنّ قولهم: «الشمس مطهّرة»، أو «الماء مطهّر»، أو «مقدار الکرّ کذا» ... إلی غیر ذلک من أمثالها، لا یرجع البحث فیه إلی البحث عن أحوال المکلّفین.

و ثانیاً: لا نسلّم أنّ الوجوب و الحرمة من العوارض.

و ثالثاً: لا نسلّم أنّها من عوارض فعل المکلّف و إن سُلِّم أنّها من العوارض.


1- انظر حاشیة الکفایة للبروجردی 1: 349.
2- انظر کفایة الاصول: 185.
3- کفایة الاصول: 22.
4- معالم الدین: 25.

ص: 207

و رابعاً: لو سلّمنا أنّ موضوع علم الاصول هو الحجّة فی الفقه، فلیس المراد منها مفهومها، بل المراد مصادیقها الخارجیّة، و حینئذٍ فیمکن جعلها من المسائل الاصولیّة بهذا المعنی، فلا یصحّ جعلها من مبادئ الأحکام.

و أمّا ما ذکره فی «الکفایة» ففیه: أنّه إنّما یصحّ ما ذکره من إمکان جعل هذه المسألة من المذکورات، إذا کان فیها الجهات المذکورة بعنوانها و بقاء موضوعها و محمولها، مع أنّهم ذکروا فی وجه کونها من المسائل الکلامیّة: أنّ مرجع البحث فیها إلی أنّ المکلِّف- بالکسر- هل یصحّ أن یأمر بعنوان، و ینهی عن عنوان آخر متصادقین علی موضوع واحد(1)؟

و فی وجه کونها من المسائل الفقهیّة: أنّ مرجع البحث فیها إلی صحّة الصلاة الواقعة فی المکان الغصبیّ و فسادها، فغیّروا المسألة و عنوانها و هکذا.

فما ذکره- من إمکان جعلها من کلّ واحد من المذکورات- غیر صحیح.

فالمتعیّن هو ما ذکرناه من أنّ مسائل کلّ علم عبارة عن عدّة مسائل مربوطة، و أنّ المناط فی المسألة الاصولیّة هو إمکان وقوع نتیجتها فی طریق استنباط الأحکام الفرعیّة، و هی کذلک.

الأمر الثالث: فی أنّ المسألة عقلیة

لا ریب فی أنّ هذه المسألة من المسائل العقلیّة، و أنّ الجواز المبحوث عنه فیها و عدمه لا یراد منه الجواز الشرعیّ، بل هو بمعنی الإمکان، و أمّا تفصیل بعض فیها بالجواز عقلًا و عدمه عرفاً(2)، فلا یدلّ علی أنّها من المباحث اللفظیّة و اللغویّة، فإنّ مراده أنّ مقتضی حکم العقل الدِّقّی هو أنّ تعدُّد الجهة موجب لتعدُّد المتعلَّق، و أمّا


1- نهایة الأفکار 1: 407.
2- مجمع الفائدة و البرهان 2: 112.

ص: 208

بحسب النظر العرفیّ فإنَّهما واحد مسامحة، لا بمعنی استظهار ذلک من اللفظ؛ لأنّ البحث لیس فی دلالة لفظی الأمر و النهی.

الأمر الرابع: عدم الفرق بین أقسام الوجوب

لا فرق بین أقسام الوجوب- من النفسیّ و الغیریّ و العینیّ و الکفائیّ و التعیینیّ و التخییریّ- فی جریان النزاع فی الجمیع و شمول البحث لها؛ لأنّ البحث- کما عرفت- عقلیّ یجری فی جمیع ذلک، لا لفظیّ کی یقال: إنّ لفظ الأمر ظاهر فی الوجوب النفسیّ العینیّ التعیینیّ إلّا مع خروج موضوعه، کما فی مثل وجوب المُقدّمة؛ حیث إنّ الوجوب فیها متعلّق بذات المقدّمة لا بعنوانها لیتصوّر النزاع فیه.

الأمر الخامس: عدم اعتبار وجود المندوحة

هل یعتبر فی محلّ البحث قید وجود المندوحة؛ بمعنی تمکّن المکلّف من الصلاة- مثلًا- فی مکان مُباح فی مقام الامتثال؛ إذ بدونها یلزم التکلیف بالمحال، أو لا؟

و الحقّ عدم اعتبار قید وجودها، کما هو مختاره فی «الکفایة»(1)؛ لأنّ محطّ البحث فیها هو: أنّه هل یجدی تعدُّد الوجه و العنوان فی دفع غائلة اجتماع الضدّین، أو لا یجدی؟ و لا فرق فی ذلک بین وجود المندوحة و عدمه، و لا فرق فی ذلک بین العنوانین المتلازمین فی الوجود؛ بحیث لا ینفکّ أحدهما عن الآخر بحسب الوجود، و غیر ذلک.

نعم: یشترط فی التکلیف تمکّن المکلّف و قدرته و غیر ذلک من الشرائط، لکنّه خارج عن محلّ النزاع.


1- کفایة الاصول: 187.

ص: 209

الأمر السادس: هل النزاع مبنیّ علی القول بتعلّق الأوامر و النواهی بالطبائع أم لا؟

هل النزاع فی جواز الاجتماع و عدمه مبنیّ علی القول بتعلّق الأوامر و النواهی بالطبائع؛ لأنّه علی القول بتعلُّقها بالأفراد یتعیّن القول بالامتناع، أو لا، بل یجری علی کلا القولین؟

ثمّ إنّه من قال بتعلُّقها بالأفراد هل یتعیّن أن یختار القول بالامتناع أو لا، و یتعیّن اختیار القول بالجواز علی من یذهب إلی تعلُّقها بالطبائع أو لا؟

فنقول: تحقیق الکلام یحتاج إلی بیان المراد من تعلُّق الأوامر و النواهی بالأفراد: لا إشکال فی أنّه لیس المراد منه هو الأفراد الشخصیّة الموجودة فی الخارج، فإنّه غیر معقول و تحصیل للحاصل، و علی فرض إرادتهم ذلک فلا معنی لهذا النزاع فیه، بل المراد من تعلُّقها بالأفراد أحد وجوه:

الأوّل: أنّ المراد هو تعلُّق الأمر بالفرد المعنون بعنوان الصلاة، و النهی بالفرد المعنون بعنوان الغصب- مثلًا- فی قبال القول بتعلُّقها بنفس الطبائع المجرّدة.

الثانی: أنّ المُراد أنّ الأمر متعلّق بإیجاد فردٍ من الصلاة، و النهی بالزجر عن إیجاد الفرد من الغصب فی الخارج.

الثالث: أنّ المراد بالأفراد هو عنوان الصلاة مع جمیع ملازماتها من الزمان و المکان- بعرضها العریض- و مشخِّصاتها الفردیّة، و الغصب أیضاً کذلک فی قبال القول بتعلُّقها بالطبائع المجرّدة.

الرابع: أنّ المراد بتعلُّقها بالأفراد تعلُّقها بالوجود السِّعیّ من کلّ طبیعة مجرّداً عن العوارض؛ بمعنی الجامع بین الأفراد، لا بالمعنی المصطلح علیه فی کتب الفلسفة، فی قبال القول بتعلُّقها بالفرد الموجود.

ص: 210

لا إشکال فی أنّ البحث یجری علی کلّ واحد من الاحتمالات المذکورة، إلّا الثالث؛ لأنّه بناءً علی تعلُّق الأوامر و النواهی بعنوانی الصلاة و الغصب- مثلًا- مع جمیع عوارضهما الخارجیّة و مشخصاتهما الفردیّة، لا مناص من القول بالامتناع، لأنّه فی قوّة أن یقال: «صلّ فی الدار المغصوبة» و بالعکس، و أمّا غیره من الاحتمالات فیقع البحث فیها و فی اختیار الجواز و عدمه؛ لأنّ متعلّقیهما کلّیّ فی جمیعها، و الذی دعاهم إلی القول بتعلُّقها بالأفراد بأحد معانیها الثلاث، مع أنّها کلّیّات، هو أنّهم زعموا أنّ نفس الطبیعة المجرّدة غیر قابلة لأن توجد فی الخارج، فلا یمکن تعلُّق الأمر و النهی بها.

الأمر السابع: اعتبار وجود المناطین فی المجتمع

قال فی «الکفایة» ما محصّله: إنّه لا یکاد یکون من باب الاجتماع إلّا فیما إذا کان فی کلّ واحد من الأمر و النهی مناطُ حکمه مطلقاً، حتّی فی مورد التصادق و الاجتماع؛ کی یحکم علی الجواز بأنّه محکومٌ بحکمین فعلًا، و علی الامتناع بأنّه محکوم بحکم أقوی المناطین، أو بحکم آخر فیما لم یکن أحدهما أقوی، و أمّا إذا لم یکن للمتعلّقین مناط کذلک فلا یکون من هذا الباب، بل هو من باب التعارض، فلا بُدَّ من علاج التعارض بینهما، و لا یکون مورد الاجتماع إلّا محکوماً بحکم واحد إذا کان له مناط واحد، أو حکم آخر غیرهما فیما لم یکن لواحد منهما؛ قیل بالجواز، أو الامتناع(1). انتهی حاصله.

أقول: یحتمل ما ذکره أحد وجهین لا یخلو کلاهما عن الإشکال:

الوجه الأوّل: أن یرید قدس سره أنّ محطّ البحث و النزاع إنّما هو فیما إذا کان المناطان موجودین، کما أنّ من اعتبر وجود المندوحة یذهب إلی أنّ محطّ البحث إنّما هو فی


1- کفایة الاصول: 189.

ص: 211

صورة وجودها.

فإن أراد ذلک یرد علیه: أنّ هذا مناقض لما ذکره- فی بیان عدم اعتبار وجود المندوحة- من أنّ المهمّ فی هذه المسألة هو البحث عن جواز الاجتماع و عدمه؛ من حیث إنّ تعدّد العنوان هل یُجدی فی دفع غائلة اجتماع الضدّین أو لا؟ فإنّه- حینئذٍ- لا فرق بین وجود المناطین و عدمه؛ لعدم دخل وجودهما- حینئذٍ- فی جریان النزاع(1).

مع أنّه یرد علیه: أنّه- بناءً علی ذلک- لا بدّ و أن یختصّ هذا البحث بالعدلیّة، لا الأشاعرة؛ حیث إنّهم لا یقولون بوجود المناط و الملاک للأحکام.

هذا بناءً علی ما اختاره من أنّ النزاع فی المقام صُغرویّ.

و أمّا بناءً علی ما اخترناه- من أنّ البحث فیها کُبرویّ؛ أی فی إمکان الاجتماع و عدمه- فلا یشترط ما اعتبره من وجود المناطین.

الوجه الثانی: أن یرید قدس سره فیما ذکره دفع إشکال: و هو أنّهم ذکروا فی باب التعارض؛ أی تعارض العنوانین اللذین بینهما عموم من وجه، مثل: «أکرم العلماء» و «لا تکرم الفسّاق»، فإنّهما یتعارضان فی مادّة الاجتماع، و ذکروا فی هذا الباب: أنّ النزاع فی جواز الاجتماع و عدمه إنّما یجری فی العنوانین اللذین بینهما عموم من وجه، مثل «الصلاة» و «الغصب»، و إن أمکن جریانه فیما کان بینهما عموم مطلق- أیضاً- مثل: «أکرم العلماء» و «لا تکرم الفسّاق منهم»، و لم یتعرّضوا فی باب التعارض إلی أنّه یمکن الجمع بینهما بما ذکروه من جواز اجتماع الأمر و النهی(2).

فأجاب قدس سره: بالفرق بین ما نحن فیه و باب التعارض، و أنّ ما نحن فیه إنّما هو فیما إذا وجد المناط لکلّ واحد من الوجوب و الحرمة، حتّی فی مورد التصادق و الاجتماع، و باب التعارض إنّما هو فیما لم یکن کذلک.


1- انظر نفس المصدر: 187.
2- انظر مطارح الأنظار: 129 سطر 5.

ص: 212

و فیه: أنّ المناط فی مسألة التعارض هو تنافی الدلیلین عرفاً؛ بأن یکون الدلیل متعرِّضاً للأفراد، مثل: «أکرم کلّ عالم» و «لا تکرم کلّ فاسق»، فإن لم یتنافیا عرفاً کما فی الأعمّ و الأخصّ المطلقین؛ حیث إنّ بینهما الجمع العرفیّ، فلا یعامل معهما مُعاملة المتعارضین، بخلاف ما نحن فیه، مثل «صلّ» و «لا تغصب»، فإنّ الأمر فیهما متعلّق بعنوان «الصلاة» بدون أن یتعرّض للأفراد، و النهی متعلّق بعنوان «الغصب»، کذلک، فلا تعارض بینهما عرفاً، فهو من مسألة الاجتماع، فلا مساس لإحدی المسألتین بالأُخری؛ لیحتاج إلی بیان الفرق بینهما.

و بالجملة: البحث فی مسألة التعارض عرفیّ، و منشؤه ورود الأخبار العلاجیّة، و هی منزّلة علی العرف، فإن کان بینهما تعارض عرفاً یعامل معهما مُعاملة المتعارضین، و إلّا فیجمع بینهما، فالموضوع فی باب التعارض عرفیّ، بخلاف مسألة الاجتماع، فإنّ البحث فیها عقلیّ.

ثمّ إنّ ما ذکره فی «الکفایة» من أنّه لو دلّ دلیل علی ثبوت المناطین من إجماع و غیره فهو، و إلّا فلو لم یکن إلّا إطلاق دلیلی الحکمین، ففیه تفصیل، و هو:

أنّ الإطلاق لو کان فی مقام بیان الحکم الاقتضائیّ، فهو دلیل علی ثبوت المقتضی و المناط فی مورد الاجتماع، فیکون من هذا الباب(1).

ففیه: أنّه إن أراد أنّ البحث فی مسألة الاجتماع یعمّ ما إذا کان الحکمان اقتضائیّین- أیضاً- یرد علیه- مع الإغماض عن الإشکال فی ثبوت مرتبة الاقتضاء للأحکام و تسلیم ذلک-: أنّه لا وجه لتوهّم جریان النزاع فیه؛ لعدم الإشکال فی جواز اجتماع الحکمین الاقتضائیّین، بل البحث انّما هو فیما لو تعرّض الدلیلان لبیان الحکم الفعلیّ، و لذا قیّدنا الحکمین فی عنوان البحث بالفعلیّین.


1- کفایة الاصول: 190.

ص: 213

الأمر الثامن: ثمرة بحث الاجتماع
اشارة

قال فی «الکفایة»: لا إشکال فی سقوط الأمر و حصول الامتثال بإتیان المجمع بداعی الامتثال علی الجواز مطلقاً؛ و لو فی العبادات و إن کان معصیةً- أیضاً- للنهی، و کذا الحال علی الامتناع و ترجیح جانب الأمر، إلّا أنّه لا معصیة هنا، و أمّا مع ترجیح جانب النهی فیسقط به الأمر مُطلقاً فی غیر العبادات، و أمّا فیها فلا مع العلم و الالتفات أو بدونه تقصیراً، و أمّا إذا کان جاهلًا عن قصور فیسقط الأمر، بل یمکن أن یقال بحصول الامتثال أیضاً. انتهی ملخّص کلامه قدس سره(1).

أقول: لا بدّ من ملاحظة أنّه هل تتحقّق فی الصلاة الواقعة فی الدار المغصوبة جهتان واقعیّتان و حیثیّتان فی نفس الأمر منضمّتان فی الخارج: إحداهما الحیثیّة الصلاتیّة، و الثانیة الحیثیّة الغصبیّة، و أنّه ینطبق علی الاولی عنوان «الصلاة»، و علی الثانیة عنوان «الغصب»، و الاولی مُقرِّبة للعبد إلی اللَّه تعالی، و الثانیة مُبعِّدة له عنه تعالی؛ حتّی لا یرد علیه إشکال: أنّ المبعّد کیف یمکن أن یکون مُقرِّباً أو لیس کذلک بل لیس فی الخارج إلّا حیثیّة واحدة واقعاً، فالحکم بصحّة الصلاة- حینئذٍ- یحتاج إلی إثبات الشِّقّ الأوّل.

فتصدّی المیرزا النائینی قدس سره لإثبات ذلک بتمهید مقدّمات نذکرها بنحو الاختصار:

الاولی: أنّ الصلاة من مقولة الوضع لو قلنا أنّها عبارة عن الهیئة أو الهیئات المتلاصقة و الأوضاع المتعاقبة، و الغصب من مقولة الأین.

الثانیة: کلّ مقولة مباینة مع مقولة اخری، و المبایَنة بینهما بتمام الذات، و ما به الاشتراک فیها عین ما به الامتیاز؛ لأنّها بسائط.

الثالثة: أنّ الحرکة فی کلّ مقولة لا تخلو عن أحد احتمالات ثلاث: أحدها أن


1- نفس المصدر: 191.

ص: 214

تکون جنساً للمقولات، الثانی أن تکون معروضة لها، الثالث أن تکون من کلّ مقولة هی فیها:

أمّا الأوّل فباطل، و إلّا لزم أن یکون للمقولات جنس و فصل، و أنّ ما به الامتیاز فیها غیر ما به الاشتراک، فیلزم ترکُّبها، مع أنّه ثبت فی محلّه أنّ المقولات بسائط.

و کذلک الاحتمال الثانی؛ لأنّ الحرکة لو کانت معروضة للمقولات فهی- أیضاً- من الاعراض لا الجواهر، فیلزم قیام العرض بالعرض، و هو محال.

بقی الاحتمال الثالث، فهو المتعیّن، فالحرکة من کلّ مقولة من المقولات هی من هذه المقولة، و المفروض أنّ المقولات متباینة، فینتج أن الحرکات فی المقولات مُتباینة، ففی الصلاة الواقعة فی الدار المغصوبة حرکتان: إحداهما فی الوضع، و هی الحرکة الصلاتیّة، و ثانیتها الحرکة فی الأین، و هی الحرکة الغصبیّة، و لیس المراد من الحرکةِ الحرکةَ الحسّیة من رفع الید و وضعها مثلًا، بل المراد الحرکة الصلاتیّة و الغصبیّة، فإذا کانت الحرکتان مُتباینتین: بإحداهما یقرب العبد من اللَّه، و بالثانیة یبعد عن اللَّه تعالی، فلا یرد علی القول بصحّة الصلاة: أنّ المُقرِّب لا یمکن أن یکون مُبعِّداً، أو بالعکس(1). انتهی.

أقول: لا إشکال فی أنّ الغصب غیر التصرّف فی مال الغیر، فإنّ الغصب:

عبارة عن السلطة علی مال الغیر و الاستیلاء علیه عدواناً و إن لم یتصرّف فیه، و أمّا التصرُّف فی مال الغیر المحرّم فهو مفهوم انتزاعیّ، و منشأ انتزاعه مختلف، فإنّه قد یصدُق علی النوم علی بساط الغیر عدواناً، أو الجلوس علیه أو وضع الید علیه و إن لم یکن مسلَّطاً و مستولیاً علیه، فلا بدّ من ملاحظة أنّ الصلاة هل تتّحد مع الغصب- أی التسلّط علی مال الغیر- أو لا؟ و من ملاحظة أنّها هل تتّحد مع التصرّف فی مال الغیر


1- أجود التقریرات 1: 346- 347.

ص: 215

أو لا؟

فأقول: یرد علی ما ذکره قدس سره:

أوّلًا: أنّ الصلاة لیست من المقولات، فإنّ المقولات من الامور التکوینیّة، و الصلاة أمر مرکّب اعتباریّ، فلا بدّ من ملاحظة أجزائها من الرکوع و السجود و غیرهما، فالأجزاء هی عین الکون فی مکان الغیر الذی هو الغصب.

و ثانیاً: أنّ الغصب- أیضاً- لیس من المقولات، بل هو- کما عرفت- أمر اعتباری؛ أی السلطة و الاستیلاء علی مال الغیر عدواناً.

و ثالثاً: لو أغمضنا عن ذلک کلّه، لکن مقولة الأین لیست هو الکون فی ملک الغیر عدواناً، بل هی عبارة عن الکون فی المکان، و قید العدوان خارج عنها، مع أنّ قید العدوان من مقوّمات الغصب.

و رابعاً: لو أغمضنا عن ذلک- أیضاً- لکن الرکوع و السجود و غیرهما من أفعال الصلاة هو عین الکون فی مکان الغیر بالوجدان.

هذا کلّه لو لاحظنا الصلاة مع عنوان «الغصب».

و أمّا ملاحظتها مع عنوان «التصرُّف فی مال الغیر عدواناً»، فالصلاةُ الواقعة فی مکان الغیر کلّ واحد من أجزائها عینُ التصرُّف فی مال الغیر عدواناً، فلیس فی الخارج إلّا حیثیّة واحدة ینطبق علیها عنوانا «الصلاة» و «التصرّف فی مال الغیر عدواناً»، فیرد علی ما ذکره من صحّة الصلاة الواقعة فی ملک الغیر عدواناً: أنّه کیف یمکن أن یکون المُقرِّب مُبعِّداً؟!

و أمّا ما ذکره- من أنّ الحرکة من کلّ مقولة هی منها- فلا ربط له بالمقام.

و العجب أنّه قدس سره أیّد ما ذکره- من أنّ الحرکة الصلاتیّة غیر الحرکة الغصبیّة- بأنّ إضافة الأعراض إلی مکان مثل إضافة الجواهر إلیه، فکما أنّ کون «زید» فی مکان غصبیّ لا یوجب أن یصیر «زید» مغصوباً، فکذلک قیام زید فیه و الصلاة فیه لا

ص: 216

یوجب کون القیام و الصلاة عین الغصب.

ففیه: أنّه فرق بین الجواهر و الأعراض، فإنّ قیام زید و رکوعه و سجوده من الأفعال الاختیاریّة التی تصدر منه، و الواقعة منها فی دار الغیر عدواناً عینُ التصرُّف المحرَّم، بخلاف الجواهر.

و بالجملة: ما ذکروه- من استلزام صحّة الصلاة فی المکان الغصبیّ لکون المقرّب مبعداً- صحیح لا ریب فیه، سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهی أم لا.

ثمّ إنّ ظاهر ما ذکره فی «الکفایة»- من الحکم بصحّة الصلاة بناءً علی الامتناع و ترجیح جانب الأمر و انتفاء المعصیة(1)- عدم الفرق بین وجود المندوحة فی مقام الامتثال- و تمکّن المکلّف من الإتیان بالصلاة فی مکان مُباح- و عدمه، فإن أراد ذلک فهو خلاف الضرورة من الشرع؛ لأنّه لا ریب و لا إشکال فی بطلان الصلاة فی المکان الغصبی مع إمکان وقوعها فی مکان مُباح، سواء قلنا بأنَّ تقیید الصلاة بعدم وقوعها فی المکان الغصبی، تقیید عقلیّ و بحکم العقل، أو شرعی و بحکم الشرع.

و إن أراد خصوص صورة عدم وجود المندوحة، فلا یرد علیه الإشکال المذکور.

صورة الجهل عن قصور

ثمَّ إنّه بناءً علی الامتناع و ترجیح جانب النهی، فمع العلم أو الجهل عن تقصیر، فالحکم کما ذکره من بطلان الصلاة، و لا کلام فیه، و إنَّما الکلام فی صورة الجهل عن قصور، فالحکم بسقوط الأمر بالصلاة و حصول الامتثال إنّما هو لوجود ملاک الأمر، بل یُمکن أن یأتی بها بقصد الأمر المُتعلّق بالطبیعة، لکن لا بُدَّ من ملاحظة أنَّه بناءً علی الامتناع و ترجیح جانب النهی، هل یمکن وجود ملاک الأمر فیها أو لا؟

و علی فرض وجوده، مع أنَّه ضعیف و مغلوب و مُنکسر، هل یمکن صحّة


1- کفایة الاصول: 191.

ص: 217

الصلاة- حینئذٍ- أو لا؟

أمّا الأوّل: فبناءً علی ما قرّره قدس سره فی وجه الامتناع، لا یُعقل وجود ملاک الصلاة فی المجمع؛ لأنّه استدل لما اختاره من الامتناع بأنَّ الأمر و النهی المُتعلّقین بعنوانی «الصلاة» و «الغصب» متعلّقان فی الواقع بالفعل الصادر من المکلّف فی الخارج، و أنَّ العنوانین اخذا بنحو الکاشفیة و المرآتیّة، کاللفظ بالنسبة إلی المعنی، فالأمر و النهی مُتعلّقان بالواحد وجوداً و ماهیّة فی الواقع الخارجی، و تعدّد الوجه و العنوان لا یُوجب تعدّد المُعنون، فهو مع بساطته لیس له إلّا حیثیة واحدة مصداقاً لمفاهیم کثیرة، کالواجب تعالی، فإنَّه تعالی مع بساطته و أحدیته یصدق علیه مفاهیم کثیرة، فالعنوانان موجودان بوجود واحد و ماهیّة واحدة، فیمتنع اجتماع الأمر و النهی فیه، فإنَّ مقتضی ذلک عدم وجود ملاک الأمر فیه أصلًا؛ بناءً علی عدم وجود حیثیتین واقعیّتین فی المجمع- إحداهما ذات مصلحة، و الاخری ذات مفسدة، بل حیثیّة واحدة ذاتاً و وجوداً- امتنع وجود المصلحة و المفسدة فیه کلیهما.

و إن وجّه الامتناع ببیان آخر؛ بحیث یمکن معه وجود حیثیّتین واقعیّتین، إحداهما ذات مصلحة و متعلّقة للأمر، و الاخری ذات مفسدة متعلّقة للنهی؛ بحیث یکون المقرّب غیر ما هو المبعِّد ذاتاً و وجوداً، فلا إشکال فی الحکم بالصحّة مع الجهل بالحرمة قصوراً، بل و عن تقصیر و عمد أیضاً، فبالحیثیّة الصلاتیّة یقرّب إلیه تعالی، و بالحیثیّة الغصبیة یبعّد عنه تعالی.

و أمّا الثانی: أی فرض مغلوبیة ملاک الأمر مع وجوده.

ففیه: أنَّه لیس معنی مغلوبیّته و ضعفه مثل الانکسار الخارجی؛ بحیث ینعدم بوجود ملاک النهی، بل معناها أنَّ ملاک النهی أقوی و أهم من ملاک الأمر، لکن ملاک الأمر بالمهم- أیضاً- تمام الملاک للصلاة، فکلّ واحد من ملاکی الأمر و النهی موجود فی الفرض، فمع فرض امتناع الاجتماع و ترجیح جانب النهی؛ لأنّه أقوی مناطاً، و أنّ

ص: 218

مراعاة المفسدة أولی من مراعاة المصلحة مع جهل المکلّف بالحرمة قصوراً، تقع الصلاة الواقعة فی الدار المغصوبة صحیحةً؛ لوجود الملاک التام فیها.

و قال بعض الأعاظم: إنَّه فرق بین ما إذا کان التزاحم بین مصلحة الصلاة و مفسدة الغصب فی مقام الاقتضاء و جعل الحکم، و بینهما فی مقام فعلیته و فی مقام الامتثال: ففی الأوّل لا یحکم فیه بصحّة الصلاة، فإنَّه مع فرض کون ملاک النهی أقوی بناءً علی الامتناع، لا یمکن للشارع الأمر بالصلاة- حینئذٍ- بحیث یشمل هذا الفرد أیضاً، بل لا بُدَّ أن یقیّد أمره بغیر هذا الفرد المُزاحَم بالغصب، و هذا القسم من صُغریات مسألة التعارض، فلا بُدَّ من التعامل معه معاملة المتعارضین من الترجیح و التخییر و غیر ذلک.

و بالجملة: بناءً علی هذا الوجه تقع الصلاة فاسدة و لو مع الجهل- عن قصور- بالحرمة؛ لعدم الملاک فیها و عدم الأمر بها حینئذٍ، بخلاف القسم الثانی، فإنَّه لو لم یکن بین المصلحة الصلاتیة و المفسدة الغصبیة تزاحم فی مقام الاقتضاء و جعل الحکم فی نظر الحاکم، بل التزاحم بینهما فی مقام الامتثال و العمل و فعلیّة الحکمین، نظیر ما إذا غرق الابن و ابن الأخ فی زمانٍ واحدٍ، و لا یتمکّن من إنقاذهما معاً، و إنقاذ الابن أهمّ، مع عدم المزاحمة بینهما فی مقام الاقتضاء و الأمر، بل التزاحم بینهما إنّما هو فی مقام الامتثال، فمع أهمیة ملاک النهی من ملاک الأمر، فالأمر بالصلاة و إن کان مقیّداً عقلًا بغیر الفرد المُزاحَم- أی الغصب- لکن لو غفل المکلّف عن النهی مع الامتناع و ترجیح جانب النهی، فصلّی فی المکان الغصبی، تقع صحیحةً لوجود الملاک فیها حینئذٍ(1) انتهی مُلخّص کلامه.

و فیه: مع الإغماض عن الإشکالات التی ترد علیه الغیر المربوطة بالمقام، أنَّه لو قلنا إنَّ صحّة الصلاة و غیرها من العبادات تحتاج إلی وجود الأمر بها لیقع الامتثال


1- أجود التقریرات: 358- 361.

ص: 219

بقصده، کما ذکره الشیخ البهائی قدس سره(1) فی الضد الواجب العبادیّ، فلا مناص عن الحکم بفساد الصلاة فی الصورة الثانیة؛ بناءً علی ما ذکره من سقوط الأمر بالمهم فیها.

و إن قلنا: إنَّه یکفی فی صحّة الصلاة وجود ملاکها فهو موجود فی الصورة الاولی- أیضاً- و لا مناص من الحکم بصحّة الصلاة فی الصورتین من غیر فرق بینهما فی صورة الجهل بالحرمة قصوراً.

الأمر التاسع: شمول النزاع لعنوانین غیر متساویین
اشارة

قد عرفت أنَّ محط البحث هو جواز تعلُّق حُکمین فعلیّین متصادقین علی موضوعٍ واحدٍ، فإن تباین العنوانان فهو خارج عن محلّ النزاع؛ لعدم تصادقهما علی واحد، و کذلک إن تساویا، و إن یتوهم شمول محطّ البحث لهما، لکن لا ریب فی عدم إمکان الأمر بعنوان و النهی عن عنوان متصادقین فی جمیع الأفراد.

و أمّا العموم و الخصوص المُطلق فهو علی قسمین:

أحدهما: العموم و الخصوص بحسب المورد، مثل الضاحک و الحیوان.

و ثانیهما: العموم و الخصوص المُطلق بحسب المفهوم، بأن یکون مفهوم العامّ مأخوذاً فی مفهوم الخاصّ، و ذلک مثل المطلق و المقیّد، مثل الحیوان و الحیوان الأبیض.

أمّا القسم الأوّل: کما إذا قال: «أکرم ضاحکاً» و «لا تکرم الحیوان» فکل واحدٍ منهما عنوان مستقلّ یتصادقان علی واحدٍ، فیشملهما البحث، و إن ذکر المحقّق القمی و المیرزا النائینی خروج العام و الخاص المُطلقین عن محلّ النزاع مطلقاً(2)، لکن لا إشکال فی شموله لهذا القسم وفاقاً «للفصول» لکنَّه قائل بشموله لکلا القسمین(3).


1- انظر زبدة الاصول: 99 سطر 2.
2- انظر قوانین الاصول 1: 153- 154.
3- الفصول الغرویة: 125 سطر 8.

ص: 220

و أمّا القسم الثانی: فقد یقال بخروجه عنه، لأنّ الإطلاق فی المُطلق لیس قیداً أو جزءاً للموضوع، بل الموضوع فیه نفس الطبیعة التی هی متعلَّق الأمر مثلًا، و المقیّد هو الطبیعة- أیضاً- المتعلّقة للنهی لکن مع قید، فیلزم تعلُّق الأمر و النهی بشی ءٍ واحدٍ و هو الطبیعة، و هو محال خارج عن محلّ النزاع.

لکن الأمر لیس کذلک، فإنَّ الموضوع فی المُطلق و إن کان هی الطبیعة، و لیس الإطلاق جزءاً للموضوع، لکن الموضوع للحکم الآخر هو المُقیّد، و هما عنوانان مُتغایران مُتصادقان علی موضوع واحد.

بل یمکن أن یُقال: إنَّ متعلَّق النهی فی «لا تصلِّ فی الدار المغصوبة» هو الکون فیها، فهو مع الأمر بطبیعة الصلاة من القسم الأوّل؛ أی العموم و الخصوص المُطلق بحسب المورد الذی عرفت أنَّه لا إشکال فی شمول محطّ البحث لهما.

نعم: المطلق قد یتّحد مع المقیّد فی الخارج، و لا یضرّ ذلک بما ذکرناه.

و أمّا العموم من وجه فهو محلّ النزاع مطلقاً، سواء کان العنوانان المتعلّقان للأمر و النهی من الأفعال الاختیاریة للمکلَّف، کالغصب و الصلاة، أم لا، کالموضوعات الخارجة عن اختیار المکلَّف، کالعالم و الفاسق، و سواء کانا من الأفعال الاختیاریة أوَّلًا و بالذات، کالصلاة و الغصب أیضاً، أم من الأفعال التولیدیّة التی لیست من الأفعال الاختیاریّة أوّلًا و بالذات، لکنّها اختیاریة بالعَرض و بالواسطة؛ أی بواسطة أسبابها و مولّداتها کالتعظیم؛ بناءً علی أنّه عنوان یحصل بالقیام عند مجی ء شخص، و سواء کان تصادق العنوانین علی مصداق خارجی انضمامیّاً- مثل الصلاة و الغصب- بناءً علی ما ذکره بعض(1)، أو اتحادیّاً- مثل العالم و الفاسق- خلافاً للمیرزا النائینی قدس سره فی المقامات الثلاثة، فإنّه قدس سره قیَّد محل البحث فی العامین من وجه بما إذا کانا من الأفعال الاختیاریة للمکلَّف أولًا و بالذات، و بما إذا کان التصادق فی الخارج


1- نهایة الأفکار 1: 425.

ص: 221

انضمامیاً لا اتحادیاً، و منشأ ذلک هو أنَّ نظره قدس سره أنَّ امتناع اجتماع الأمر و النهی إنَّما هو لاتحاد العنوانین فی الخارج(1)، لکن سیجی ء- إن شاء اللَّه- أنَّه لا فرق بین الأقسام المذکورة فی أنَّ جمیعها محل الکلام، و أنّ صورة اتّحاد العنوانین فی الخارج وجوداً و ماهیة- أیضاً- محل البحث، و أنَّه یجوز الاجتماع فیهما، لأنَّ الأحکام متعلّقة بالطبائع و العناوین، لا بالموجود فی الخارج.

و أمّا التقیید و التخصیص بالأفعال الاختیاریة بالذات، فهو مبنیّ علی القول بأنَّ الأوامر و النواهی المُتعلقة بالأفعال التولیدیة، لا بُدَّ و أن ترجع إلی أسبابها و مولّداتها، و أمّا بناءً علی القول بعدم إرجاعها إلیها فهی مشمولة للبحث أیضاً، لکن قد عرفت أنَّ المُتعین هو الثانی.

بل یمکن أن یُقال: بأنَّه بناءً علی القول الأوّل- أیضاً- یمکن شمول البحث لها، فإنَّ القیام بقصد التعظیم لزید عنوان، و القیام لتعظیم عمرو عنوان آخر، و إن تصادقا علی ما لو قام عند مجیئهما معاً، و قد عرفت أنَّ الاتحاد فی الوجود لا یضرّ فی جواز الاجتماع.

التحقیق فی جواز الاجتماع
اشارة

إذا عرفت ذلک فاعلم: أنَّ الحق هو جواز اجتماع الأمر و النهی المتعلّقین بعنوانین مُتصادقین علی موضوع واحد، و توضیحه یحتاج إلی تقدیم امور:

الأوّل: أنَّه إذا تعلّق الأمر أو النهی بعنوان، فلا یُعقل تعدّیه و تجاوزه عنه إلی مُلازماته أو مقارناته الذهنیة أو الخارجیة، فالأمر فی قوله: «صلِّ» مُتعلّق بنفس الطبیعة مُجرّدة عن کافة الخصوصیّات، و لا یُعقل تعدّیه عنها إلی ما هو خارج عنها،


1- فوائد الاصول 1: 410- 412.

ص: 222

و کذلک النهی فی «لا تغصب»؛ و ذلک لأنّه کما یستحیل تعلّق إرادته تعالی بشی ء جُزافاً و بدون الملاک أو المناط، کذلک لو فرض أنّ المصلحة قائمة بشی ءٍ یستحیل و لا یُعقل تعلّق إرادته به مقیّداً بشی ء آخر، کما أنّه لو فُرض أنَّ المصلحة فی شی ءٍ مقیّداً بقید، فلا یُعقل تعلّقها به بدون ذلک القید.

الثانی: لیس معنی الإطلاق لحاظ سرایة الحکم لجمیع الحالات و شموله لجمیع الخصوصیّات، فإنَّ ذلک هو معنی العموم لا الإطلاق، بل الإطلاق عبارة عن جعل الطبیعة مُطلقة مُتعلَّقة للأمر أو النهی بدون قید أصلًا؛ بحیث یظهر منه أنَّها تمام الموضوع للحکم، فمعنی أنّ «صلِّ» مُطلق أنَّ الحکم الوجوبی تعلّق بطبیعة الصلاة بدون قید، و أنّ تمام الموضوع و المطلوب هو نفس الطبیعة بلا لحاظ الحالات و الخصوصیّات.

و بالجملة: معنی الإطلاق هو عدم لحاظ الحالات و الخصوصیات، لا لحاظ عدمها؛ حتی یصیر معنی إطلاق «صلِّ» إنشاء وجوب طبیعة الصلاة، سواء وقعت فی مکان غصبی أم لا، فالموضوع فی المُطلق هو نفس الطبیعة، و یستحیل سرایة الحکم إلی الخصوصیات الفردیة بأن تُجعل الطبیعة حاکیةً عنها.

الثالث: أنَّ اتحاد الطبیعة مع جمیع الأفراد و الخصوصیات فی الخارج، و قولهم:

اللابشرط یجتمع مع ألف شرط، لیس معناه حکایة الطبیعة عن الأفراد و الخصوصیات الخارجیة، بل معناه أنَّها فی الخارج هی ذلک الفرد و ذاک، فإنّ اتحادها مع الخصوصیات فی الخارج بهذا المعنی مسألة، و حکایتها- و أنّها مرآة لها- مسألة اخری، و الاولی مُسلَّمة، و الثانیة ممنوعة.

الرابع:- و هو العُمدة- هو أنَّه لا إشکال فی أنَّ الأوامر و النواهی متعلِّقة بنفس الطبائع المجردة؛ و ذلک لأنَّ هنا ثلاثة أشیاء: أحدها الموجود فی الخارج کزید الموجود فیه، الثانی الموجود فی الذهن، الثالث نفس الطبیعة المجرّدة عن الوجودین.

ص: 223

فالأوّل جزئی حقیقی خارجی، و الثانی جزئی حقیقی ذهنی، و أمّا الثالث أی نفس الطبیعة فهی و إن لا تحقق لها فی ذاتها، إلّا أنّها عین الموجود فی الخارج من أفرادها، و فی الذهن عین الموجود الذهنی، لکن إذا تصورها الإنسان فلیست جزئیاً، إلّا بلحاظ وجودها فی الذهن بلحاظ آخر ثانٍ، و لا یمکن لحاظها کذلک بتصوّرٍ واحدٍ، بل إذا تصوّرها الإنسان فهی توجد بهذا التصوّر فیه.

و لکن هذا الوجود الذهنی مغفول عنه، و لیس المتصوّر جزئیاً بهذا التصوّر، بل جزئیتها تحتاج إلی تصوّر آخر لوجودها فی الذهن و لحاظه، و إلّا فمع عدم اللحاظ الثانی فهی لیست إلّا هی أوجدها الإنسان فی ذهنه، فهی- حینئذٍ- فی نفس الأمر من الموجودات الذهنیة بالحمل الشائع، لکن الأحکام الثابتة لها المجعولة علیها ذاتیة لنفس الطبیعة؛ لأنَّ وجودها الذهنی مغفول عنه، فلا یمکن إثبات حکم له.

و لذا ذهب جمع من المحقّقین- فی مبحث لوازم الماهیة کالزوجیة للأربعة- إلی أنّها لازمة لنفس الطبیعة، مُنفکة عن الوجودین الذهنی و الخارجی؛ من جهة أنَّ تصورها و إن کان هو وجودها الذهنی بالحمل الشائع، لکن حیث إنَّ هذا الوجود مغفول عنه و مع ذلک تثبت لها لوازمها(1).

یستکشف منه أنّها لازمة لنفس الطبیعة، و یدل علی ذلک- أیضاً- تقسیم الماهیة إلی الموجودة و المعدومة، و الظاهر أنَّ المُراد منها هو نفس الطبیعة الکلیّة، لا مقیّدة بالوجود الذهنی؛ فإنّها کذلک قسم لا مقسم، و غیر قابلة للتقسیم المذکور.

و بالجملة: لا إشکال فی أنَّ هنا أحکاماً ثابتة لنفس الطبائع المجرّدة عن الوجودین، و الأوامر و النواهی مُتعلقة بها کذلک بتصوّرها و جعل الحکم من الوجوب و الحُرمة و غیرهما لها نفسها، فإنَّ هذا التصوّر و إن کان هو وجودها الذهنی، لکنَّه مغفول عنه عند جعل الحکم لها، و لا یثبت لهذا الوجود شی ء، و یدل علی ذلک أنّا


1- انظر منظومة السبزواری( قسم الفلسفة): 60.

ص: 224

مُکلَّفون بالصلاة و الصیام فعلًا، مع أنّا لم نکن فی زمن صدور الأحکام، و لیس ذلک إلّا لأجل أن الموضوع نفس الطبیعة، و لا یُعقل تعلّق الأمر و النهی بالخارج؛ لأنّه- حینئذٍ- لا بُدَّ أن یوجد المأمور به فیه، ثمّ یتعلّق به الأمر، و إلّا لزم وجود المتعلِّق- بالکسر- قبل وجود المتعلَّق- بالفتح- و هو محال، و بعد وجوده یستحیل الأمر به؛ لأنّه تحصیل للحاصل، و کذلک فی النهی؛ لأنّه- حینئذٍ- لا یتعلّق إلّا بعد الوجود، و بعده لا معنی للنهی عنه.

و لا یُعقل تعلّقهما بالوجود الذهنی- أیضاً- لا لعدم القدرة علی إیجاده فی الخارج، و لذلک وقع الاستاذ الحائری قدس سره فی «الدرر» فی حیص و بیص؛ حیث أخذ فی متعلّق الأوامر و النواهی الإیجاد، و أجاب عن الإشکالات(1) بما لا یخلو عن الإشکال.

إذا عرفت ما ذکرناه نقول: إنّ الأمرَ متعلِّقٌ بعنوان الصلاة و طبیعتها، و النهیَ بعنوان الغصب و طبیعته، و هما- فی عالم تعلُّق الأمر و النهی بهما- عنوانان متغایران، و لا یسری حکم أحدهما إلی الآخر بمقتضی ما ذکرنا فی الأمر الأوّل، و لا یمکن الاستدلال للسرایة بالإطلاق؛ لما عرفت فی الأمر الثانی من معنی الإطلاق، و أنّه لیس عبارة عن لحاظ التسویة بین الخصوصیّات و الأفراد، بل معناه جعل الطبیعة متعلَّقة للحکم بدون لحاظ الخصوصیّات، و أنّها تمام الموضوع، فتمام موضوع الأمر هو طبیعة الصلاة، و تمام موضوع النهی هو طبیعة الغصب، و لا ارتباط لأحدهما بالآخر، و عرفت فی الأمر الثالث معنی اللابشرط، و أنّه لیس معناه حکایة الطبیعة عن الخصوصیّات. و لا یجتمعان- أی الأمر و النهی- فی الخارج- أیضاً- لأنّ الخارج ظرف للسقوط- أی سقوط الأمر و النهی- لا الثبوت، فبالإتیان بالصلاة فی الدار المغصوبة یسقط الأمر بالإطاعة و النهی بالعصیان؛ لما عرفت من عدم إمکان تعلُّق الأمر و النهی بالخارج.


1- درر الفوائد: 155- 159.

ص: 225

و الذی أوقع القوم فی الاشتباه هو ما ذکره الفلاسفة من أنّ الماهیّة من حیث هی لیست إلّا هی؛ لا محبوبة، و لا مبغوضة، و لا کلّیّة، و لا جزئیّة، و النقائض عنها مرتفعة(1)، و غیر ذلک، فتوهّموا: أنّه لا یمکن تعلّق الأمر و النهی بها نفسها، بل هی متعلّقة بالوجود الخارجی، و فرّعوا علیه القول بالامتناع فی المسألة، و ذهب القائلون بجواز الاجتماع إلی أنّها مُتعلِّقة بإیجاد الماهیّة، فأخذوا فی متعلَّقها الوجود المجرّد منضماً إلی الماهیّة؛ فراراً عن المحذور المذکور، فلا بدّ من توضیح ذلک و بیان شبهتهم، فنقول:

معنی قولهم: «الماهیّة من حیث هی لیست إلّا هی» أنّ الکلّیّة و الجزئیّة و نحوهما لیست عینها و لا جزأها فی مرتبة ذاتها، و أنّ طبیعة الإنسان- مثلًا- فی مرتبة ذاتها لیست إلّا طبیعة الإنسان، و لذا صرّحوا بارتفاع النقیضین و الضدّین اللّذین لا ثالث لهما عنها(2)، مع أنّ ارتفاع النقیضین محال واقعاً، و لا ریب فی أنّ طبیعة الإنسان کلّیّة- أیضاً- یمکن صدقها علی کثیرین.

و بالجملة: فمرادهم من الجملة المذکورة: أنّ الکلیّة و الجزئیّة و غیرهما من المسلوبات عنها لیست عین ذاتها و لا جزأها، و أنّها غیر مأخوذة فیها أصلًا، و لا ربط لهذا المطلب بما نحن فیه، و لا منافاة له لما نحن بصدده، فإنّ المُدّعی هو أنّ الأحکام متعلِّقة بنفس الطبائع المجرَّدة، و لا یلزم من ذلک دخل شی ء فی ذاتها عیناً أو جزءاً حتّی ینافی ما ذکره الفلاسفة؛ لما عرفت أنّ الاحتمالات بحسب مقام التصوّر ثلاثة: أحدها تعلّق الأحکام بالخارج، و ثانیها تعلُّقها بالموجود فی الذهن، الثالث تعلُّقها بنفس الطبائع، و الأوّلان مستحیلان- کما عرفت مُفصَّلًا- فتعیّن الثالث، فالأمر متعلّق بنفس الطبیعة، و یُتوسَّل به إلی إیجاد فردها الخارجی.

و إن شئت قلت: إنّها متعلّقة بإیجاد الطبیعة فی الخارج- أی مفهوم الإیجاد-


1- انظر الأسفار 2: 3- 4، و منظومة السبزواری 2: 93.
2- انظر منظومة السبزواری 2: 94.

ص: 226

فمتعلّق الأمر هو عنوان الصلاة، و النهی متعلّق بعنوان الغصب، و هما- فی عالم عنوانهما و تعلّق الأمر و النهی بهما- متغایران لا یسری أحدهما إلی الآخر، و لا ریب فی إمکان الأمر بالأوّل و النهی عن الثانی، و أمّا الخارج فالصلاة فی الدار المغصوبة و إن تعنونت فیه بعنوانین و صارت مصداقاً لطبیعتین تعلّق بإحداهما الأمر و بالثانیة النهی، لکن الخارج- کما عرفت- لیس متعلّق الأمر و النهی کی یجتمعان.

و من هنا یظهر فساد ما ذکره فی «الکفایة» من أنّ متعلَّق الأحکام هو الفعل الخارجی الصادر من المکلّف لا العنوان(1)، و کذلک ما ذکره فی «الفصول»(2).

و یظهر- أیضاً- أنّ المُقدّمات التی ذکرها المیرزا النائینی قدس سره لإثبات الجواز لا ربط لها بالمقام؛ لأنّه- کما عرفت- ذکر فی المقدّمات أنّ محطّ البحث إنّما هو فیما إذا کان الترکُّب بینهما فی الخارج انضمامیّاً لا اتّحادیّاً(3)؛ و ذلک- لما عرفت- أنّ الأوامر و النواهی لا یمکن تعلُّقها بالخارج، مع أنّه لو فرض أنّ الترکُّب بینهما انضمامیّاً، و أنّ فی الخارج شیئان: أحدهما متعلّق للأمر، و الثانی متعلّق للنهی، فلا یتوهّم- حینئذٍ- الامتناع، بل الأمر بالعکس، و أنّ محطّ البحث إنّما هو فیما إذا کان الترکُّب اتّحادیاً؛ لما عرفت من أنّ عنوان البحث هو أنّه هل یجوز تعلُّق الأمر بعنوانین متصادقین علی واحد، و لا ریب فی أنّ المراد بالواحد هو المصداق الجزئی الموجود فی الخارج لا المتعدّد.

بقی فی المقام دفع إشکال:

أمّا الإشکال: فهو أنّه لا یمکن اجتماع الإرادة و الکراهة و الحبّ و البغض معاً فی المصداق الخارجی للعنوانین، و کذلک المفسدة و المصلحة بناءً علی الجواز، فکیف یمکن


1- کفایة الاصول: 193.
2- الفصول الغرویة: 125 سطر 16.
3- فوائد الاصول 2: 423.

ص: 227

القول بالجواز فی المسألة؟!

و هذا هو أجود التقریرات للقائلین بالامتناع.

و أمّا الدفع: فهو موقوف علی ملاحظة کیفیّة صدور الأمر و النهی من المبدأ الأعلی سبحانه و تعالی؛ لیتّضح بذلک أنّه لیس للقائلین بالامتناع ما یتمسّکون به لمذهبهم.

فنقول: لا ریب فی أنّ الامور التی هی دخیلة فی تحقّق البعث و الزجر عبارة عن تصوّر الآمر و الناهی نفس الطبیعة، ثم التصدیق بالفائدة، و کذلک سائر مبادئ الإرادة، و إرادة البعث إلیها، أو الزجر عنها، و لا ریب- أیضاً- فی أنّه لو لم یلاحظ أنّ الطبیعة فی وجودها الخارجی مشتملة علی المصلحة فی الأمر و المفسدة فی النهی، لا تنقدح الإرادة و الاشتیاق إلیها، مثل أنّ الصلاة الخارجیّة معراج المؤمن(1)، أو قُربان کلّ تقیّ(2)، و هکذا فی النهی، إلّا أنّ جمیع هذه التصوّرات إنّما هی قبل وجود الطبیعة فی الخارج، و من الواضح أنّ الصلاة فی وعاء الذهن غیرها فی وعاء الخارج، و کذلک الغصب، و کذلک عنواناهما فی عالم الذهن عنوانان متغایران، و لیسا موجودین بوجود واحد، بل یتصوّر المصلحة فی الصلاة و المفسدة فی الغصب، مع قطع النظر عن الوجود رأساً.

و بالجملة: عالم التصوُّر و اللحاظ هو وعاء امتیاز الأشیاء بعضها عن بعض، و الغصب فی عالم التصوّر ممتاز تمام الامتیاز عن الصلاة، و بعد ذلک یلاحظ أنّ الصلاة لو وجدت فی الخارج اشتملت علی مصلحة، و الغصب- أیضاً- لو وجد فیه اشتمل علی مفسدة، فیشتاق إلی البعث إلی الاولی بهذا العنوان و الزجر عن الثانی بعنوانه، فیریدهما، فالاشتیاق و البعث یتعلّقان بهذین العنوانین، و لا یمکن حکایة هذین


1- اعتقادات المجلسی: 39.
2- الفقیه 1: 136/ 16 باب فضل الصلاة.

ص: 228

العنوانین عن الخارج و مرآتیّتهما له، لکن الواقع منکشف بهذین العنوانین، و لا نعنی أنّ فی المقام کاشفاً و منکشفاً- مثلًا- حیث إنّه یری أنّ فی الغصب الخارجی مفسدة مُضِرّة بحال العبد لو ارتکبه، فینهاه عنه بواسطة تصوُّر الموجود الذهنی منه بعنوانه.

و الحاصل: أنّه لا یمکن تعلّق الأمر و النهی بالخارج، لکن حیث إنّ الخارج منکشف له بوجهٍ ما بتصوُّره ذهناً، کتصوُّر مفهوم الوجود الذی هو وجه الموجود الخارجی، فیتعلّق الأمر و النهی بالمفهوم الذهنی و العنوان فی وعاء الذهن، و لا ریب فی أنّ المفاهیم مُتمایزات فی الذهن، لا یمکن اتّحادها فیه، بل الاتّحاد إنّما هو فی الوجود الخارجی، الذی یصدق علیه کلّ واحد من العنوانین من «الصلاة» و «الغصب».

فانقدح من جمیع ما ذکرنا: عدم اجتماع المحبوبیّة و المبغوضیّة و الإرادة و الکراهة و المفسدة و المصلحة فی المصداق الخارجی، بل هما یتعلّقان بالعنوانین المتمایزین المتغایرین. هذا کلّه فی التکوینیّات.

و أمّا التشریعیّات فهی- أیضاً- کذلک بالطریق الأولی، فإذا أتی العبد فی الخارج بفرد هو مصداق للعنوانین، فلا ربط له بمقام التشریع؛ أ لا تری أنّه إذا صلّی فی مکان غصبیّ مع الجهل به، فالحرکات الخاصّة الصلاتیّة معلومة و مجهولة معاً، و التضادّ بینهما أوضح من التضادّ بین الأحکام الخمسة.

و حلّه: أنّ فی الذهن صورتین: إحداهما معلومة، و الاخری مجهولة، و علیک بالتأمّل التامّ، فإنّه مزالّ الأقدام.

حول بطلان العبادة علی القول بامتناع اجتماع المبادئ

ثمّ إنّه هل یمکن إثبات بطلان الصلاة فی الدار المغصوبة بامتناع اجتماع المحبوبیّة و المبغوضیّة فی شی ء واحد، أو بامتناع تحقُّق المصلحة و المفسدة فی واحد، أو بامتناع أن یکون شی ء واحد مقرّباً و مبعّداً، أو لا؟

ص: 229

فنقول: إنّ شیئاً منها لا یصلح لإثبات البطلان:

أمّا الأوّل: فلأنّ المحبوبیّة و المبغوضیّة لیستا وصفین واقعیّین کالسواد و البیاض؛ حتّی یمتنع اجتماعهما فی موضوعٍ واحدٍ، حتی فیما لو کان المحبّ غیر المُبغض، فإنّ اجتماع الضدّین ممتنع و إن کان من اثنین، و ذلک واضح، بل الحبّ و البغض وصفان قائمان بنفس المحبّ- بالکسر- و المبغض، لکن لا بدّ أن یکون لکلٍّ منهما من متعلَّق مشخِّص لهما فی الذهن؛ لیوجد کلّ منهما فی الذهن، و لا یمکن وجودهما فیه بدون المتعلَّق، و لا یمکن تعلُّقهما بالموجود الخارجی بعد وجوده؛ بأن یتشخّصا بالوجود الخارجی، مع أنّه بعد وجوده الخارجی یستحیل تعلُّق الحبّ و البغض بإیجاده، و قبل وجوده الخارجی معدوم، و المعدوم لیس قابلًا لذلک، فلا بُدَّ من تعلُّقهما بالوجود الذهنی، الذی هو عنوان الخارج و وجهه، لا بمعنی مرآتیّته للخارج، فذلک الموجود فی الذهن- الذی هو وجه الخارج- مشخِّص للحبّ و البغض فی النفس، لکن له إضافة اعتباریّة إلی الخارج لا حقیقیّة، و منشأ انتزاعها هو تعلُّق الحبّ و البغض به فی النفس بالوجه و العنوان، و حینئذٍ فلا یستحیل أن یکون شی ء واحد ذا وجهین و عنوانین: باعتبار أحدهما هو محبوب، و بالاعتبار الآخر هو مبغوض، کما لو أکرم ابن المولی فی دارٍ نهاه عن الکون فیه، فهو مستحقّ للمدح و المثوبة بإکرام ابنه و اللوم و العقوبة لأجل الکون فیما نهاه عنه ضرورة أنّه فرق بین المثال المذکور و بین ما أهان ابن المولی فی الدار المذکورة عند العرف و العقلاء فیستحقّ عقوبتین فیه بخلاف الأوّل.

و أمّا الثانی- أی لزوم اجتماع المفسدة و المصلحة- فهما أیضاً مثل الحبّ و البغض، لیستا وصفین خارجیّتین کالسواد و البیاض؛ کی یمتنع اجتماعهما فی واحد فی زمان واحد، فإنّ المفسدة فی الغصب عبارة عن لزوم الاختلال فی نظام العالم؛ لو لم یحرم التصرُّف فی مال الغیر عدواناً، فلا یمتنع أن تتحقّق فی شی ء واحد هذه المفسدة و مصلحة لجهة اخری؛ باعتبار أنّ له وجهین و عنوانین یتعلّق بأحدهما الأمر، و بالثانی

ص: 230

النهی، کما ظهر ذلک من المثال الذی قدّمناه.

و أمّا الثالث- أی اجتماع المُقرّبیّة إلی اللَّه تعالی و المُبعّدیّة عنه تعالی فی شی ء واحد فهو أیضاً کذلک؛ لوضوح أنّه لیس المراد القرب و البعد المکانیّین منهما؛ لیمتنع اجتماعهما فی واحد، بل المُراد المنزلة و المکانة و ضدّهما عند المولی، فلا مانع من اجتماعهما فی واحد ذی عنوانین و وجهین: باعتبار أحدهما تقرُّب العبد إلیه تعالی، و باعتبار الآخر یَبعُد عنه تعالی، کما فی المثال المذکور.

و من جمیع ما ذکرنا یظهر ما فی المقدّمات التی ذکرها فی «الکفایة» لبیان ما اختاره من الامتناع، و لا نُطیل بذکر ما فیها من الإشکال، لکن لا بأس بالتعرّض لبیان ما ذکره فی المقدّمة الاولی، و ما هو المعروف من تضادّ الأحکام.

فإنّه قال فیها ما حاصله: إنّه لا ریب فی أنّ الأحکام الخمسة متضادّة کلّ مع الآخر فی مقام فعلیّتها و بلوغها مرتبة البعث و الزجر؛ ضرورة ثبوت المنافاة و المعاندة التامّة بین البعث نحو واحد و الزجر عنه فی زمان واحد بالنسبة إلی مکلّف واحد، و إن لم یکن بینهما مضادّة ما لم تبلغ تلک المرتبة؛ لعدم المنافاة و المعاندة بین وجوداتها الإنشائیّة قبل بلوغها إلیها، کما لا یخفی، فاستحالة اجتماع الأمر و النهی فی واحد لیست من باب التکلیف بالمحال، بل لأنّه تکلیف محال بنفسه، فلا یجوز عند من یجوّز التکلیف بغیر المقدور. انتهی(1) حاصله.

أقول: قد عُرِّف الضدّان: بأنّهما أمران وجودیّان لا یستلزم تصوُّر أحدهما تصوُّر الآخر، یتعاقبان علی موضوع واحد، و بینهما الخلاف، أو غایة الخلاف(2)، علی الاختلاف فی تعبیراتهم.

و ذکروا أنّ من شرائط التضاد: أنّه لا بدّ أن یکون لکلّ واحد منهما ماهیّة


1- کفایة الاصول: 193.
2- الأسفار 2: 112- 113، منظومة السبزواری 2: 41.

ص: 231

نوعیّة، و أن یقعا تحت جنس قریب(1).

و لا ریب فی أنّ کلّاً من الأمر الوجوبی و الأمر الاستحبابی مسبوق بالإرادة، و هی لا تختلف فیها إلّا بالشدّة و الضعف، فالأمر الوجوبی مسبوق بالإرادة الأکیدة، و الأمر الاستحبابیّ مسبوق بالإرادة الغیر الأکیدة، و الآمر لا یرضی بترک المأمور به فی الأوّل دون الثانی، لکن التأکُّد و عدمه و الرضا بالترک و عدمه لیست من مقوّمات الإرادة و جنسها أو فصلها، بل الإرادة الأکیدة عین الغیر الأکیدة بحسب الماهیّة، و الاختلاف بینهما انّما هو بالمرتبة، و کذلک لا فرق بین النهی التحریمی و التنزیهی فی أنّ کلّ واحد منهما مسبوق بإرادة الزجر، لکن مع الاختلاف بالتأکید و عدمه أو بالشدّة و الضعف، بحسب المفاسد التی فی المنهیّ عنه، کاختلاف الإرادة فی الأمر الوجوبی و الاستحبابی بحسب المصالح التی فی المأمور به بحسب نظر المولی، و کذلک الإباحة بناءً علی أنّها من الأحکام، فإنّه حیث رأی أنّ فی تخییر المکلّف بین الفعل و الترک مصلحةً، یحکم بإباحته، فلا فرق بین الأحکام الخمسة فی أنّ کلّ واحد منها مسبوق بالإرادة، و هی ماهیّةٌ واحدة و حقیقیّةٌ فإرادة فی جمیعها.

و أمّا ما یُتراءی من بعضٍ من أنّ الأمرَ مسبوق بالإرادة و النهیَ بالکراهة، ففیه:

أنّ الکراهة انفعال فی قبال الاشتیاق فی الأوامر، فکما أنّه لا یلزم وجود الاشتیاق فی الأوامر، کذلک الکراهة فی النواهی و إرادة الزجر، فربّما یرید الفعل مع کراهته له أو یرید الزجر مع اشتیاقه إلی الفعل.

إذا عرفت ذلک فنقول: الحکم الشرعی: إمّا هو عین الإرادة، أو الإرادة المظهرة للبعث، أو أنّه عین البعث و الزجر، أو أمر منتزع عنهما:

و علی الأوّل فلا ریب فی عدم انطباق تعریف التضادّ علیها، امّا أوّلًا: فلما عرفت من أنّ الإرادة فی جمیع الأحکام ماهیّة و حقیقة واحدة.


1- نفس المصدر.

ص: 232

و ثانیاً: فلأنّه لیس بین الوجوب و الاستحباب غایة الخلاف التی اعتبرها بعضهم فی الضدّین، کما لا یخفی.

و ثالثاً: فلما عرفت أنّه یعتبر فی الضدّین أن یکون لکلّ واحد منهما ماهیّة نوعیة کالبیاض و السواد، مع أنّه لیس للإرادة فی جمیع الأحکام إلّا ماهیّة واحدة.

و علی الثانی:- أی بناءً علی أنّ الوجوب و الحرمة عبارتان عن نفس البعث و الزجر- فلیس- أیضاً- للبعث المتعلّق بالواجب و البعث المتعلّق بالمندوب إلّا ماهیّة واحدة نوعیّة، فالبعث إلی صلاة الظهر- مثلًا- و البعث إلی النافلة حقیقة واحدة و ماهیّة فاردة مادةً و هیئة، و کذلک الزجر التحریمی و التنزیهی، و الضدّان ماهیّتان مختلفتان، و أیضاً لا بدّ فی الضدّین أن یتعاقبا علی موضوع خارجیّ واحد، و لا یجتمعان فیه فی زمان واحد، و موضوع الأحکام لیس من الموجودات الخارجیّة؛ لاستحالته کما عرفت، بل موضوعها الماهیّة الکلّیّة، و حینئذٍ فلا یستحیل اجتماعها علی موضوع واحد؛ ضرورة أنّه قد یأمر المولی عبداً بماهیّة، و ینهی آخر ذلک العبد عنها فی زمان واحد، مع استحالة ذلک فی الضدّین، کالسواد و البیاض.

و علی الثالث:- أی بناءً علی الوجوب و الحرمة و غیرهما من الأحکام امور اعتباریّة منتزعة عن البعث و الزجر- فانتفاء التضادّ بینها حینئذٍ أوضح، فإنّ الضدّان أمران وجودیّان، و الأحکام- بناءً علی هذا الوجه- لیست أمراً وجودیّاً، و أمّا عدم إمکان الأمر بشی ء و النهی عنه فی زمان واحد بالنسبة إلی شخص واحد، فلیس هو لأجل التضادّ بین الأحکام، بل لأجل أنّه تکلیف بغیر المقدور، أو لغیر ذلک، فعدم إمکان ذلک أعمّ من وجود التضادّ بینها.

ص: 233

بعض أدلّة جواز الاجتماع
اشارة

و استُدلّ لجواز اجتماع الأمر و النهی: بأنّه لو کان بین الأحکام تضادٌّ یلزم تحقّق التضادّ بین الوجوب و الاستحباب، و کذلک بین الوجوب و الکراهة و الاستحباب و الکراهة، مع اجتماع الوجوب و الاستحباب، کصلاة الظهر فی المسجد، و هو مع الکراهة، کالصلاة الواجبة فی الحمّام، و الاستحباب مع الکراهة، کصوم یوم عاشوراء، و أمثال ذلک، فیکشف ذلک عن عدم التضادّ بین الأحکام.

و أجاب عنه فی «الکفایة»:

أمّا إجمالًا فبأنّ ذلک لیس استظهاراً من الدلیل، و لیس برهاناً قطعیّاً- أیضاً- فلا بدّ من التصرّف و التأویل فیما ورد فی الشریعة ما یتوهّم منه الاجتماع، بعد قیام الدلیل و البرهان علی امتناع الاجتماع؛ لأنّ الظهور لا یُصادم البرهان.

و أمّا تفصیلًا: فالعبادات المکروهة علی ثلاثة أقسام:

أحدها: ما تعلّق فیه النهی بعنوانه و ذاته، و لا بدل له، کصوم(1) یوم عاشوراء و النوافل(2) المبتدأَة فی بعض الأوقات.

ثانیها: ما تعلّق به النهی کذلک، لکن مع البدل، کالنهی عن الصلاة(3) فی الحمّام.

ثالثها: ما تعلّق به النهی لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجوداً، أو ملازم له خارجاً، کالصلاة فی مواضع(4) التهمة؛ بناءً علی أنّ النهی عنها لأجل اتّحادها مع


1- الکافی 4: 146/ 3- 7، باب صوم عرفة و عاشوراء، الوسائل 7: 339/ باب 21 من أبواب الصوم المندوب.
2- نفس المصدر 3: 288/ باب التطوع فی ...، الوسائل 3: 170/ باب 38 من أبواب المواقیت.
3- نفس المصدر 3: 390/ 12، باب الصلاة فی ...، الوسائل 3: 466/ باب 34 فی الصلاة فی الحمّام علی کراهیة.
4- انظر الوسائل 3: باب 21 من أبواب مکان المصلّی.

ص: 234

الکون فی مواضعها.

أمّا القسم الأوّل: فالنهی تنزیهاً عنه بعد الإجماع علی أنّه یقع صحیحاً إلّا أنّ ترکه أرجح- کما یظهر من مداومة الأئمّة علیهم السلام علی الترک- هو إمّا لأجل انطباق عنوانٍ ذی مصلحة علی الترک، فالترکُ- حینئذٍ- کالفعل ذو مصلحة موافِقة للغرض، مع زیادة مصلحة الترک علی مصلحة الفعل، و حینئذٍ فهما من قبیل المستحبَّین المتزاحمین، و أرجحیّة الترک من الفعل لا توجب حزازةً و منقصةً فیه أصلًا.

و إمّا لأجل ملازمة الترک لعنوان کذلک من دون انطباقه علیه، فیکون کما إذا انطبق علیه من دون تفاوت، و فی الحقیقة تعلّق الطلب بما یلازمه من العنوان، بخلاف صورة الانطباق.

و أمّا القسم الثانی: فیمکن أن یکون النهی فیه لأجل ما ذکر فی القسم الأوّل طابق النعل بالنعل، و یمکن أن یکون بسبب حصول منقصة فی الطبیعة المأمور بها؛ لأجل تشخُّصها بمشخِّص غیر ملائم لها، کما فی الصلاة فی الحمّام، فإنّ تشخّصها بمشخّصٍ وقوعها فیه لا یناسب کونها معراجاً، و ربما یحصل لها- لأجل تشخُّصها بخصوصیّة شدیدة ملائمة معها- مزیّةٌ فیها، کالصلاة فی المسجد؛ و ذلک لأنّ للطبیعة فی حدّ نفسها- المشخّصة بما لیس له کمال المُلاءمة معها و لا عدم الملاءمة- مقداراً من المصلحة، کالصلاة فی المکان المباح، و إن تشخّصت بما له کمال الملاءمة معها تزداد مصلحتها علی مصلحة نفسها، و بما لا ملاءمة له معها فینقص عن مصلحتها الذاتیّة مقدارٌ، کالصلاة فی الحمّام، و لذا ینقص ثوابها تارةً، و یزداد اخری.

و لیکن هذا مُراد من قال: إنّ الکراهة فی العبادات بمعنی أنّها أقلّ ثواباً، فلا یرد علیه أنّه یلزم کراهة الصلاة فی الدار المُباحة، أو فی مسجد قلیل المزیة؛ لأنّها أقلّ ثواباً منها فی مسجد الحرام- مثلًا- و هکذا.

و أمّا القسم الثالث: فیمکن أن یکون النهی فیه عن العبادة المُتّحدة مع ذلک

ص: 235

العنوان أو الملازمة له بالعرض و المجاز، و أنّ المنهیّ عنه فی الحقیقة هو ذلک العنوان، و یمکن أن یکون إرشاداً إلی غیرها من الأفراد الغیر الملازمة له أو المتّحدة معه. هذا علی القول بجواز اجتماع الأمر و النهی.

و أمّا علی الامتناع فکذلک فی صورة الملازمة، و أمّا فی صورة الاتّحاد و ترجیح جانب الأمر- کما هو المفروض؛ حیث إنّه صحّة العبادة- فحال النهی فیه حاله فی القسم الثانی طابق النعل بالنعل. انتهی خلاصة کلامه قدس سره(1).

أقول: أمّا القول بأنّ الترک ذو مصلحة أو ملازم لعنوانٍ کذلک أو لعنوان مُنطبق علیه، فهو کما تری؛ حیث إنّه عدم، و العدم غیر قابل لإثبات شی ء له عقلًا، کما عرفت ذلک تفصیلًا، فلا بدّ من الجواب عمّا یرد من الإشکال فی المقام؛ قیل بالجواز أم بالامتناع:

فإن قلنا: بأنّ العنوانین اللذین بینهما عموماً و خصوصاً مطلقین- أیضاً- مشمولان للنزاع، و أنّه لا یختصّ محلّ البحث بالعامّین من وجه، فلا بدّ من الجواب عمّا لیس له بدل فقط، و هو ما تعلّق النهی فیه بعین ما تعلّق به الأمر.

و إن قلنا: إنّ البحث لا یشمل العامّین مطلقاً، و انّه یختصّ بالعامّین من وجه، فیحتاج القسم الأوّل و الثانی أیضاً- أی: ما إذا تعلّق الأمر فیه بعین ما تعلّق به النهی و له بدل- إلی الجواب.

فنقول: یمکن تعلُّق النهی فی القسم الأوّل، و هو ما تعلّق النهی فیه بعین ما تعلّق به الأمر و لا بدل له، کصوم یوم عاشوراء أو الصلاة فی الأوقات المکروهة فی الواقع بعنوانٍ ذی مفسدة، کالتشبُّه ببنی امیّة فی صوم یوم عاشوراء و إن لم یقصد ذلک؛ حیث إنّهم کانوا یتبرّکون فیه بادّخار الطعام و نحوه ممّا یحتاجون إلیه فی معیشة سنتهم، فإنّ الأخبار(2) الواردة فیه لا تخلو عن ظهور فی ذلک، و حینئذٍ فمتعلَّق الأمر فیه غیر متعلَّق


1- کفایة الاصول: 197.
2- الکافی 4: 146/ 3- 7.

ص: 236

النهی فی الحقیقة، و أنّ النهی متعلِّق بالتشبُّه بهم فی الحقیقة، و تعلُّقه بالصوم بحسب الظاهر إنّما هو لأنّه ملازم لتحقّق هذا العنوان المنهیّ عنه، و حینئذٍ فیندفع الإشکال لتغایر المتعلّقین.

و أمّا القسم الثانی:- بناءً علی عدم شمول النزاع للعامّین مطلقاً- فیمکن أن یقال: إنّ الأمر فیه متعلّق بطبیعة الصلاة، و النهی بالکون فی الحمّام- و إیجادها فیه حیث إنّه مجمع الشیاطین، و هما عنوانان متغایران و إن استُشکل فی ذلک: بأنّ الکون جزء الصلاة، فیلزم محذور الاجتماع فی عنوان واحد، و لا محیص- حینئذٍ- عمّا أجاب به عنه فی «الکفایة».

و ما ذکرنا من أنّ متعلَّق النهی عنوان آخر غیر ما تعلّق به الأمر هو أحد الوجوه التی یمکن أن یقال فی مقام الجمع بین الأخبار، و للفقهاء فی هذا المقام أقوال اخر فی مقام الجمع بینها، مثل: أنّ النهیَ عن الصوم إنّما هو فیما إذا قُصد التبرّک، و الأمرَ فیما إذا صام حزناً للمصائب الواردة علی أهل البیت علیهم السلام فی ذلک الیوم(1)، و لسنا فعلًا فی مقام الجمع بین الأخبار، و التحقیق فی محلّه.

و قال المیرزا النائینی قدس سره فی المقام ما حاصله: إنّه قد یکون متعلّق الوجوب عین ما تعلّق به الاستحباب، کما لو نذر الإتیان بصلاة اللیل، فإنّ الأمر الاستحبابی تعلّق فیه بذات صلاة اللیل، و تعلّق الأمر النذریّ الوجوبی- أیضاً- بذاتها، لا بصلاة اللیل المستحبّة؛ لأنّه لو کان کذلک لما أمکن الوفاء بالنذر؛ لعدم إمکان الإتیان بصلاة اللیل المُستحبّة بعد تعلُّق النذر بها، فالأمر النذریّ فیه تعلّق بعین ما تعلّق به الأمر الاستحبابی، و هو عنوان صلاة اللیل، ففی هذا القسم یندکّ أحد الأمرین فی الآخر فیکتسب الأمر الوجوبی من الأمر الاستحبابی التعبُّدیة و یکتسب الأمر الاستحبابی من الأمر الوجوبی الوجوب، فیتولّد منهما أمر وجوبی تعبُّدی.


1- المقنعة للشیخ المفید: 377- 378، التهذیب 4: 302.

ص: 237

و قد یکون مُتعلّق الأمر الوجوبی غیر ما تعلّق به الأمر الاستحبابی، کما فی استئجار شخص لصلاة مندوبة عن الغیر، فإنّ الأمر الندبی تعلّق بذات الصلاة، و الأمر الوجوبی- من ناحیة الإجارة- متعلِّق بالصلاة المتعبَّد بها، أو المتقرّب بها إلی اللَّه تعالی، أو بها مع قید النیابة عن الغیر- علی اختلاف المقرِّرین لبحثه- و ما نحن فیه من قبیل القسم الثانی، فإنّ الأمر الندبی تعلّق بنفس صوم یوم عاشوراء و الصلاة عند طلوع الشمس- مثلًا- و النهی مُتعلّق بالصلاة و الصوم المتعبّد بهما، فمتعلّقاهما عنوانان متغایران، فاندفع الإشکال(1)، انتهی ملخّصاً.

أقول: یرد علی القسم الأوّل:

أوّلًا: أنّ الأمر النذریّ لم یتعلّق بعین الصلاة التی هی متعلَّق الأمر الاستحبابی، بل الأوّل متعلِّق بعنوان الوفاء بالنذر(2)، و الإتیان بصلاة اللیل مصداقه.

و ثانیاً: علی فرض الإغماض عن ذلک، لکن لا معنی لاکتسابِ أحد الأمرین الوجوب من الآخر، و اکتسابِ الآخر التعبُّدیّة من الأوّل.

و أمّا القسم الثانی ففیه:

أنّ الأمر الوجوبی من قِبَل الإجارة لیس متعلِّقاً بالصلاة المتعبَّد بها، بل هو متعلِّق بعنوان الوفاء بالعقد؛ حیث إنّ الإجارة أحد العقود التی امر بالوفاء بها.

ثمّ لو أغمضنا عن ذلک، و سلّمنا أنّ الأمر الوجوبی متعلّق بالصلاة المتعبّد بها، لکن الإجماع قائم علی أنّه یعتبر قصد التقرُّب إلی اللَّه فی الإتیان بصلاة اللیل التی امر بها استحباباً، و علی فرض استحالة أخذ قصد الأمر فی الامتثال لا بدّ من الالتزام بتعدُّد الأمر فی العبادات، و حینئذٍ فاجتمع الوجوب و الاستحباب فی واحد، و هی الصلاة النافلة المتعبَّد بها، فالإشکال باقٍ بحاله.


1- فوائد الاصول 1: 439- 441.
2- کما ظاهر الأمر بالوفاء بالنذر- المقرر.

ص: 238

بحث: فی مَن توسّط أرضاً مغصوبة بسوء الاختیار

اختلفوا فی أنّه هل یجب الخروج عنها و لیس بحرام(1).

أو أنّه حرام و لیس بواجب(2).

أو أنّه یجری علیه حکم المعصیة بالنهی السابق مع عدم النهی فعلًا، و لیس فیه مناط الوجوب أیضاً(3).

أو أنّه واجب و حرام معاً(4).

أو أنّه لیس بواجب و لا حرام؟ أقوال.

ثمّ المُراد من الوجوب: إمّا النفسیّ، أو الغیریّ.

و مبنی القول بالوجوب النفسیّ: إمّا دعوی أنّ عنوان التخلُّص عن الحرام واجب و متعلَّق للأمر، و إمّا دعوی أنّ الخروج عن الأرض المغصوبة واجب و متعلَّق للأمر، أو دعوی وجوب عنوان ردّ مال الغیر إلی صاحبه و الأمر به، کما اختاره المیرزا النائینی قدس سره(5) علی إشکال فی أنّ مبناه ذلک.

فالقائل بالوجوب النفسیّ لا بدّ و أن یُثبت إحدی هذه الدعاوی و المبانی.

و أمّا الوجوب الغیریّ فهو مبنیّ علی أمرین:

أحدهما: أنّ النهی عن الشی ء یستلزم الأمر بضدّه العامّ.

و ثانیهما: أنّ مقدّمة الواجب واجبة؛ لأنّ النهی متعلِّق بعنوان الغصب، و هو یقتضی الأمر بترکه و الخروج؛ أی الاقدام حال الخروج مقدّمة لترک الغصب الواجب،


1- مطارح الأنظار: 153 سطر 30.
2- انظر کفایة الاصول: 168.
3- الفصول الغرویّة: 138 سطر 25.
4- قوانین الاصول: 153.
5- فوائد الاصول 1: 451.

ص: 239

فالخروج واجب غیریّ مقدّمیّ.

لکن تقدّم الإشکال فی استلزام الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه العامّ و بالعکس فإنّه إن ارید أنّ النهی المولویّ بشی ء یقتضی أمراً مولویّاً بضدّه العامّ، و أنّ مع کلّ أمر مولویّ نهیٌ کذلک بضدّه و بالعکس، فهذا باطل؛ لأنّه لیس فی الواقع و نفس الأمر إلّا مبادئُ أحدِهما.

و إن ارید بذلک أنّ الأمر بشی ء یقتضی النهی عن ضدّه العامّ نهیاً تأکیدیّاً، فهو لا یُفید المطلوب.

و أمّا وجوب المُقدّمة فقد تقدَّم- أیضاً- أنّه لا معنی للوجوب الترشُّحی التشریعی، بل هو عقلیّ، و حینئذٍ فلا یتمّ القول بأنّ الخروج عن الأرض المغصوبة واجب غیریّ أیضاً.

و التحقیق: أنّه حرام فعلًا و منشأ توهّم عدم حرمته بالفعل توهّم انحلال الأمر الشرعی المتعلِّق بالطبیعة إلی أوامر متعدِّدة بعدد أشخاص المکلَّفین، و أنّ الأمر الخاصّ- المتوجّه بالخروج إلی هذا المکلَّف المتوسِّط فی الأرض المغصوبة- ممتنع؛ لأنّه لا یقدر علی الخروج منها؛ للنهی عن التصرّف فیها، فالنهی عنه تکلیف بغیر المقدور.

لکن قد عرفت سابقاً: أنّه لا معنی للقول بالانحلال، و أنّه لیس لکلّ مکلّف أمر خاصّ متوجِّه إلی شخصه، بل الأوامر الشرعیّة کلّها کلّیّة قانونیّة متوجِّهة إلی عموم المکلّفین، و لیست متوجِّهة إلی القادرین فقط، کما أنّها لیست متوجِّهة إلی العالمین فقط، و لیست مقیَّدة بالقدرة؛ لأنّ التقیید الشرعی غیر معقول: أمّا عدم توجّهه إلی العالمین فقط فهو واضح، و أمّا عدم توجُّهه إلی القادرین فقط و خروج العاجزین، فلأنّه ینافی قولهم بلزوم الاحتیاط عند الشکّ فی العجز و القدرة.

و أمّا التقیید العقلی فقد تقدّم- أیضاً- أنّه غیر متصوّر فی المقام، و أنّه لا یمکن أن یقیِّد العبدُ أوامر مولاه.

ص: 240

بل التحقیق:- کما عرفت مفصّلًا- أنّ الأوامر و النواهی الشرعیّة کلّیّة قانونیّة فعلیّة بالنسبة إلی جمیع المکلّفین، و أنّهم مأمورون بامتثالها و یستحقّون العقاب بالمخالفة، إلّا من له عذر مقبول، کالجاهل بالموضوع، و الجاهل القاصر بالحکم، و العاجز مع فعلیّة التکلیف بالنسبة إلی جمیعهم.

و أمّا فیما نحن فیه فالمفروض أنّه ارتکب الحرام، و دخل فی الأرض المغصوبة عدواناً بالاختیار، و لم یکن مضطرّاً إلی ذلک، و لا له عذر مقبول، فجمیع التصرُّفات التی تصدر منه فی تلک الأرض من حین الدخول إلی الخروج ارتکاب للمنهیّ عنه عرفاً بالاختیار، فلا وجه لسقوط تکلیف الحرمة بالنسبة إلیه حین إرادة الخروج، و لا معنی لصیرورة حکمه إنشائیّاً بعد فعلیّته، فإنّ إرادة المولی غیر قابلة للتغییر، و لیس فی البین تقیید شرعیّ و لا عقلیّ؛ لعدم معقولیّتهما، فلا إشکال فی أنّ الخروج منهیّ عنه، و تصرّف فی ملک الغیر عدواناً المحرّم.

ثمّ علی فرض التنزُّل عن ذلک، و قلنا: إنّه لیس بحرام، لکن لا وجه للقول بوجوبه، کما اختاره المیرزا النائینی قدس سره لعدم وجود مناط الوجوب فیه.

ثمّ لو سلّمنا أنّ الأمر بالشی ء مقتضٍ للنهی عن ضدّه و أنّ مقدّمة الواجب واجبة، و سلّمنا أنّ هنا أمراً شرعیّاً متعلِّقاً بردّ مال الغیر إلی مالکه، فهل التکلیف فیما نحن فیه محال؛ لأجل امتناع البعث إلی شی ء و الزجر عنه معاً فی زمان واحد، و تکلیف بالمحال- أیضاً- لأجل عدم المندوحة للمکلّف- کما اختاره فی «الکفایة»(1) و أبو هاشم- أو أنّه تکلیف بالمحال فقط، لا تکلیفاً محالًا- کما اختاره فی «الفصول»(2)- لتعدُّد زمانَی الأمر و النهی؟

فنقول: لا إشکال- بناءً علی وجوب المقدّمة و ترشُّح الوجوب من ذی المقدّمة


1- کفایة الاصول: 187.
2- الفصول الغرویّة: 138.

ص: 241

إلیها- فی أنّه لا یترشّح الوجوب إلی ما هو مصداق المقدّمة الموصلة أو مطلق المقدّمة بالحمل الشائع؛ لأنّ ما هو المقدّمة بالحمل الشائع هو الفعل الخارجی، و قد مرّ مراراً استحالة تعلُّق البعث و الزجر بالشی ء الموجود فی الخارج، فالذی یترشّح إلیه الوجوب من ذی المقدّمة هو عنوان المقدّمة الموصلة أو مطلقاً- علی اختلاف المذهبین- و حینئذٍ فمتعلَّق الأمر هو عنوان المقدّمة، و متعلَّق النهی هو عنوان التصرّف فی مال الغیر، و هما عنوانان متغایران لا یجتمعان فی عالَم العنوانیّة، و أمّا فی الخارج فهما و إن یتصادقا علی واحد، لکن لیس فی عالم الخارج أمر و لا نهی؛ لیصیر التکلیف محالًا.

فالحقّ هو ما اختاره صاحب الفصول: من أنّ التکلیف المذکور لیس تکلیفاً محالًا، بل تکلیف بالمحال.

نعم یرد علیه الإشکال الذی ذکره فی «الکفایة»؛ أی فی بیان أنّه لیس تکلیفاً محالًا؛ قال فی بیانه: حیث إنّ الخروج منهیٌّ عنه بالنهی السابق الساقط فعلًا، و أنّه مأمور به فعلًا، فلا استحالة فی التکلیفین، و أنّهما ممکنان لتعدُّد زَمانَی الأمر و النهی و إن اتّحد زمان متعلَّقهما.

و حاصل الإشکال: أنّ تعدُّد زَمانَی الأمر و النهی و اختلافهما لا یُجدی فی ذلک بعد فرض اتّحاد زمان متعلَّقهما، فإنّ التکلیف معه مستحیل.

و قال المیرزا النائینی قدس سره فی المقام، بعد الإشکال علی ما أفاده فی «الکفایة»، و اختیاره ما اختاره الشیخ قدس سره من أنّ الخروج متّصف بالوجوب، و لیس حراماً، ما حاصله: أنّ ما ذکروه فی هذا المقام- من أنّ الامتناع بالاختیار لا یُنافی الاختیار- لا ربط له بما نحن فیه؛ لأنّه لیس من صُغریات هذه الکُبری الکلّیّة لوجوه:

الأوّل: أنّ ما هو الداخل فی موضوع هذه القاعدة الکلّیّة ما عرضه الامتناع؛ بحیث یخرج عن القدرة، و کان مستنداً إلی اختیار المکلّف، کالحجّ یوم عرفة ممّن ترک المسیر إلی الحجّ بالاختیار، و ما نحن فیه لیس کذلک.

ص: 242

الثانی: أنّ محلّ الکلام فی تلک القاعدة: إنّما هو فیما إذا کان ملاک الحکم مطلقاً؛ بحیث یوجد ذلک الملاک فی متعلَّق ذلک الحکم، سواء وُجدت مقدّمته الإعدادیّة، أم لم توجد، و کان الحکم مشروطاً بمجی ء زمان متعلَّقه، و هذا کخطاب الحجّ، فإنّه و إن کان مشروطاً بمجی ء یوم عرفة- علی ما هو الحقّ من امتناع الواجب المعلَّق- إلّا أنّ ملاکه یتمّ بتحقّق الاستطاعة، فمن ترک المسیر إلی الحجّ بعد الاستطاعة، یستحقّ العقاب علی ترکه و إن امتنع علیه الفعل فی وقته؛ لأنّ الامتناع بالاختیار لا یُنافی الاختیار، بخلاف ما نحن فیه، فإنّ التصرُّف بالدخول من المقدّمات التی لها دَخْل فی تحقُّق القدرة علی الخروج و تحقّق ملاک الحکم فیه.

الثالث: أنّ الملاک فی دخول شی ء فی موضوع کُبری تلک القاعدة، هو أن تکون المقدّمة موجبة لحصول القدرة علی ذی المقدّمة؛ لیکون الآتی بها قابلًا لتوجُّه الخطاب بإتیان ذی المقدّمة، و هذا کالمسیر إلی الحجّ، فإنّه حیث کان مقدِّمة إعدادیّة للحجّ، و به تتحقّق القدرة علیه، کان الآتی به قابلًا لتوجّه الخطاب إلیه، کما أنّ تارکه لامتناع الحجّ علیه حینئذٍ یستحیل طلبه منه، لکن الاستحالة لکونها منتهیة إلی الاختیار لا تسقط العقاب؛ لأنّ الامتناع بالاختیار لا یُنافی الاختیار.

و أمّا فی المقام فالدخول و إن کان مقدّمة إعدادیّة للخروج، إلّا أنّ تحقّقه فی الخارج یوجب سقوط النهی عن الخروج؛ إذ بالدخول یکون ترک الخروج غیر مقدور- علی ما اختاروه- فکیف یمکن أن یکون الخروج من صُغریات تلک القاعدة؟!

و بالجملة: ما نحن فیه و مورد القاعدة متعاکسان؛ إذ وجود المقدّمة فیما نحن فیه- أعنی بها الدخول- یُسقط الخطاب بترک الخروج، و لا بدّ من أن تکون المقدّمة فی مورد القاعدة دخیلةً فی فعلیّة الخطاب، کما عرفت.

و ذکر لذلک- أیضاً- وجهاً رابعاً، لکن مرجعه إلی الأوّل(1) انتهی.


1- فوائد الاصول 2: 448- 451.

ص: 243

أقول: کأنّه قدس سره لم یلاحظ الکفایة- أیضاً- فإنّه لا إشکال فی صحّة ما ذکره قدس سره من أنّ هذه القاعدة من الفلاسفة إنّما ذکروها ردّاً علی مذهب الأشاعرة من الجبر؛ حیث استدلّوا علیه: بأنّ الشی ء ما لم یجب لم یوجد، و ما لم یمتنع لم ینعدم، فلیس الإیجاد و الإعدام بالاختیار، حتّی الأفعال الصادرة منه تعالی و العیاذ باللَّه.

فأجاب عنه الفلاسفة: بأنّ الإیجاب بالاختیار لا یُنافی الاختیار، و کذلک الامتناع بالاختیار لا یُنافی الاختیار، فإنّ الشی ء و إن کان ما دام لم یجب لم یوجد، و ما لم یمتنع لم ینعدم، لکن هذا الإیجاب و الامتناع السابق إنّما هو بالاختیار و الإیجاب و الامتناع بالاختیار لا یُنافی الاختیار، بل هذا الوجوب و الامتناع یؤکّد الاختیار(1).

و الحاصل: أنّ المراد من القاعدة فی المقام أنّه لا تقبح العقوبة علی ما لو أوقع نفسه اختیاراً فی ارتکاب الحرام، فإذا قال المولی لعبده: «أنقذ ابنی الغریق»، فأعجز نفسه، و أوقعها فیما لا یمکن معه الإنقاذ اختیاراً، فلا ریب فی أنّه یستحقّ العقوبة، و هذا بخلاف ما إذا ارید من ذلک أنّه بعد اختیاره السبب و إیجاده هل یُنافی الاختیار فی إیجاد المسبّب و عدمه؟ فإنّه لا إشکال فی أنّ الامتناع بالاختیار بهذا المعنی یُنافی الاختیار، فمن ألقی نفسه من شاهق باختیاره، فبعد الإلقاء- و هو فیما بین السماء و الأرض- لا اختیار له.

هذا کلّه بالنسبة إلی الحکم التکلیفی للخروج.

و أمّا بالنسبة إلی الحکم الوضعی- أی الصحّة و الفساد- لو اشتغل بالعبادة حال الخروج، فقال فی «الکفایة»:

إنّه لا إشکال فی الصحّة مطلقاً فی الدار المغصوبة علی القول بالاجتماع، و أمّا علی القول بالامتناع فکذلک لو غلب ملاک الأمر علی ملاک النهی مع ضیق الوقت، أو اضطرّ إلی الغصب و لو کان بسوء الاختیار، مع وقوعها حال الخروج علی القول


1- انظر الأسفار 6: 309- 312.

ص: 244

بکون الخروج مأموراً به بدون إجراء حکم المعصیة علیه؛ إذ علی القول بإجراء حکم المعصیة علیه یقع الکون الخارجی مبغوضاً و عصیاناً للنهی السابق الساقط، فتبطل الصلاة فیها، و أمّا مع سعة الوقت فالبطلان مبنیّ علی القول باقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه؛ حیث إنّ الصلاة فی الدار المغصوبة مضادّة للصلاة فی المباح المأمور بها؛ لأنّها أهمّ فی نظر الشارع من الصلاة فی الدار المغصوبة، لکن الکلام فی اقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه، فإنّه ممنوع(1) انتهی ملخّصاً.

أقول: بناءً علی الامتناع یفتقر الحکم بصحّة الصلاة إلی إثبات أمرین:

أحدهما: وجود ملاک الصلاة فیما فیه ملاک الغصب و إن کان عنواناً واحداً و حیثیّة فاردة.

الثانی: عدم مانعیّة ملاک الغصب عن ملاک الصلاة و لو مع فرض کون ملاک الغصب أهمّ.

أمّا الأوّل فهو ممتنع؛ لعدم إمکان اجتماع المصلحة و المفسدة فی عنوان واحد مع اتّحادِ الحیثیّة، و القولُ بتعدُّد الحیثیّتین و العنوانین هنا، و أنّ المفسدة قائمة بغیر ما فیه المصلحة، رجوعٌ عن الامتناع؛ لأنّ المفروض أنّ الامتناع إنّما هو لأجل أنّه تکلیف محال.

ثمّ إنّه علی فرض تصوّر القول بالامتناع مع وجود الحیثیّتین فی نفس الأمر لوجه آخر، فلا بدّ من الحکم بصحّة الصلاة و لو مع أقوائیّة ملاک النهی من ملاک الأمر، و لا فرق فیه بین دخوله بسوء الاختیار أو بالاضطرار و نحوه.

و أمّا ما أفاده المیرزا النائینی قدس سره من تکاسر الملاکین و انکسار ملاک الأمر بملاک النهی(2)، فقد عرفت سابقاً أنّه لیس فی المقام کسر و انکسار خارجی، بل معنی أقوائیّة


1- کفایة الاصول: 210- 211.
2- فوائد الاصول 2: 453.

ص: 245

ملاک النهی: هو أنّ مراعاة المفسدة المترتِّبة علی الغصب بترکه أهمّ فی نظر الشارع من مراعاة مصلحة الصلاة و أنّها ضعیفة بالنسبة إلی مفسدة الغصب، مع أنّها تمام الملاک للصلاة بدون نقصٍ فیها، و حینئذٍ فنقول و إن لم نَقُلْ بتعلُّق أمر فعلیّ بالصلاة، لکنّها تقع صحیحة بملاکها، و لا یحتاج إلی تعلّق أمرٍ بها فی الحکم بصحّتها.

و قال فی «الدرر» ما حاصله: لا إشکال فی صحّة الصلاة فی الدار المغصوبة علی القول بالامتناع أیضاً؛ لوضوح الفرق بین عبدٍ دخل داراً نهاه المولی عن دخولها و بین عبد دخلها مثله، لکنّه امتثل أمراً له- أیضاً- بالخیاطة- مثلًا- فإنّ عقاب الأوّل أکثر من الثانی؛ حیث إنّ الثانی و إن ارتکب المنهیّ عنه، لکنّه امتثل أمراً له- أیضاً- دون الأوّل. هذا فی التوصُّلیات و کذلک التعبُّدیات، کما لو صلّی بدل الخیاطة فی المثال.

ثمّ قال: إنّه یمکن اجتماع المحبوبیّة الفعلیّة مع المبغوضیّة الذاتیّة فی عنوان واحد، فإنّه لو غرقت زوجة رجل فإنقاذ الأجنبیّ لها بالمباشرة مبغوض له بالذات، لکنّه محبوب له فعلًا(1).

أقول: ما ذکره من الأمثلة العرفیّة صحیحة، لکن وقع خلط فی کلامه قدس سره فإنّ متعلّق الحبّ فی المثال لیس عین ما تعلّق به البغض فإنّ الحبّ متعلّق بالإنقاذ بهذا العنوان و البغض متعلّق بعنوان آخر و هو مباشرة الأجنبیّ لبدن الأجنبیّة و هما عنوانان متغایران متصادقان علی موضوع واحد.


1- درر الفوائد: 162.

ص: 246

ص: 247

الفصل الرابع فی اقتضاء النهی فساد المنهیّ عنه

اشارة

هل النهی عن شی ء یقتضی فساده أوْ لا؟ کذا عنونوا البحث(1).

و عنونه بعضهم هکذا: هل النهی عن الشی ء یدلّ علی فساد المنهیّ عنه أو لا(2)؟

لکن عنوانه کذلک لا یخلو عن إشکال، فإنّ الاقتضاء فی العُرف و اللغة عبارة عن تأثیر شی ء فی شی ء آخر لو لا المانع، و لیس للنهی تأثیر فی المنهیّ عنه.

و کذلک الدلالة، فإنّ غایة ما یمکن فی تقریب الدلالة هو أن یقال: حیث إنّ متعلَّق النهی مبغوض للمولی، فلا تجتمع المبغوضیّة مع المحبوبیّة فی شی ء واحد، فتستلزم المبغوضیّة المستفادة من النهی فسادَ ذلک الشی ء، لکن هذا الاستلزام عقلیّ خفیّ، و علی فرض تسلیم أنّ الدلالة الالتزامیّة من الدلالات اللفظیّة، فهذا القسم لیس منها؛ لأنّه لا بدّ فی الدلالة الالتزامیّة- التی هی من الدلالات اللفظیة- أن یکون اللزوم بینهما بیّناً، و ما نحن فیه لیس کذلک، فإنّ اللزوم فیه غیر بیِّن، فالأولی أن یعنون


1- کفایة الاصول: 217، فوائد الاصول 2: 454، مقالات الاصول 1: 134.
2- عدّة الاصول: 99 سطر 12، الوافیة: 100.

ص: 248

البحث هکذا: هل یستلزم النهی عن الشی ء فساده أو لا؟ و یراد بالاستلزام ما یعمّ العقلیّ، أو یقال: هل یکشف تعلُّق النهی بشی ء عن فساده أو لا؟

و علی أیّ تقدیر لا بدّ هنا من تقدیم امور:

الأمر الأوّل: قد عرفت الفرق بین هذه المسألة و مسألة الاجتماع، و أنّ الفرق بینهما إنّما هو فی مرتبة الذات بتمامها.

الأمر الثانی: هذه المسألة من المسائل الاصولیّة بلا إشکال؛ لأنّ المناط فی المسألة الاصولیّة إمکان وقوع نتیجتها فی طریق الاستنباط، و هی کذلک.

الأمر الثالث: هذه المسألة هل هی من المسائل العقلیّة المحضة، أو اللّفظیّة المحضة، أو مرکّبة منهما؟

فقال بعضهم: إنّها من المسائل الاصولیّة العقلیّة المحضة(1)، و حیث إنّهم لم یجعلوا مسائل الاصول علی ثلاثة أقسام، بل قسمان، فجعلوها و عنونوها فی المباحث اللفظیّة من الاصول.

و الظاهر أنّها لا عقلیّة محضة، و لا لفظیّة محضة، بل هی مرکّبة منهما، و لا ضرورة لجعلها إمّا عقلیّة و إمّا لفظیّة، فیُعنْونُ البحث بما ذکرناه، و حینئذٍ یمکن الاستدلال بالدلیل اللفظی و العقلی معاً.

الأمر الرابع: هل المراد من الصحّة هنا سقوط القضاء، و یُقابلها الفساد، أو أنّ الصحّة هنا بمعنی موافقة الأمر، أو الشریعة، و یُقابلها الفساد، أو أنّ الصحّة بمعنی التامّ، و الفساد بمعنی الناقص؟

قال فی «الکفایة» ما حاصله: إنّ الصحّة و الفساد أمران إضافیّان مرادفان للتمامیّة و النقص لغةً و عرفاً، و اختلاف الفقیه و المتکلّم إنّما هو فی المهمّ فی نظرهما، و إلّا فهما متّفقان فی أنّ الصحیح هو التامّ، و الفاسد هو الناقص، لکن الفقیه عبّر عن ذلک


1- انظر فوائد الاصول 2: 455.

ص: 249

بالمُسقط للقضاء، و المتکلّم بموافقة الشریعة، و اختلافهما إنّما هو فیما هو المهمّ فی نظرهما، و إلّا فهما عندهما بمعنی واحد- أی التمامیّة و النقص- فالصلاة الواجدة لجمیع الأجزاء، الفاقدة للشرائط صحیحة بالنسبة إلی الأجزاء؛ بمعنی أنّها تامّة الأجزاء، و فاسدة بالنسبة إلی الشرائط؛ أی ناقصة بالإضافة إلیها، و کذلک اختلاف المُجتهدین فی الأحکام الظاهریّة لها، فإنّها یمکن أن تکون صحیحة فی نظر مجتهد، و فاسدة فی نظر مجتهدٍ آخر، فالعبادة الموافقة للأمر الظاهری صحیحة عند المتکلّم و الفقیه؛ بناءً علی أنّ الأمر- فی تفسیر الصحّة بموافقة الأمر- یعمّ الأمر الظاهریّ مع اقتضائه الإجزاء، و غیر صحیحة عند الفقیه بناءً علی عدم الإجزاء، و مراعی بموافقة الأمر الواقعی عند المُتکلّم؛ بناءً علی إرادة خصوص الأمر الواقعیّ فقط(1). انتهی ملخّص کلامه قدس سره.

أقول: أمّا الصحّة و الفساد فی التکوینیّات عند العرف و اللغة فلیستا مرادفین للتمامیّة و النقص، بل هما أمران وجودیّان، فإنّ البطّیخ الذی عرضه شی ء صار فاسداً بسببه، یقال: إنّه فاسد، لا ناقص، بخلاف ما إذا لم یعرضه ذلک، و کان علی طبیعته الأصلیّة، فإنّه یُطلق علیه الصحیح، و لا یطلق علیه التامّ عند العرف و اللغة، و الأعمی الفاقد للبصر أو الشخص الفاقد لعضو من الأعضاء، فإنّه یطلق علیهما الناقص، و لا یطلق علیهما الفاسد، و الدار الفاقدة لما یُعتبر فی تمامها، فإنّه یُطلق علیها أنّها ناقصة، و لا یطلق علیها أنّها فاسدة.

و بالجملة: بین الصحّة و التمامیّة عموم من وجه عند العرف و اللغة، و کذلک بین الفاسد و الناقص.

و أمّا فی العبادات و المعاملات فإن کانت الصحّة و الفساد فیهما مثل غیرهما من التکوینیّات فکذلک، و إطلاقهما بمعنی التمامیّة و النقص فی العبادات و المعاملات إمّا هو اصطلاح خاصّ للمتشرّعة، و إمّا لأنّه اطلقا علیهما بنحو المجاز و المسامحة، حتی صارتا


1- کفایة الاصول: 220- 221.

ص: 250

حقیقتین فیهما، فهما أمران إضافیّان بینهما تقابل العدم و الملکة، کالتمامیّة و النقص، فإنّ الصلاة الواجدة لجمیع الأجزاء صحیحة؛ بمعنی التمامیّة بالإضافة إلیها، و إن فقدت الشرائط فهی فاسدة بالنسبة إلیها؛ بمعنی أنّها ناقصة بالإضافة إلیها.

و أمّا ما ذکره قدس سره من أنّه یمکن أن تکون عبادةٌ صحیحةً فی نظر مجتهد، و فاسدةً فی نظر آخر، ففیه: أنّه لیس ذلک معنی الإضافة، بل الصحیح هو أحد النظرین، و الآخر لیس بصحیح واقعاً و إن کان معذوراً فی ذلک.

و بالجملة: کلّ واحد من المجتهدینِ المختلفینِ فی النظر فی الأحکام الظاهریّة یُخطّئ الآخر، و أنّ الصحیح فی الواقع هو أحدهما.

و أمّا مسألة إجزاء الأمر الظاهری و عدم إجزائه فغیر مربوطة بالمقام؛ بناءً علی ما ذکروه فی باب الإجزاء: من أنّ الأمر الظاهری أو الاضطراری هل یقتضی الإجزاء عن الأمر الواقعی فیسقط، أو لا؟ ففرضوا لذلک أمرین، و أنّ أحدهما هل یُسقط الآخر أو لا؟ و ذلک لأنّ المأمور به بالأمر الظاهری أو الاضطراری إن کان واجداً للملاک و المصلحة واقعاً، فهو صحیح مطلقاً، و إلّا ففاسد کذلک، لکن لا یُعاقب علیه للعذر فی ذلک، و لا ارتباط لذلک بالصحّة و الفساد، کما لا یخفی.

ثمّ إنّ الصحّة و الفساد هل هما أمران مجعولان فی العبادات و المعاملات، أو لا فیهما، أو أنّهما مجعولان فی المعاملات من حیث إنّ ترتُّب الأثر علی معاملة إنّما هو بجعل الشارع، دون العبادات، أو أنّهما مجعولان فی العبادات المأمور بها بالأمر الظاهری، دون العبادات المأمور بها بالأوامر الواقعیّة؟

أقوال: اختار ثالثها و رابعها فی «الکفایة»(1)، و وافقه فی الثالث المیرزا النائینی قدس سره(2).


1- کفایة الاصول: 221- 222.
2- أجود التقریرات 1: 392.

ص: 251

و التحقیق: هو القول الثانی، و ذلک فإنّا و إن أثبتنا فی محلّه: أنّ الأحکام الوضعیّة ممّا یمکن أن تنالها ید الجعل استقلالًا، لکن الصحّة هنا: عبارة عن موافقة المأتیّ به للمأمور به، و الفساد عدمها، و هی من الامور التکوینیّة، و أمّا جعل الآثار فلا یستلزم جعل الصحّة.

و استدل المیرزا النائینی لمجعولیّتهما فی الأحکام الظاهریة: بأنّ الشارع جعل الصلاة مع الطهارة المستصحَبة موافقةً لها مع الطهارة الواقعیّة بقوله: (لا تنقض الیقین بالشک)(1)، و لیس المراد بالمجعولیّة إلّا ذلک(2).

و فیه: أنّ الشارع إمّا أنّه رفع الید عن شرطیّة الطهارة الواقعیّة للصلاة فی الفرض فی صورة الشکّ بقوله: (لا تنقض الیقین بالشک)، فالصلاة مع الطهارة المُستصحَبة- حینئذٍ- صحیحة موافقة للواقع، و هذه الموافقة لیست مجعولة، أو أنّه لم یرفع یده عن شرطیّتها، بل حکم بالصلاة باستصحاب الطهارة؛ تسهیلًا للعباد و إرفاقاً لهم، فهی لیست بصحیحة، بل فاسدة، غایة الأمر أنّه لا یُعاقب العبد علیها؛ لمکان العذر.

و بالجملة: موافقة المأتیّ به للمأمور به و عدمها لیستا مجعولتین و الصحّة و الفساد عبارتان عن ذلک.

الأمر الخامس: هل یختص محط البحث و عنوانه بالنهی التحریمی، أو أنّه یعمّ التنزیهی؟

قد یقال: إنّ النهی التنزیهی خارج عن محلّ النزاع؛ لأنّه متضمِّن للرخصة فی


1- التهذیب 1: 8 باب الاحداث الموجبة للطهارة ح 11، الوسائل 1: 174 باب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 1.
2- أجود التقریرات 1: 392.

ص: 252

الفعل، فیقع صحیحاً(1).

و وجهه: أنّ النهی فی مثل: «لا تصلِّ فی الحمّام» متعلّق بالکون فی الحمّام حال الصلاة و إیجاد الصلاة فیه، لا بنفس الصلاة لیشمله النزاع.

و فیه: أنّه لا اختصاص لهذا البحث بالنواهی الشرعیّة، بل هو کلی شامل للنواهی العرفیّة- أیضاً- و تعلُّق نهی تنزیهیّ خاصّ فی الشریعة بخصوصیّة- لا بنفس العبادة- لا یوجب خروج النواهی التنزیهیّة کلّها عن ذلک، فإنّ خروج ذلک فی مورد إنّما هو لخروجه عن موضوع البحث، لا لأنّ البحث مخصوص بغیر النواهی التنزیهیّة.

مع أنّا لا نسلّم تعلُّق النهی فی «لا تصلِّ فی الحمّام» بالخصوصیّة، مضافاً إلی أنّه ربّما یتعلّق النهی التنزیهی بعنوان العبادة، کالنهی عن صوم یوم عاشوراء و نحوه.

کما أنّه لا اختصاص للنزاع بالنهی النفسی الأصلیّ، بل یشمل التبعیّ و الغیریّ أیضاً، فإنّه لا وجه لتوهّم خروجهما عن محطّ البحث، إلّا ما قیل:

من إنّ النهی الغیریّ فی مثل «لا تصلِّ فی وبر ما لا یؤکل لحمه» إرشاد إلی الفساد، و مع فساده لا یتوهّم الصحّة کی ینازع فی ذلک.

و أیضاً النهی التبعیّ الغیریّ- الذی یقتضیه الأمر بالشی ء- مبنیّ علی مسألة الضدّ، و احتمال فساد الصلاة بالنهی الغیریّ إنّما هو لأجل عدم الأمر بها حینئذٍ، لکن لا نُسلّم عدم وجود الأمر بالعبادة التی تعلّق بها الأمر الغیریّ، بل یمکن فرض وجود الأمر بها بنحو الترتُّب، و علی فرض عدم الأمر فالعبادة المنهیّ عنها بالنهی الغیریّ صحیحة؛ بسبب وجود ملاک العبادة فی الصلاة، و لا یحتاج فی صحّة العبادة إلی تعلُّق الأمر بها، و حینئذٍ فالصلاة مع تعلُّق النهی الغیریّ التبعیّ بها صحیحة، فلا وجه للنزاع فی اقتضاء الأمر الغیری للفساد و عدمه(2).


1- المصدر السابق 1: 386.
2- انظر أجود التقریرات 1: 387.

ص: 253

و فیه: أنّ ذلک مبنیّ علی صحّة الترتُّب، أو القول بعدم احتیاج صحّة العبادة إلی الأمر، فمن لا یصحّ عنده الترتُّب و ذهب إلی توقّف العبادة علی الأمر بها، و عدم کفایة مجرّد وجود الملاک، فلا بدّ أن یقول ببطلان الصلاة مع تعلُّق النهی الغیریّ أو التبعیّ بها.

فالتحقیق: أنّ محطّ البحث یعمّ النهی التحریمی و الغیری و التبعی و الأصلی و النفسی، کما اختاره فی «الکفایة».

الأمر السادس: المُراد بالشی ء- فی قولنا: النهی عن الشی ء هل یقتضی الفساد؟

- هو العبادة أو المعاملة.

و المراد بالعبادة ما یصلح للعبادیّة بالذات، أو ما لو امر به کان عبادة تحتاج فی تحقُّقها إلی قصد التقرّب.

و المراد بالمعاملة هی العناوین العرفیّة التی یعتبرها العقلاء، و یُرتِّبون علیها الآثار، کالبیع و الإجارة و نحوهما.

و بعبارة اخری: کلّ عنوان اعتباریّ یقع تارةً صحیحاً یترتّب علیه الآثار، و اخری فاسداً لا یترتّب علیه الأثر، و أمّا ما لا یقع فی الخارج إلّا صحیحاً کالقتل، أو ما لا یقع فیه إلّا فاسداً، فهو خارج عن محطّ البحث، فإنّ القتل لیس علی قسمین صحیح و فاسد، بل هو صحیح دائماً، لکن قد لا یترتّب علیه الأثر، کقتل الأب ابنه، لعدم ترتُّب القصاص علیه.

الأمر السابع: لا أصل فی المسألة الاصولیّة یُعوَّل علیه عند الشکّ فی الاقتضاء و عدمه؛ لأنّ النزاع إمّا فی دلالة لفظ النهی، و إمّا فی ثبوت الملازمة بین المبغوضیّة و الفساد:

و علی الأوّل: فلیس لعدم الفساد حالة سابقة لیُستصحب حالَ النهی و بعده، فإنّ عدم الفساد قبل النهی إنّما هو لأجل عدم صدوره، فلا یصحّ استصحابه بعد صدوره.

ص: 254

و علی الثانی: فإن قلنا بأنّ الملازمات أزلیّات- کما ذکره بعض(1)- فلیس لعدمها حالة سابقة لتستصحب، و إلّا فعدم وجود الملازمة قبل النهی إنّما هو لأجل عدم وجود الملازم، فلا یمکن استصحابه بعد وجوده- أی النهی- و صدوره.

و لو سلّمنا صحّة الاستصحاب من هذه الجهة و عدم الإشکال فیه؛ لوجود الحالة السابقة لعدم الدلالة علی الفساد أو عدم الملازمة، لکن یُشترط فی جریان الاستصحاب- و سائر الاصول فی الموضوعات الخارجیّة- وجودُ کُبری کلّیّة ثابتة؛ کی یثبت بإجراء الاصول موضوع تلک القاعدة الکلّیّة، کما فی استصحاب العدالة- مثلًا- فإنّه یثبت به موضوع کُبری جواز الاقتداء بالعادل، و لیس فیما نحن فیه کُبری کذلک؛ حتّی یثبت بالاستصحاب موضوعها.

و بعبارة اخری: لا بدّ فی الاستصحابات الموضوعیّة من ترتُّب أثرٍ شرعیٍّ علیها و هو مفقود فیما نحن فیه. هذا کلّه بالنسبة إلی الأصل فی المسألة الاصولیّة.

و أمّا بالنسبة إلی الأصل الفرعی فی المسألة الفرعیّة: أمّا فی المعاملات: فأصالة الفساد فیها متّبعة؛ لأنّ ترتُّب الآثار إنّما هو بجعل الشارع أو بإمضائه، فمتی شُکّ فی صحّة معاملة فالأصل عدم ترتُّب الآثار علیها.

و أمّا فی العبادات: لو شکّ فی دلالة النهی علی الفساد، أو فی ثبوت الملازمة بین الفساد و المبغوضیّة فإن احرز فی العبادات المنهیّ عنها وجود الملاک و المصلحة- کما فی صورة العجز عنها، فإنّ الملاک فیها موجود، غایة الأمر أنّ المکلّف عاجز عن الإتیان بها و معذور- فمقتضی الأصل هو الصحّة، و إن لم یحرز فیها وجود الملاک و المصلحة- کما هو الظاهر فیما نحن فیه؛ لأنّه لا طریق لإثبات ذلک إلّا تعلّق الأمر بها فی الشریعة، و المفروض أنّها منهیّ عنها، و حینئذٍ فلا یمکن تعلُّق الأمر بها؛ لیکشف به وجود الملاک- فمقتضی الأصل الفساد.


1- فوائد الاصول 2: 462.

ص: 255

و أمّا تقریر الأصل العملی فی العبادة: بأنّه إن تعلّق النهی بنفس العبادة فمقتضی الأصل هو الاشتغال؛ لأنّ الشکّ إنّما هو فی خروج العهدة عن الاشتغال الیقینی بها، و مقتضاه تحصیل البراءة الیقینیّة، و لا تحصل بالإتیان بالعبادة المنهیّ عنها.

و إن تعلّق النهی بالجزء أو الشرط فمرجعه إلی مسألة الأقل و الأکثر؛ لأنّ الشک- حینئذٍ- فی مانعیّة الجزء أو الشرط.

ففیه: أنّ محطّ البحث هو أنّ النهی لو تعلّق بعبادة، هل یستلزم فسادها، أو لا؟ فلا بدّ من إحراز تعلّقه بالعبادة ذاتها، فالجزء و الشرط إن کانا عبادة کالرکوع و الوضوء، فهما- أیضاً- داخلان فی محطّ البحث و عنوانه، فیقال: إنّ النهی المتعلّق بالرکوع- الذی هو عبادة- هل یستلزم فساده، أو لا؟ و کذلک الشرط العبادی.

و أمّا استلزام فسادِ الجزء أو الشرط فسادَ الکلّ و المشروط، فهو مسألة اخری لا ربط لها بما نحن فیه، لعلّنا نتعرّض لها فی خاتمة البحث إن شاء اللَّه.

و من هنا یظهر فساد ما ذکره فی «الکفایة»: من جعل النهی المتعلّق بالعبادة علی أقسام، و أنّه إمّا یتعلّق بنفس العبادة، أو جزئها، أو شرطها، أو وصفها الخارج اللازم لها أو المقارن(1)؛ لأنّ متعلّق النهی فی جمیع ذلک هو العبادة نفسها لو کانت هذه- أی الأجزاء و الشرائط- عبادة، لا أنّها جزء أو شرط لها، بل هی بما أنّها عبادة متعلَّقةٌ للنهی و محلُّ البحث، و إن لم تکن هذه- أی الأجزاء و الشرائط- عبادة بنفسها فهی خارجة عن محطّ البحث.

و تحقیق ما هو الحقّ فی المقام یحتاج إلی بسطِ الکلام فی مقامین:

اشارة

الأوّل: ما إذا لم یُحرز عنوانُ النهی أنّه إرشادیّ أو مولویّ، تحریمیّ أو تنزیهیّ، نفسیّ أو غیره.

الثانی: ما إذا احرز ذلک.


1- کفایة الاصول: 222- 223.

ص: 256

أمّا المقام الأوّل:
اشارة

فلا إشکال فی أنّ المستفاد منه عرفاً هو الإرشاد إلی الفساد فی العبادات و المعاملات، و أنّ مفاده عدم ترتُّب الآثار المترقَّبة منها.

و الاحتمالات فی المعاملات ثلاثة:

أحدها: أن یتعلّق النهی فیها بالأسباب، کلفظ «بعت» و «اشتریت» الذی هو فعل مباشریّ.

الثانی: أن یتعلّق بالعنوان الذی یعتبره العقلاء؛ أی النقل و الانتقال المسبّبین عن الأسباب المذکورة عند العقلاء.

الثالث: أن یتعلّق بترتیب الآثار علیها؛ أی التصرّف فیه من الأکل و الشرب و نحوهما.

فلا إشکال فی أنّ المستفاد من النهی عنها عرفاً هو الثالث من الاحتمالات، فإذا قیل: «لا تبع ربویّاً» معناه أنّه لا تترتّب علیه الآثار المترقَّبة من البیع، و لیس نهیاً عن إیجاد سببه بما هو فعل مباشریّ، و هو التلفُّظ بلفظ «بعت» مثلًا، و لیس نهیاً- أیضاً- عن اعتبار الملکیّة و النقل و الانتقال و لو مع عدم ترتُّب الأثر علیها، و کذلک فی العبادات، فإنّه عرفاً إرشاد إلی فسادها، و أنّه لا یترتّب علیها الآثار المطلوبة منها من فراغ الذمّة عن التکلیف و خروجه عن العُهدة، فکما أنّ المستفاد من «صلِّ مع الطهارة» أنّ الطهارة شرط لها، و أنّه لا یترتّب علیها الآثار المترقَّبة منها، کذلک یستفاد من قوله: (لا تُصلِّ فی وَبرِ ما لا یُؤکل لحمُه)(1) مانعیّة ذلک إلی غیر ذلک، و الحاکم بذلک هو العرف، و الشاهد علیه الوجدان، و إلّا فلا دلیل آخر علی إثبات ذلک.

و أمّا المقام الثانی:

فالبحث فیه: إمّا فی العبادات، و إمّا فی المعاملات:

أمّا الأوّل: فإن احرز أنّ النهی المتعلّق بالعبادة تحریمیّ تکلیفیّ، فلا ریب فی أنّه یستلزم الفساد؛ حیث إنّه یدلّ علی مبغوضیّتها للمولی، و أنّها ذات مفسدة بهذا العنوان


1- انظر الوسائل 3: 250- 252 باب 2 من أبواب لباس المصلّی.

ص: 257

الواحد، و معه لا یمکن أن تقع محبوبةً، و ذاتَ مصلحة یتقرّب بها إلی اللَّه تعالی شأنه، و ذلک هو معنی الفساد، و لیس ذلک من باب اجتماع الأمر و النهی- بأن یکون النهی متعلِّقاً بالخصوصیّة فی مثل «لا تُصلِّ فی المکان المغصوب»، و الأمر متعلِّقاً بعنوان الصلاة- المتصادقین علی مصداق واحد، کما أتعب المحقّق الحائریّ نفسه الزکیّة بذلک(1)، فإنّه- حینئذٍ- خارج عن عنوان البحث الذی فُرض فیه تعلُّق النهی بنفس العبادة، لا بما هو خارج عنها.

و أمّا إذا احرز أنّ النهی تنزیهیّ فلا فرق بینه و بین التحریمیّ من جهة حکم العقل؛ حیث إنّه یدلّ النهی التنزیهیّ علی مرجوحیّة متعلَّقه و مطلوبیّة ترکه، و لا یصلح المرجوح لأن یُتقرَّب به إلی اللَّه سبحانه، لکنّه فی العرف لیس کذلک، فإنّهم- من جهة أنّه تنزیهیّ متضمِّن للرُّخصة فی الفعل- یُؤوِّلونه إلی ما یمکن معه فرض الصحّة، مثل الإرشاد إلی أنّ هذا الفرد أقلّ ثواباً من غیره، أو غیر ذلک، فلا إشکال فی ذلک أیضاً.

و إذا احرز أنّ النهی غیریّ أو تبعیّ أو هما معاً، کما إذا قلنا بأنّ الأمر بالشی ء یقتضی النهی عن ضدّه، فأَمرَ المولی بإزالة النجاسة عن المسجد، و مع ذلک أخذ العبد بالصلاة المنهیّ عنها بالنهی الغیریّ التبعیّ، الذی اقتضاه الأمر بالإزالة، أو قلنا بأنّ ترک الضدّ واجب من باب المقدّمة، فلا یدلّ النهی الغیریّ علی حرمة المنهیّ عنه، فإنّ المطلوب هو ذو المقدّمة، و هو محبوب، و أمّا المقدّمة فهی لیست محبوبة و لا مبغوضة، فالمنهیّ عنه بالنهی الغیریّ لیس مبغوضاً؛ حتی یستلزم الفساد و لو فی العبادات.

و أمّا حرمة التجرّی فالتجرّی علی المولی بترک إزالة النجاسة المأمور بها، لا یوجب مبغوضیّة الصلاة التی یتوقّف امتثال الأمر بالإزالة علی ترکها، فإنّه اجترأ علی المولی بترک الإزالة، و لا ارتباط له بالصلاة، و إلّا یلزم القول ببطلان صلاة من


1- درر الفوائد: 187- 188.

ص: 258

أفطر صومه اجتراءً علی المولی، مع وضوح فساده. هذا کلّه فی العبادات.

و أمّا الثانی- أی فی المُعاملات- فإن احرز أنّ النهی المتعلِّق بها تحریمیّ، فهذا- أیضاً- یُتصوّر علی وجهین:

أحدهما: أن تُحرز الحیثیّة التی تعلّق بها النهی.

الثانی: ما لم یُحرز ذلک.

و الوجه الأوّل- أیضاً- إمّا أن یُحرز فیه أنّ النهی تعلّق بما هو فعل بالمباشرة من المعاملة، و هو قول: «بعت» و «اشتریت»- مثلًا- و هذا مجرّد فرض و تصوُّر، و لم نظفر له علی مثال.

و أمّا تمثیل الشیخ قدس سره له بالنهی عن البیع وقت النداء(1)؛ فمراده- أیضاً- فرض ذلک، و إلّا فلیس النهی فیه متعلِّقاً بمجرّد قول: «بعت» و «اشتریت».

و علی أیّ تقدیر لا یدلّ النهی فی هذا القسم علی الفساد؛ لعدم المُنافاة بین مبغوضیّة التلفُّظ ب «بعت» و «اشتریت» و سببیّة ذلک للنقل و الانتقال.

و إمّا أن یُحرز أنّ النهی متعلِّق بالعنوان الاعتباریّ المسبَّب عن التلفُّظ ب «بعت» الذی هو فعل مباشریّ، کالنقل و الانتقال، و ذلک کالنهی عن تملُّک الکافر للمسلم أو القرآن المجید مثلًا.

فقال الشیخ رحمه الله: إنّ ذلک یحتمل وجهین:

أحدهما: أن تکون سببیّة هذا اللفظ للنقل و الانتقال شرعیّة مجعولة للشارع.

الثانی: أن تکون عقلیّة تکوینیّة، لکن حیث إنّه لا یُدرکها العقل کشف عنها الشارع.

فعلی الثانی: فالنهی لا یدلّ فیه علی الفساد؛ لعدم التنافی بین مبغوضیّة ذلک السبب التکوینیّ و بین تأثیره فی وجود المسبَّب.


1- انظر مطارح الأنظار: 163 سطر 26.

ص: 259

و أمّا علی الأوّل: فمبغوضیّة السببیّة المجعولة مع تأثیرها فی إیجاد النقل و الانتقال فی غایة البعد، فالنهی- حینئذٍ- یدلّ علی الفساد(1). انتهی.

أقول: هنا وجه ثالث: و هو أن لا تکون السببیّة عقلیّة تکوینیّة و لا تشریعیّة، بل عرفیّة عقلائیّة، فإنّ العقلاء یعتبرون وجود الملکیّة بالتلفُّظ ب «بعت» و «اشتریت»، و هو سبب عندهم لها، و یتعلّق النهی فی هذا القسم بهذا العنوان الاعتباریّ، و هذا الوجه هو المتعیِّن، فإن کان النهی عنه ردعاً لهذه الطریقة العقلائیّة و بنائهم، فمقتضاه الفساد، کما فی النواهی الإرشادیّة، و إن قلنا بأنّه لیس ردعاً لها، بل هو مجرّد زجر عن سلوکها، فیدلّ علی مبغوضیّتها مع تأثیر السبب أثره علی فرض وقوعه فی إیجاد المسبّب، فلا یقتضی الفساد حینئذٍ.

ثمّ لو تنزّلنا عن ذلک، و قلنا: إنّ السببیّة مجعولة شرعیّة، لکن لیس المجعول هو سببیّة هذا اللفظ للانتقال الخاصّ، بل المجعول السببیّة لکلّیّ اللفظ للانتقال بالمعنی الکلّیّ، و لا یستلزم مبغوضیّة فرد خاصّ من السببیّة فسادَ کلّیّتها، بل لا منافاة بین مبغوضیّتها و بین صحّتها کلیّاً و تأثیرها، فإنّ المجعول هو الکلّیّ، و المبغوض هو الفرد.

لا یقال: الحکم بالصحّة هنا لغوٌ؛ حیث إنّه لا معنی لها مع مبغوضیّتها و وجوبِ إجبار الکافر علی البیع من مسلم أو المصحف الذی اشتراه من مسلم و فرضِ صحّته.

فإنّه یقال: لا مانع من ذلک؛ لوقوع نظائره فی الشریعة، فإنّ شراء الولد والدیه صحیح، مع أنّهما ینعتقان علیه، و لو فُرض النهی عن تسبُّب شی ء لشی ء، و کان هو المبغوض بدون مبغوضیّة ذات السبب و لا المسبَّب، فالنهی فیه یدلّ علی الصحّة؛ لأنّه تعتبر القدرة فی متعلَّق النهی، کما فی الأمر، و مع الفساد لیس هو بمقدور، و مثّلوا لذلک بالظِّهار، فإنّ طلاق المرأة مطلقاً لیس مبغوضاً، و کذلک مجرّد التلفُّظ ب «أنتِ علیَّ کظهر امّی»، فإنّه بما أنّه فعل مباشریّ لیس مبغوضاً، بل المبغوض هو التسبُّب للطلاق


1- المصدر السابق.

ص: 260

باللفظ المذکور.

و لا یرد علیه ما ذکره بعضهم: من أنّ المبغوضیّة تُنافی الصحّة(1)؛ لأنّ الحکم بالصحّة إنّما هو لشمول الإطلاقات و العمومات لذلک.

و أمّا إذا تعلّق النهی التحریمیّ بترتیب الآثار، کالنهی عن البیع الربویّ بلحاظ أثره، کالتصرُّف فی الثمن و المثمن و نحوه، فهو مستلزم للفساد؛ إذ لا معنی للحکم بصحّة النقل و الانتقال مع حرمة التصرُّف فیما انتقل إلیه، کما فی الموارد التی یکون النهی إرشاداً إلی الفساد.

أمّا الوجه الثانی:- و هو ما لم یحرز فیه تعلُّق النهی بحیثیّة خاصّة مع کونه تحریمیّاً- فقال الشیخ قدس سره: إنّه یُحمل علی تعلُّقه بالسبب بما هو فعل مباشریّ حفظاً للعنوان، و إلّا یلزم أن یکون النهی غیریّاً، فإنّ الظاهر أنّ النهی متعلِّق بما هو فعل مباشریّ، فلو فُرض أنّ المبغوض مع ذلک هو العنوان الاعتباریّ المسبَّب عنه أو الآثار المطلوبة منه، لکان النهی غیریّاً توصُّلًا إلی الزجر عن غیره(2)، لکن الظاهر أنّه لیس کذلک، بل النهی فیه مثل النهی الإرشادیّ، متعلّق بما هو المتعارف عند العقلاء؛ من اعتبار الملکیّة و النقل و الانتقال و ترتُّب الآثار علیها، فیدلّ علی الفساد، کما لا یخفی.

و بالجملة: المبغوض و المنهیّ عنه هو ما بنی العقلاء علیه من اعتبار الملکیّة و ترتُّب الآثار علیه.


1- انظر فوائد الاصول 2: 471- 472.
2- انظر مطارح الأنظار: 164 سطر 9.

ص: 261

الروایات التی استدلّ بها لدلالة النهی علی الفساد:

ثمّ إنّه استُدلّ(1) علی دلالة النهی علی الفساد و استتباعه له شرعاً و إن لم یستلزمه عقلًا بروایات:

منها:

روایة زُرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال: (سألت عن مملوک تزوّج بغیر إذن سیّده، فقال: ذاک إلی سیّده إن شاء أجاز و إن شاء فرّق بینهما.

قلت: أصلحک اللَّه إنّ الحکم بن عُیینة و إبراهیم النَّخعی و أصحابهما یقولون: إنّ أصل النکاح فاسد، و لا تحلّ إجازة السیّد له، فقال أبو جعفر علیه السلام: إنّه لم یعصِ اللَّه، و إنّما عصی سیِّده، فإذا أجازه فهو له جائز)

(2).

و روایته الاخری: عنه علیه السلام قال: (سألته عن رجل تزوّج عبدُه امرأةً بغیر إذنه، فدخل بها، ثمّ اطّلع علی ذلک مولاه؟

قال: ذاک لمولاه إن شاء فرّق بینهما، و إن شاء أجاز نکاحهما، فإن فرّق بینهما للمرأة ما أصدقها ... إلی أن قال:

فقلت لأبی جعفر علیه السلام: فإنّه فی أصل النکاح کان عاصیاً.

فقال أبو جعفر: إنّما أتی شیئاً حلالًا، و لیس بعاصٍ للَّه إنّما عصی سیّده، و لم یعصِ اللَّه، إنّ ذلک لیس کإتیان ما حرّم اللَّه علیه من نکاحٍ فی عدّة و أشباهه)

(3).

و روایة منصور بن حازم عن أبی عبد اللَّه علیه السلام: (فی مملوک تزوّج بغیر إذن مولاه، أ عاصٍ للَّه؟


1- الوافیة: 104- 106.
2- التهذیب 7: 351 باب 30 من کتاب التجارات ح 63، الوسائل 14: 523 باب 24 من أبواب نکاح العبید و الإماء ح 1.
3- التهذیب 7: 351 باب 30 من کتاب التجارات ح 62، الوسائل 14: 523 باب 24 من أبواب نکاح العبید و الإماء ح 2.

ص: 262

قال: عاصٍ لمولاه.

قلت: حرامٌ هو؟

قال: ما أزعم أنّه حرام، و نولّه أن لا یفعل إلّا بإذن مولاه)

(1).

وجه الاستدلال: أنّ قوله علیه السلام:

(إنّه لم یعصِ اللَّه، و إنّما عصی سیّده)

یدلّ علی أنّه لو کان معصیةً للَّه و ممّا نهی اللَّه تعالی عنه، لکان قول الحکم بن عیینة صحیحاً، لکنّه لم یعصِ اللَّه، و إنّما عصی سیّده، فلا یصحّ قوله، فیدلّ علی أنّ النهی فی الشریعة یدلّ علی الفساد.

و استُشکل علی الروایة بأنّه کیف حکم الإمام علیه السلام بأنّه لم یعصِ اللَّه، بل عصی سیّده، مع أنّ معصیة السیّد معصیة اللَّه(2)؟

و أجاب عنه الشیخ قدس سره بما حاصله: أنّ هنا أمرین:

أحدهما: فعل مباشریّ للعبد، و هو التلفّظ بلفظ «أنکحت».

و الثانی: ترتیبه الآثار.

و مُراده علیه السلام أنّه عصی سیّده فی الأوّل، و معصیته معصیة اللَّه، و لم یعصهِ فی التزویج الذی هو مسبَّب عن الأوّل- أی الفعل المباشریّ- ضرورة أنّ أصل النکاح و ترتیب الآثار علیه لیس منهیّاً عنه و محرّماً(3).

و فیه: أنّ ذلک خلاف ظاهر الروایة؛ حیث إنّ ظاهرها: أنّ الحیثیّة التی عصی بها سیّده لم یعصِ اللَّه بها بعینها، لا أنّه لم یعصِ اللَّه فی أصل النکاح و التزویج، و إنّما عصاه بالتلفُّظ بلفظ «أنکحت».


1- الکافی 5: 478 باب المملوک یتزوّج بغیر اذن مولاه ح 5، الوسائل 14: 522 و باب 23 من أبواب نکاح العبید و الإماء ح 2.
2- انظر قوانین الاصول 1: 162 سطر 6.
3- مطارح الأنظار: 165 سطر 15.

ص: 263

و قال صاحب «الکفایة» و المحقّق الشیخ محمّد حسین صاحب الحاشیة 0:

إنّ المراد من قوله علیه السلام:

(إنّه لم یعصِ اللَّه)

هو فی الحکم الوضعیّ؛ أی أنّ النکاح لیس ممّا لم یُمضِه اللَّه لیکون فاسداً، بل عصی سیّده فی الحکم التکلیفی، فلا تدلّ علی دلالة النهی التحریمیّ علی الفساد شرعاً(1).

و فیه: أنّه- أیضاً- خلاف ظاهر الروایة؛ لاستلزامه التفکیک بین الجملتین الذی هو خلاف ظاهرها.

و قال بعض الأعاظم قدس سره: إنّ المُراد من قوله علیه السلام:

(لم یعصِ اللَّه)

: أنّ التزویج لیس مثل سائر الأعمال و الأفعال المحرّمة، کالنکاح فی العدّة و نحوه فی حرمة ارتکابه، و ذلک بقرینة الروایة الثانیة(2).

و هذا و إن کان أقرب بملاحظة الروایة الثانیة، لکن یرد علیه ما أوردناه علی الأوّلین: من أنّه خلاف ظاهر الروایة.

و التحقیق فی المقام: أن یقال فی معنی الروایة: إنّ التلفُّظ بلفظ «أنکحت» و نحوه، لیس حراماً علی العبد بدون إذن سیّده؛ بتوهّم أنّ ذلک تصرّف من العبد فی سلطنة غیره عدواناً، فإنّ الحکم بحرمة ذلک ممّا لا یمکن نسبته إلیه تعالی؛ لأنّه ظلم- تعالی اللَّه عنه- بل المنهیّ عنه هو عنوان مخالفة العبد لسیّده، فهی بهذا العنوان محرّمة، و أمّا عنوان التزویج- المسمّی فی الفارسیّة ب «زن گرفتن»- فهو حلال لیس بحرام، لکنَّ العنوانین المذکورین متصادقان فی مورد الروایة علی شی ء واحد، و هو نکاح العبد، و حینئذٍ فنقول: المراد أنّ العبد لم یعصِ اللَّه فی عنوان النکاح لیفسد، فإنّ التزویج ممّا أحلّه اللَّه، و لذلک قال علیه السلام فی الروایة الثانیة:

(و إنّما أتی شیئاً حلالًا)

أی النکاح، لکن حیث یصدق علیه عنوان مخالفة السیِّد، فعصی سیِّده بهذا العنوان المحرَّم،


1- انظر کفایة الاصول: 227، و نهایة الدرایة 1: 317- 318.
2- أجود التقریرات 1: 407.

ص: 264

أی المخالفة، و معصیة السیِّد بهذا العنوان- أیضاً- معصیة اللَّه، لکنّه بعنوان أنّه تزویج لیس معصیةً للَّه، و حیث إنّ الحکم بن عُیَینة و غیره زعموا أنّ النکاح المذکور مخالفة للسیّد، و کلّ مخالفة للسیّد حرام، فالنکاح المذکور حرام، و هو یستلزم الفساد.

و فی الحقیقة أجاب الإمام علیه السلام: بأنّه لم یتکرّر الحدّ الأوسط فی هذا الشکل، فإنّ النکاح المذکور بعنوان أنّه مخالفة السیّد حرام، لا بما أنّه نکاح و تزویج، فهذه الروایة من أدلّة جواز اجتماع الأمر و النهی.

دلالة النهی علی الصحّة

ثمّ إنّه حُکی عن أبی حنیفة و الشیبانی دلالةُ النهی فی العبادات و المعاملات علی الصحّة.

و استدلّا علیه: بأنّه کما یشترط قدرة المکلّف فی متعلّق الأمر، فکذلک فی النهی، فلا یمکن النهی عن الطیران فی الهواء؛ لعدم قدرة المکلّف علیه، فلو لا أنّ المعاملة و العبادة صحیحتان قبل تعلّق النهی لکانتا غیر مقدورتین للعبد، فلا یصحّ زجره عنها، فلا بدّ أن تکونا مقدورتین قبل تعلّق النهی بها؛ لیصحّ الزجر عنهما، و إلّا لا یصحّ(1).

و وافقهما فی «الکفایة» فیما إذا تعلّق النهی بالمسبَّب أو بالتسبُّب، لا ما إذا تعلّق بذات السبب بما هو فعل مباشریّ(2)، لکن ذلک لیس مخالفة لهما؛ لأنّ مرادهما- أیضاً الفرضان الأوّلان.

و قال المحقّق الشیخ محمّد حسین صاحب الحاشیة قدس سره ما حاصله: إنّ النهی: إمّا أن یتعلّق بالسبب بما هو فعل مباشریّ، و إمّا أن یتعلّق بالمسبّب، و هو إیجاد الملکیّة.

أمّا الأوّل: فهو قد یتّصف بالصحّة، و قد یتّصف بالفساد، فالنهی عنه و إن دلّ


1- مطارح الأنظار: 166 سطر 15، انظر المحصول فی علم الاصول 1: 350.
2- کفایة الاصول: 228.

ص: 265

علی مقدوریّته للمکلّف، إلّا أنّ وجوده لا یلازم صحّته، فلا یدلّ فیه علی الصحّة.

و أمّا الثانی: فالأمر فیه دائر بین الوجود و العدم، و الصحّة لازمة لوجوده، و النهی عنه لا یدلّ علی صحّته؛ لأنّ النهی عن إیجاد الملکیّة- الذی هو معنی التملیک بالحمل الشائع- إمّا بلحاظ ترتُّب وجود الملکیّة علیه، فالإیجاد لا یمکن أن یؤثّر فی الوجود؛ لأنّهما متّحدان بالذات، و مختلفان بالاعتبار، فمن حیث قیامه بالمکلّف قیام صدور فهو إیجاد، و من حیث قیامه بالماهیّة قیام حلول وجود، و لا یمکن تأثیر الشی ء فی نفسه، و إمّا بلحاظ الأحکام المترتّبة علی الملکیّة المعبَّر عنها بآثارها، فهو- أیضاً- غیر صحیح؛ لأنّ نسبتها إلیها نسبة الحکم إلی موضوعه، لا نسبة المسبَّب إلی سببه؛ لیتّصف بلحاظه بالنفوذ و الصحّة، فالنهی عن إیجاد الملکیّة و إن دلّ عقلًا علی مقدوریّته و إمکان تحقُّقه، لکنّه لا یدلّ علی صحّته؛ حیث لا صحّة له، فما ذکره أبو حنیفة لا یصحّ علی جمیع التقادیر. انتهی حاصله(1).

أقول: لیس مراد أبی حنیفة و الشیبانی ما ذکراه، بل مرادهما أنّ النهی المتعلّق بالمعاملة- مثلًا- یقتضی صحّة العنوان الاعتباریّ الذی یعتبره العقلاء، لا أنّ النهی المتعلِّق بما هو فعل مباشریّ و سبب، و لا بإیجاد الملکیّة، یقتضی الصحّة.

و التحقیق: أنّ ما ذکراه صحیح فی المعاملات؛ لما ذکر من اشتراط القدرة فی متعلَّق النهی فیها کالأمر، لکن لا بدّ أن یُعلم أنّ ذلک إنّما یصحّ فی النهی التحریمیّ التکلیفیّ؛ لیکون ذلک زجراً عمّا یعتبره العقلاء عما هو متعارف عندهم فی المعاملات، و أمّا لو کان النهی إرشاداً إلی الفساد، فلا إشکال فی أنّ الفساد لازم له.

و أمّا فی العبادات فلا یصحّ ما ذکراه؛ لأنّه علی القول بأنّها أسامٍ للأعمّ، فالمکلّف قادر علی الإتیان بها صحیحة أو فاسدة، فیمکن النهی عنها، و یستلزم الفساد کما فی نهی الحائض عن الصلاة.


1- نهایة الدرایة 1: 318 سطر 15.

ص: 266

و أمّا علی القول بأنّها أسامٍ للصحیحة منها، فلا ریب فی أنّ مرادهم بالصحیح إنّما هو بالإضافة إلی غیر قصد القربة و امتثال الأمر و نحوهما ممّا یُعتبر من ناحیة الأمر، و لذلک أوردنا علیهم: بأنّ إطلاقهم الصحیح علیها غیر صحیح، و حینئذٍ فالمکلّف قادر علی الإتیان بالصحیح و الفاسد منها- بهذا المعنی- قبل تعلُّق النهی بها.

و علی فرض الإغماض عن ذلک، و فرضنا أنّ مرادهم بالصحیح هو الصحیح من جمیع الجهات، فمن الواضح استحالة النهی عن الصلاة الصحیحة بهذا المعنی، الواجدة لجمیع الأجزاء و الشرائط، مع وجود ملاکها و تعلُّق الأمر بها.

و بالجملة: ما ذکراه غیر مستقیم فی العبادات.

تنبیه:

النهی المتعلّق بجزء العبادة أو شرطها أو وصفها اللازم أو المقارن، هل یسری إلی نفس العبادة، أو لا؟
اشارة

و بعبارة اخری: النهی المتعلّق بأحد المذکورات المستلزم لفساده لو کان عبادة، هل یستلزم فساد العبادة، أو لا؟

لا إشکال فی أنّه لا یسری إلی نفس العبادة:

أمّا الجزء- سواء کان عبادة، أم لا- فالنهی عنه و إن استلزم مبغوضیّته، لکن مبغوضیّة الجزء لا تستلزم مبغوضیّة الکلّ حتی تستلزم فساده، نعم لو اکتفی بالجزء العبادیّ المنهیّ عنه أوجب ذلک بطلان الکلّ؛ لأجل عدم الإتیان بالجزء، لا لأجل أنّ الصلاة مبغوضة لأجل تعلُّق النهی بجزئها. هکذا ینبغی أن یعنون هذا البحث.

و أمّا تفصیل بعضهم: بأنّه یوجب الفساد فیما إذا اخذت العبادة بشرط لا عن هذا الجزء مثلًا، و کذا فیما إذا تعلّق النهی فی الحقیقة بالعبادة، و تعلّقه بالجزء أو الشرط لأنّهما واسطة فی الثبوت، و عدم إیجابه الفساد فی غیر هذه الصورة.

ص: 267

فهو خارج عن محطّ البحث؛ لأنّ العبادة لو اخذت بشرط لا عن الجزء- مثلًا- فمرجعه أنّ الجزء المذکور مانع، و لیس البحث فیه، و لیس البحث- أیضاً- فی أنّ تعلُّق النهی بنفس العبادة یوجب فسادها أو لا، بل الکلام فی أنّ النهی عن الجزء- بما هو جزء- هل یستلزم فساد الکلّ أو لا؟

أمّا الوصف اللازم فهو- أیضاً- کذلک، و لیعلم أنّه لیس المراد بالوصف اللازم ما لا ینفکّ عن الملزوم؛ لعدم تعقُّل الأمر بالملزوم، کذلک مع النهی عن لازمه الغیر المنفکّ عنه، بل المراد اللازم الذی لا ینفکّ عن خصوص الفرد، کالجهر فی القراءة المجهور بها؛ لأنّه لا بدّ من وجود المندوحة. لکن یمکن أن یُستشکل علیه: بأنّه یلزم- حینئذٍ- أن یکون جمیع الأوصاف لازمة.

اللّهمّ إلّا أن یقال: إنّه فرق بین ما نحن فیه و سائر الأوصاف، فإنّ القراءة التی یُجهر بها لا تنفکّ عن الجهر، و القراءة التی لا یجهر فیها فرد آخر من القراءة توصف بالإخفات، بخلاف الموصوف فی سائر الموارد، فإنّ موصوفاً واحداً تارةً یتّصف بصفة، و اخری بصفة اخری، کالجسم قد یتّصف بالسواد، و قد یتّصف بالبیاض.

و بالجملة: لا یمکن انفکاک الجهر عن موصوفه، بخلاف سائر الصفات، فإنّه یمکن انفکاک کلٍّ من السواد و الجسم الخاصّ الموصوف به عن الآخر.

و علی أیّ تقدیر: فالنهی إنّما تعلّق بعنوان الجهر بالقراءة، و الأمر متعلّق بنفس القراءة، و هما عنوانان متغایران، لا یسری النهی من أحدهما إلی الآخر، و لا تستلزم مبغوضیّة أحدهما مبغوضیّة الآخر، و لیس ذلک من قبیل المطلق و المقیّد أیضاً؛ لوضوح الفرق بین ما إذا نهی عن القراءة المجهور بها و الأمر بمطلق القراءة، و بین ما إذا أمر بالقراءة و نهی عن الإجهار بها، فلا إشکال فی أنّ النهی عن الوصف اللازم بما هو وصف، لا یسری إلی الموصوف لیصیر فاسداً.

و أمّا توهُّم أنّ المُبعِّد لا یمکن أن یکون مُقرِّباً فقد تقدّم الجواب عنه، و أنّه لیس

ص: 268

المراد منهما القرب و البعد المکانیّین؛ حتی یمتنع اجتماعهما فی واحد، بل المراد المکانة و المنزلة، و کذلک البعد، و حینئذٍ فیمکن أن یکون شی ءٌ واحد مُقرِّباً من جهة، و مُبعِّداً من جهة اخری.

و ظهر ممّا ذکرنا حکم الوصف المقارن إذا تعلّق به النهی، فإنّه لا یستلزم فساد الموصوف به بالطریق الأولی.

و أمّا إذا تعلّق النهی بالشرط، کما إذا دلّ الدلیل علی شرطیّة الستر فی الصلاة و نهی عن ستر خاصّ، فالنهی عنه یدلّ علی مبغوضیّة ذلک الستر، لکن لا یسری إلی المشروط لیصیر فاسداً. نعم لو کان الشرط النهی عنه عبادة استلزم فسادُه فسادَ الصلاة؛ لفقدانها لما هو شرط لها، و لکنّه خارج عن محلّ الکلام من سرایة النهی منه إلیها.

ص: 269

المطلب الثالث المنطوق و المفهوم و فیه فصول:

اشارة

ص: 270

ص: 271

المقدمة

اشارة

و قبل الخوض فی الکلام فیهما لا بدّ من تقدیم امور:

الأمر الأوّل:

أنّ المناط فی حجّیّة المفهوم عند القدماء غیر ما هو المناط فیه عند المتأخّرین؛ لأنّه عند المتأخّرین مُستفاد من العلّیّة المنحصرة(1)، و عند القدماء لأجل بناء العقلاء علی عدم لَغْویّة القید بما هو فعل اختیاریّ من الأفعال(2)، کما سیجی ء تفصیله إن شاء اللَّه.

الأمر الثانی: أنّه هل هو من الدلالات اللفظیّة أو العقلیّة؟

فبناءً علی مسلک المتأخّرین هو من قبیل الدلالات اللفظیّة؛ لأنّه کما تنقسم الدلالة فی المفردات إلی المطابقة و التضمّن و الالتزام، و اللزوم- أیضاً- إلی البیِّن و الغیر البیِّن، و کلّ واحد منهما بالمعنی الأعمّ و الأخصّ، کذلک تنقسم الدلالة فی المرکّبات و القضایا إلی الأقسام المذکورة و إن لا یخلو ذلک عن مسامحة؛ لأنّه لیس للمرکّبات


1- نهایة الاصول 1: 270.
2- نفس المصدر.

ص: 272

وضع علی حِدة سوی وضع مفرداتها.

و علی أیّ تقدیر إنّهم ذکروا أنَّ أدوات الشرط تدلّ علی وجود خصوصیّة للشرط، و هی العلّیّة المنحصرة للجزاء بالوضع أو بالإطلاق، و أنّ المفهوم لازم بیِّن لها، و الدلالة الالتزامیّة التی هی من أقسام الدلالات اللّفظیّة عندهم هی دلالة اللفظ علی اللازم، و لکن المفهوم لیس کذلک، فإنّه لازم للخصوصیّة التی یدلّ علیها اللفظ، و هی من المعانی، لکن حیث إنّ المفهوم لازم بیِّن لها جعلوه من الدلالات اللفظیّة.

و الحاصل: أنّهم ذهبوا إلی أنّ أدوات الشرط- مثل «إن» الشرطیّة- تدلّ بالوضع أو الإطلاق علی ما هو بالحمل الشائع علّة منحصرة، لا لمفهومها، فلا یرد علیه الإشکال: بأنّها لو دلّت علی ذلک فلِمَ لا یفهم منها مفهوم العلّیّة و الانحصار عند إطلاقها؟ و ذلک لما عرفت أنّه لیس المراد دلالتها علی مفهومهما، بل علی مصداقهما، و ما هو بالحمل الشائع علّة منحصرة، التی هی معنیً حرفیّ، کما أنّه لا یتبادر من لفظة «من» الابتدائیّة مفهوم الابتداء، بل ما هو مصداقه بالحمل الشائع، و بناءً علی ذلک فدلالة الشرطیّة علی المفهوم من الدلالات اللفظیّة، لکن لا فی محلّ النطق، بخلاف المنطوق، کما ذکر الحاجبی: من أنّ المفهوم: هو اللفظ الدالّ علیه لا فی محلّ النطق، و المنطوق هو اللفظ الدالّ علیه فی محلّ النطق(1).

ثمّ إنّه یمکن أن یجعل المفهوم علی ذلک صفةً للّفظ الدالّ من حیث إنّه دالّ، أو المدلول من حیث هو مدلول، أو الدلالة، کما أنّ المطابقة یمکن أن تجعل صفةً للّفظ من حیث إنّه مطابق للمعنی، و للمدلول؛ لأنّه مطابَق- بالفتح- له، و للدلالة. هذا کلّه بناءً علی مسلک المتأخّرین.

و أمّا بناءً علی ما نُسب إلی القدماء من المسلک فی المفهوم(2)- و إن کان فی


1- شرح مختصر الاصول: 360.
2- نهایة الاصول 1: 270.

ص: 273

النسبة نظر- فالمفهوم من الدلالات العقلیّة؛ و ذلک لأنّهم قالوا: کما أنّ بناء العقلاء مستقرّ فی أفعالهم علی أنّها لغرض عقلائیّ، و أنّها لم تصدر منهم لَغْواً و عَبَثاً، فکذلک القید الذی یقیِّد المتکلّمُ العاقل الشاعر موضوعَ حکمه به، فإنّ طریقتهم استقرّت علی حمل التقیید علی أنّه لغرض التفهیم و التفهُّم، لا لغواً و عبثاً، لکن ذلک لا بما أنّه لفظ، بل بما أنّه فعل من الأفعال، و حینئذٍ فالمفهوم عندهم من الدلالات العقلیّة، و یمکن تطبیق ما ذکره الحاجبی علی ذلک- أیضاً- و إن کان انطباقه علی مذهب المتأخّرین أظهر.

الأمر الثالث:

النزاع فی هذا المبحث هل هو صغرویّ علی کلا المسلکین، أو کبرویّ علی کلیهما، أو أنّه صغرویّ علی مسلک المتأخّرین، و کبرویّ علی مسلک القدماء؟

قد یقال بالأخیر، و أنّ النزاع علی مسلک المتأخّرین فی ثبوت المفهوم و عدمه، مع الاتّفاق علی حجّیته علی فرض الثبوت، و أمّا بناءً علی مسلک القدماء فهو فی حجّیّته، و أنّه هل یصحّ الاحتجاج به عند المخاصمة و اللجاج أو لا؟ مع الاتّفاق علی ثبوته(1).

لکن لیس کذلک، بل النزاع علی کلا المسلکین صُغرویّ، و أنّه إنّما هو فی أنّه هل للقضیّة الشرطیّة- مثلًا- مفهوم أو لا؟ أ لا تری أنّ عَلم الهدی قدس سره من القدماء ذهب:

إلی أنّه لیس لها مفهوم؛ مستشهداً بآیة الشهادة(2)، و أنّ التقیید بالرجلین لا مفهوم له؛ لنفوذ الشهادة مع انضمام امرأتین إلی رجل واحد أو یمین، و أنّ التقیید بالشرط أو الوصف فی جملتی الشرطیّة و الوصفیّة، إنّما هو لأجل فائدة اخری(3).


1- نفس المصدر 1: 266.
2- البقرة 1: 282.
3- الذریعة إلی اصول الشریعة 1: 406.

ص: 274

ص: 275

الفصل الأوّل فی دلالة الجملة الشرطیة علی الانتفاء عند الانتفاء

اشارة

هل الجملة الشرطیّة تدلّ علی انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط، کدلالتها علی ثبوته عند ثبوت الشرط أو لا؟

یُقرّر دلالتها علی ذلک بوجوه تبلغ سبعة:

الوجه الأوّل: ما نُسب إلی المتقدّمین: و هو أنّ الوجه فی دلالتها علی المفهوم- بل فی دلالة الوصفیّة أیضاً- هو استقرار بناء العقلاء علی أنّ القید الذی یأتی به المتکلّم العاقل الشاعر فی کلامه، إنّما هو لغرضٍ عقلائیّ بما أنّه فعل من أفعاله، و لیس لغواً، کسائر الأفعال الصادرة منه؛ حیث إنّ الأصل العقلائیّ مستقرّ علی عدم اللَّغْویّة، و أنّها لغرض عقلائیّ(1).

ثمّ إنّ هنا أصلٌ ثانویٌّ هو أنّ القید الذی یُقیَّد به الکلام إنّما هو لغرض التفهیم و التفهُّم، لا لأغراضٍ اخر.


1- نهایة الاصول 1: 270.

ص: 276

و هنا أصل ثالث أیضاً: و هو أصالة الحقیقة، أو الظهور عند الشکّ فی إرادة الحقیقة، أو إرادة ما هو ظاهر الکلام، فإنّ بناء العقلاء- أیضاً- علی ذلک.

فهذه اصول ثلاثة عقلائیّة مُتَّبعة فی مواردها.

و قد یقع الشکّ فی کلام المتکلّم- بعد العلم بإرادته الحقیقة أو الظهور- فی أنّ ما جعله موضوعاً للحکم کالرقبة المؤمنة فی قوله: «أعتق رقبةً مؤمنة»، هل هو تمام الموضوع، أو أنّه جزء الموضوع؛ و أنّ العدالة- أیضاً مثلًا- دخیلة فی موضوع الحکم؟

فلا تجری هنا أصالة الحقیقة أو أصالة الظهور؛ لمکان العلم بإرادتهما، بل هو مجری أصالة الإطلاق؛ لأنّه لا ریب فی أنّ المتکلّم إذا کان فی مقام البیان و کان للموضوع قید آخر له دَخْلٌ فی موضوع الحکم، لزم علیه البیان، و حیث إنّه لم یبیّن ذلک یستکشف منه أنّ تمام الموضوع للحکم هو الرقبة المؤمنة، و أنّه لا دخل لشی ء آخر فیه، و کذا لو قال: «إن جاءک زید فأکرمه» یُعلم منه أنّ تمام الموضوع للحکم هو مجی ء زید؛ للأصل العقلائیّ، و أنّه لا دَخْل لشی ءٍ آخر فی ترتُّب ذلک الحکم علیه؛ لأصالة الإطلاق، فیعلم منه أنّ تمام الموضوع هو مجی ء زید لا غیر، فإذا لم یتحقّق الموضوع- أی مجی ء زید- ینتفی وجوب الإکرام، و هو المطلوب و المقصود من أنّ انتفاء الشرط أو الوصف یستلزم انتفاء المشروط. هکذا ینبغی أن یُقرّر ذلک الوجه.

و أمّا تقریر بعض الأعاظم لذلک: بأنّ بناء العقلاء و الأصل العقلائی مستقرّ علی أنّ القید الذی یأتی به المتکلّم فی مقام البیان فی کلامه، دخیلٌ فی ترتُّب الحکم، فبانتفائه ینتفی الحکم(1)، فهو غیر تامّ ما لم ینضمّ إلیه أصل آخر عقلائیّ، و هو أصالة الإطلاق و عدم دخل شی ء آخر فی موضوعیّة ذلک الموضوع للحکم، کما ذکرناه مفصّلًا، فالأولی هو ما ذکرناه.


1- هذا جواب من السید المرتضی عن الاستدلال الأوّل، انظر الذریعة إلی اصول الشریعة 1: 402 و 406.

ص: 277

و أجاب عنه عَلم الهدی قدس سره بما حاصله بتقریبٍ منّا: بأنّ الاصول العقلائیّة المذکورة مُسلَّمة؛ لأنّه لا ریب فی أنّ القید الذی یأتی به المتکلّم- بما أنّه فعلٌ من الأفعال- له دَخْل فی الغرض، و أنّ الأصل عدم لَغْویّته، و لا ریب- أیضاً- فی أنّ أصالة الإطلاق مُحکّمة مُتّبعة فیما لو شُکّ فی دَخْل شی ء آخر فی ترتُّب ذلک الحکم علی موضوعه بلا إشکال، لکن لا یثبت بذلک انتفاء الحکم عند انتفاء ذلک القید من الشرط أو الوصف، کما هو المقصود من دلالة الشرطیّة أو الوصفیّة علی المفهوم؛ لأنّه یمکن أن ینوب موضوع آخر عمّا جُعل موضوعاً للحکم، و یخلفه، فیمکن أن یترتّب وجوب الإکرام علی مجی ء زید، و یترتّب- أیضاً- علی إکرامه إیّاک، و لا یُنافی ذلک صحّة قوله: «إن جاءک زید فأکرمه»، و لا یُنافی الاصول العقلائیّة المذکورة- أیضاً و کذلک لو قال: (إذا بلغ الماء قدر کُرٍّ لم یُنجِّسه شی ء)(1)، فإنّه یُعلم من ذلک أنّ الماء البالغ حدّ الکرّ فهو عاصم، لکن لا یدلّ علی عدم عاصمیّة الجاری أو ماء المطر، بل یحتاج فی دلالته علی ذلک إلی إثبات انحصار موضوعیّة ذلک الموضوع للحکم؛ بحیث لا ینوب عن ذلک موضوع آخر؛ أ لا تری أنّ قوله تعالی: «وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِیدَیْنِ مِنْ رِجالِکُمْ»(2) یمنع من قبول شهادة رجل واحد إلّا مع ضمّ شهادة رجل آخر إلیه، فانضمام الثانی إلی الأوّل شرط فی قبول الشهادة، ثمّ نعلم أنّ ضمّ امرأتین إلی الشاهد الأوّل یقوم مقام الثانی، ثمّ نعلم بدلیل آخر أنّ ضمّ الیمین یقوم مقامه أیضاً، فنیابة بعض الشروط عن بعضٍ أکثر من أن تُحصی(3).

الوجه الثانی: أنّ المتبادِر من القضیّة الشرطیّة و تعلیق الحکم علی الشرط،


1- مختلف الشیعة 1: 186.
2- البقرة: 282.
3- انظر الذریعة إلی أصول الشریعة 1: 406.

ص: 278

انتفاؤه عند انتفاء الشرط، و أنّه علّة منحصرة للجزاء(1).

الوجه الثالث: أنّ ذلک هو مقتضی انصراف القضیّة الشرطیة إلی العلّیة المنحصرة للشرط، و أنّ اللُّزوم المنصرف إلیه فیها هو أکمل أفراده؛ أی بنحو العلّیّة المنحصرة(2).

و الإنصاف: أنّ دعوی التبادر و الانصراف هنا مجازفة، فإنّه لیس مفاد الجملة الشرطیّة إلّا أنّ الجزاء و الحکم متحقّق عند تحقُّق الشرط، و أمّا عدم نیابة شرط آخر عنه ترتُّب الجزاء فلا یتبادر منها، و لا هی مُنصرفة إلی ذلک، بل و لم یثبت ترتُّب الجزاء علی الشرط، و لا العلّیّة أیضاً، فإنّ المُعتبر فی القضایا الشرطیّة هو وجود نحوٍ من العلاقة و الارتباط بین الشرط و الجزاء و لو بنحو الاتّفاق؛ لأنّه یجوز أن یقال: «لو جاء زید جاء معه غلامه»، مع عدم وجود العلّیّة بین مجیئهما، و کذلک یصحّ أن یقال:

«إن کان النهار موجوداً فالشمس طالعة»، مع أنّه لا یترتّب طلوع الشمس علی وجود النهار، بل الأمر بالعکس.

و بالجملة: لا یعتبر فی صحّة القضایا الشرطیّة ترتُّب الجزاء علی الشرط واقعاً، فضلًا عن أنّه بنحو العلّیّة، و فضلًا عن أنّه بنحو العلّیّة المنحصرة، بل یکفی وجود نحوٍ من العلاقة و الارتباط بینهما، فیصحّ أن یقال: (الماء إذا بلغ قدر کرّ لم یُنجِّسه شی ء)، مع أنّ الجاری و ماء المطر- أیضاً- کذلک، فلا یتبادر العلّیّة المنحصرة من الجملة الشرطیّة، و کذا الانصراف إلیها.

الوجه الرابع: التمسُّک بإطلاق أداة الشرط؛ بناءً علی جواز التمسُّک بالإطلاق فی الأداة، کما هو الحقّ من إمکان تقیید المعانی الحرفیّة؛ لما عرفت سابقاً من أنّ أکثر التقییدات إنّما هی للمعانی الحرفیّة، و حینئذٍ فیقال فی تقریر ذلک الوجه:

إنّه کما لو شُکّ فی واجب أنّه نفسیّ أو غیریّ، یُتمسّک فیه بالإطلاق لنفی


1- الفصول الغرویّة: 147 سطر 27.
2- قرّره فی نهایة الأفکار 1: 481.

ص: 279

الوجوب الغیریّ؛ لاحتیاجه إلی قید زائد علی إنشاء الوجوب، و هو أنّ وجوبه إنّما هو علی تقدیر وجوب شی ء آخر، بخلاف النفسی، فلو کان المتکلّم فی مقام البیان، و اقتصر علی إنشاء الوجوب حُمل علی أنّه نفسیّ للإطلاق؛ حیث إنّه لو کان غیریّاً لبیّنه، و حیث إنّه لم یُبیّن ذلک یستکشف منه أنّ المُنشأ هو الوجوب النفسیّ، فکذلک أداة الشرط، فإنّها موضوعة للدلالة علی اللُّزوم و الترتُّب بین الشرط و الجزاء، و هو کلّیّ له أفراد:

أحدها: الترتُّب بنحو العلّیّة المنحصرة.

ثانیها: الترتُّب بنحو العلّیّة الغیر المنحصرة.

ثالثها: الترتُّب بنحو العلّیّة الناقصة.

فلو کان المتکلِّم فی مقام بیان القضیّة الشرطیّة، و کان مراده من الترتُّب هو الترتُّب بأحد النحوین الأخیرین، لَبیَّنه؛ لاحتیاجهما إلی مئونة زائدة علی أصل الترتُّب، و هی بیان أنّ الشرط جزء العلّة للجزاء فی الأخیر، و بیان العِدل فی الثانی، کما أنّه لو شُکّ فی واجب أنّه تعیینیّ أو تخییریّ یُحکم بالإطلاق علی أنّه تعیینیّ؛ لاحتیاج التخییریّ إلی مئونة زائدة علی أصل الوجوب، و هو بیان العِدل، فکذلک فیما نحن فیه، و حیث إنّه لم یُبیِّن ذلک یحکم بالإطلاق علی أنّه بنحو العِلّیّة المنحصرة؛ لأنّها أخفّ مئونةً من غیرها.

أقول: أمّا التمسُّک بالإطلاق لإثبات الوجوب النفسی التعیینی عند الشکّ فیهما، فقد عرفت ما فیه، فإنّه لو فرض أنّ هیئة الأمر موضوعة لکلّیّ البعث أو الوجوب- کما زعموا- فکلٌّ من التعیینی و التخییری و کذلک النفسی و الغیری من أقسام ذلک الکلی، و یحتاج کلّ واحدٍ منها إلی قید زائد- و لو کان عدمیّاً- به یمتاز کلّ قسم من الآخر، و به یصیر قسماً للمقسم، کیف؟! و لو لا القید کان القسم عین المقسم، و هو محال، فکما أنّ الغیری هو الواجب لأجل الغیر، کذلک الواجب النفسی هو الواجب لنفسه،

ص: 280

و حینئذٍ فمقتضی القول بأنّ الهیئة موضوعة لکلّیّ الوجوب، هو حمل المطلق علی أصل الطبیعة؛ لأنّها أخفّ مئونةً من أفرادها و أقسامها من الوجوب النفسی و الغیری و نحوهما.

و أمّا تقبیح العقلاء عبداً ترک المأمور به؛ لاحتمال أنّه غیریّ، و احتمالِ عدم وجوب ذلک الغیر؛ حتّی یجب الإتیان به، أو لإتیانه شیئاً آخر یُحتمل أنّه عِدْل له، فهو لیس لأجل اقتضاء الإطلاق الوجوب النفسی التعیینی، بل لأنّه لا عذر مقبول للعبد فی ترکه المأمور به فی مقام المحاجّة و المخاصمة، و لا ربط لذلک بما نحن فیه.

و أمّا ثانیاً: سلّمنا أنّ مُقتضی الإطلاق هو الحمل علی النفسی و التعیینی، لکنّه ممنوع فیما نحن فیه؛ لأنّ الترتُّب بنحو العلّیّة المنحصرة و الربط بینهما لیس نحواً مغایراً لغیرها، و أنّ العلّیّة المنحصرة لیست أخفّ مئونةً من غیرها؛ لاحتیاج إرادة غیرها إلی بیان زائد بخلافها؛ حتّی تحمل الشرطیّة عند إطلاقها علی العلّیّة المنحصرة، بل هما سنخ واحد.

الوجه الخامس: التمسُّک لإثبات العلّیّة المنحصرة بإطلاق الشرط؛ بأن یقال: لو کانَ لشی ء آخر دَخْلٌ فی العِلّیّة، و أنّ الشرط للجزاء فی المثال هو مجی ء زید مع قید آخر، لَبیَّنه فی مقام البیان، و حیث إنّه لم یُبیِّن ذلک یُحمل علی أنّه علّة تامّة للجزاء، کما لو شُکّ فی الواجب أنّه نفسیّ أو غیریّ، و کذلک یُتمسّک بإطلاق الشرط لنفی علّیّة شی ء آخر للجزاء یقوم مقام الشرط، فحیث إنّه لم یُبیِّن ذلک یُحکم بأنّ الشرط علّة منحصرة، و أنّ العلّة فی المثال منحصرة بمجی ء زید، کما فی الشکّ فی التعیینی و التخییری(1).

و فیه: أنّ التمسُّک بالإطلاق لنفی علّیّة شی ء آخر للجزاء، و أنّ العلّیّة مُنحصرة فی الشرط، قد عرفت مفصّلًا أنّه غیر صحیح.

نعم؛ صحّ التمسُّک به لنفی دَخْل شی ء فی العلّیّة، و أنّ الشرط هو مجی ء زید فی


1- انظر نهایة الأفکار 1: 482.

ص: 281

المثال، و أنّه علّة تامّة.

الوجه السادس: التمسُّک بإطلاق الشرط لإثبات أنّه العلّة المنحصرة ببیان آخر: و هو أنّه لو کانت هناک علّة اخری للجزاء غیر مجی ء زید فی المثال فمع تقدّمها فی الوجود علی مجی ء زید الذی هو علّة للجزاء- أیضاً- فالمؤثّر هی العلّة الاولی لا الثانیة، و مع فرض تقارنهما فی الوجود فکلّ واحدة منهما جزء المؤثّر.

و حینئذٍ فلا یصحّ إطلاق القول: بأنّه «لو جاءک زید فأکرمه»- مثلًا- ظاهر فی أنّ المؤثّر التامّ فی وجوب الإکرام فعلًا هو مجی ء زید، و حیث إنّه أطلقه، و لم یبیِّن ذلک، کشف ذلک عن أنّ العلّیّة منحصرة بالمجی ء الذی هو الشرط، و أنّه لیس هناک علّة اخری تنوب منابه فی ترتُّب الجزاء.

و العجب من المحقّق صاحب الکفایة قدس سره أنّه ارتضی هذا الوجه، لکنّه اعتذر:

بأنّه نادر الوقوع(1)، مع أنّه غیر صحیح أیضاً؛ لوقوع خلط فی هذا البیان، و هو أنّ ما ذکره من البیان إنّما یصحّ فی الوجود الخارجی للعلّة، فإنّها مع سبق وجودها الخارجیّ فالمؤثّر هو، لا المسبوق فی الوجود، و مع تقارنهما فیه فالمؤثّر هما معاً، و أحدهما جزء المؤثّر، و لیس الکلام فی وجودها الخارجیّ، بل التمسُّک بالإطلاق إنّما هو فی مقام إنشاء الحکم و إیقاعه، و لا ارتباط له بالخارج، فلو قال فی مقام الإنشاء:

«إن جاء زید فأکرمه» فهو لا یُنافی ثبوت وجوب الإکرام بسبب شی ء آخر أیضاً، و لا یُنافی الإطلاق أیضاً.

الوجه السابع: التمسُّک لذلک بإطلاق الجزاء: ذهب إلیه المحقّق المیرزا النائینی قدس سره حیث إنّه بعد ردّه التمسُّک بإطلاق الشرط؛ لوجهین:

أحدهما: ما ذکره فی «الکفایة».

و الثانی: أنّ مقدّمات الحکمة إنّما تجری فی المجعولات الشرعیّة، و العلّیّة


1- کفایة الاصول: 233.

ص: 282

و السببیّة لیست کذلک، و إنّما المجعول المسبَّب علی تقدیر وجود السبب، فلا معنی للتمسُّک بإطلاق الشرط لإثبات العلّیّة المنحصرة.

قال رحمه الله: إنّ الشروط التی تتضمّنها القضیّة الشرطیّة: تارةً یمکن أن یُناط بها المجعول، و یتقیّد المحمول به فی عالم الجعل؛ بحیث لو لا التقیید و الإناطة الجعلیّة لما کان المحمول منوطاً بذلک الشرط.

و اخری لا یمکن جعل الإناطة، بل المجعول منوط بنفسه بالشرط تکویناً؛ بحیث لا یُعقل تحقُّقه بدون تحقُّق الشرط.

فعلی الوجه الثانی لا مفهوم للقضیّة؛ لأنّ القضیّة- حینئذٍ- مسوقة لبیان فرض وجود الموضوع، مثل: «إن رُزقتَ ولداً فاختنه» و «إن رکب الأمیر فخُذ رکابه»؛ حیث إنّه لا یُعقل خِتان الولد و أَخْذ رِکاب الأمیر، إلّا بعد تحقُّق الشرط، فالمجعول فی مثل هذا لا یمکن أن یُقیَّد بالشرط و یُناط به؛ إذ التقیید فرع إمکان الإطلاق، و المحمول الذی یتوقّف علی الشرط لا یمکن فیه الإطلاق، فهو بنفسه مقیَّد تکویناً، و هذا هو السرّ فی عدم المفهوم للقضیّة اللَّقَبیّة؛ من جهة أنّ الاشتراط الذی تتضمّنه اللقب لیس إلّا فرض وجود الموضوع، مثل قوله: «أکرم زیداً»، فإنّ معناه:

لو وجد زید وجب إکرامه، و الإکرام یتوقّف عقلًا علی وجود زید بدون التقیید به فی عالم الجعل و التشریع.

و علی الوجه الأوّل- کمجی ء زید و رکوبه و جلوسه- فلا بدّ أن یُقیَّد الجزاء بذلک فی عالم الجعل و التشریع، و معنی التقیید هو إناطة الجزاء بذلک الشرط، و مقتضی إناطته بذلک الشرط بالخصوص، هو دوران الجزاء مداره وجوداً و عدماً بمقتضی الإطلاق و مقدّمات الحکمة؛ حیث إنّه قیّد الجزاء بذلک الشرط بخصوصه، و لم یقیّده بشی ء آخر، لا علی نحو الاشتراک؛ بأن یُجعل شی ء آخر مُجامعاً لذلک الشرط قیداً للجزاء، و لا علی نحو الاستقلال؛ بأن یَجعل شیئاً آخر مُوجباً لترتُّب الجزاء علیه و لو

ص: 283

عند انفراده، و مقتضی ذلک هو دوران الجزاء مدار ما جعله شرطاً فی القضیّة؛ بحیث ینتفی عند انتفائه، و هو المقصود من تحقّق المفهوم للقضیّة، فمقدّمات الحکمة إنّما تجری فی ناحیة الجزاء، لا فی الشرط حتّی یرد علیه ما تقدّم من الإشکال، و هذا کإطلاق الوجوب فی اقتضائه النفسیّة العینیّة التعیینیّة، من غیر فرق بین المقامین(1). انتهی.

أقول: یظهر من کلامه قدس سره أنّ له فی المقام دعویین:

احداهما: أنّ مورد التمسُّک بالإطلاق هو المطلق المجعول لا غیر.

الثانیة: أنّه یمکن التمسُّک بإطلاق الجزاء لإثبات العلّیّة المنحصرة.

أمّا الاولی ففیها: أنّ غالب الموارد التی یُتمسَّک فیها بالإطلاق لیس مجعولًا شرعاً، منها ما إذا قیل: «إن أفطرتَ فأعتقْ رقبةً» فإنّهم یتمسّکون فیه بالإطلاق، مع أنّه لا یمکن التمسُّک فیه بإطلاق أداة الشرط؛ لأنّها من الحروف، و لا یصحّ التمسُّک بإطلاق المعانی الحرفیّة عنده قدس سره و کذلک لا یصحّ عنده قدس سره التمسُّک بإطلاق الشرط- أی الإفطار- کما صرّح هو به.

و أمّا کلمة «أعتق» فهیئتها- أیضاً- کذلک، لا یصحّ التمسُّک بالإطلاق فیها عنده؛ لأنّها من الحروف، و أمّا مادّتها فهی غیر مجعولة، فلا یصحّ التمسُّک بها عنده، فإنّ العتق فعل العبد، فینحصر تمسّکهم بالإطلاق فی القضیّة فی «الرقبة»، فلا إشکال فی أنّ موضوع الحکم فیها هو مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة، فیحکم فیها بالإطلاق لو فرض أنَّ المُتکلّم فی مقام البیان، مع أنّ الرقبة لیست من المجعولات الشرعیّة، و هکذا نظائر هذه القضیّة.

و أمّا الثانیة ففیها: أنّ ما ذکره فی بیان صحّة التمسُّک بإطلاق الجزاء، هو بعینه البیان الذی ذکروه فی صحّة التمسُّک بإطلاق الشرط، فیرد علیه ما اورد علیه سابقاً.

ثمّ إنّه استدلّ بعضهم للمفهوم: بأنّ ظاهر القضیّة الشرطیّة- فی مثل «إن


1- فوائد الاصول 2: 481- 483.

ص: 284

جاءک زید فأکرمه»- هو أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء، و أنّ المؤثّر هو خصوص المجی ء لا غیر؛ لأنّه لو کان هناک علّة اخری له سوی المجی ء، لکان المؤثّر هو الجامع بینهما؛ لأنّه لا یصدر الواحد إلّا من الواحد، و ظاهر القضیة خلاف ذلک(1).

و فیه: أنّ ذلک- أیضاً- لا یُفید المطلوب؛ أی انحصار العِلّیّة فی الشرط، و قد مرّ غیر مرّة أنّ قضیّة «لا یصدر الواحد إلّا من الواحد» غیر مربوطة بما نحن فیه و أمثاله.

و ینبغی التنبیه علی امور:

التنبیه الأوّل: فی حقیقة المفهوم

قال فی «الکفایة»: إنّ المفهوم هو انتفاء سنخ الحکم المُعلَّق علی الشرط عند انتفائه، لا انتفاء شخصه؛ ضرورة انتفائه عقلًا بانتفاء موضوعه و لو ببعض قیوده، و لا یتمشّی القول بأنّ للقضیّة الشرطیّة مفهوماً أو لا، إلّا فی مقامٍ یمکن ثبوت سنخ الحکم- أی الجزاء- و انتفاؤه عند انتفاء الشرط، فیقع البحث: فی أنّ لها دلالة علی الانتفاء عند الانتفاء، أو لا.

و من هنا ظهر: أنّه لیس من المفهوم و دلالة القضیّة علی الانتفاء عند الانتفاء ما توهّم فی الوصایا و الأوقاف و النذور و الأیمان(2)؛ لأنّ انتفاءها عن غیر ما هو المتعلَّق لها- من الأشخاص بألقابها أو بوصف شی ء أو بشرطه المذکورة فی العقد أو مثل العهد- لیس من دلالة الشرط أو الوصف أو اللقب علیه، بل لأجل أنّه إذا جُعل شی ءٌ وقفاً علی شخص أو اوصی به له أو نُذِر له .. إلی غیر ذلک، لا یمکن أن یصیر وقفاً علی غیره أو وصیّةً أو نذراً له، و انتفاء شخص الوقف أو النذر أو الوصیّة عن غیر مورد


1- نهایة الاصول 1: 269- 270.
2- تمهید القواعد( الملحق بکتاب الذکری): 14.

ص: 285

المتعلَّق- قد عرفت- أنّه عقلیّ مطلقاً؛ و لو قیل بعدم المفهوم فی مورد یصلح له.

ثمّ اورد علیه بما حاصله: أنّ الجزاء المعلَّق علی الشرط إنّما هو الحکم الحاصل بالإنشاء، فالجزاء فی مثل قوله: «إن جاءک زید فأکرمه» هو إیجاب الإکرام، و هو شخصیّ، فغایة قضیّتها هو انتفاء ذلک الحکم الخاصّ بإنشائه بانتفاء الشرط.

و أجاب عن ذلک بما حاصله: أنّ الإشکال إنّما یرد لو قلنا: إنّ الموضوع له فی الهیئات خاصّ، و أمّا بناءً علی ما حقّقناه من عموم الموضوع له فیها کوضعها، و أمّا الشخص و الخصوصیّات الناشئة من قِبَل استعمالها فیه لا تکاد تکون من خصوصیّات معناها المستعملة فیه، فلا یرد الإشکال المذکور؛ لأنّ الجزاء هو طبیعةُ إیجاب الإکرام فی المثال و کلِّیُّهُ، لا شخص خاصّ منه(1). انتهی ملخّص کلامه.

أقول: هذا الجواب مبنیّ علی ما ذکره من عموم الموضوع له فی الحروف، و أمّا بناءً علی أنّ الموضوع له فیها خاصّ- کما اخترناه- فلا یندفع الإشکال بما ذکره.

و التحقیق فی الجواب- بناءً علی ما اخترناه-: هو أنّه و إن کان المعلَّق علی الشرط فی المثال هو إیجاب الإکرام- الذی هو مدلول قوله: «فأکرمه» بحسب الظاهر- لکن لا إشکال فی أنّ المتبادِر من القضیّة الشرطیّة فی المثال عرفاً، هو أنّ المرتبط بالشرط هو طبیعة الإکرام، لا إیجاب الإکرام، فالمناسبة إنّما هی بین تحقُّق الشرط و تحقّق الجزاء، لا بین الشرط و الإیجاب، و إلّا فلِمَ لا یتعلّق إیجاب الصلاة مثلًا بالشرط المذکور، و لا بینه و بین إیجاب الإکرام معاً و ذلک واضح، و أمّا الإیجاب الذی هو مدلول الهیئة فهو آلة و وسیلة إلی بیان ذلک.

و الحاصل: أنّه بناءً علی ثبوت المفهوم للقضیّة الشرطیّة، و انحصار علّیّة الشرط فیها بذکر ما یدلّ علیها، و هو کلمة «إنْ» الشرطیّة، أنّ الآمر- حیث إنّه رأی أنّ بین طبیعة المجی ء و طبیعة الجزاء ارتباط و مناسبة- تعلّقت إرادته ببعث المکلّف الی


1- کفایة الاصول: 236- 237.

ص: 286

تحصیل الجزاء، و هو الإکرام عند تحقُّق الشرط؛ بإیجاب ذلک علیه عنده، و إلّا فلو لا المناسبة بینهما لزم الجزافُ فی الأمر بالجزاء، و إرادتُهُ بلا مناسبة و ملاک، فمنشأ الأمر و الإیجاب هو وجود تلک المناسبة بینهما، و هذا معنی أنّ الواجبات الشرعیّة ألطافٌ فی الواجبات العقلیّة(1)، و هذا الذی ذکرناه قد أشار إلیه الشیخ قدس سره فی «کتاب الطهارة»(2)، فلا یرد علیه- حینئذٍ- الإشکال المذکور.

التنبیه الثانی: فی تعدّد الشرط و اتّحاد الجزاء

إذا تعدّد الشرط و اتّحد الجزاء، مثل: «إذا خَفِی الأذان فقصِّرْ، و إذا خَفیت الجُدران فقصِّر»، فبناءً علی ظهور الجملة الشرطیّة فی المفهوم یقع التعارض بینهما، و البحث هنا فی مقامین:

المقام الأوّل: أنّ التعارض هل هو بین المنطوقین؛ حیث إنّه یدلّ کلّ واحد منهما علی الانحصار، فلا یمکن صدقهما معاً، أو بین مفهوم أحدهما و منطوق الآخر؛ لأنّ مفهوم قوله: «إذا خَفِی الأذان فقصِّر» بناءً علی إفادته الانحصار، أنّه إذا لم یخف فلا یجب أنْ یُقصِّرْ و إن خَفیت الجُدران، و یدلّ منطوق قوله: «إذا خَفِی الجُدران فقصِّرْ» علی أنّ خفاء الجُدران موجب للقصر، فالتعارض بین مفهوم الأوّل و منطوق الثانی.

فنقول: إنّ دلالة الشرطیّة علی المفهوم: إمّا بالوضع و أنّ أدوات الشرط موضوعة للعِلّیّة المُنحصرة، أو لانصرافها إلی العِلّیّة المُنحصرة، مع أنّها موضوعة للعِلّیّة التامّة، أو لاستفادة الانحصار من مقدّمات الحکمة و الإطلاق.

فعلی الأوّل یقع التعارض بین المنطوقین؛ لأنّ أصالة الحقیقة فی کلّ واحد منهما تُعارضها فی الآخر، و المفروض أنّه لا مُرجِّح لأحدهما علی الآخر، فیتساقطان.


1- کفایة الاصول: 414.
2- کتاب الطهارة: 49 سطر 29.

ص: 287

و کذلک علی الثانی؛ أی استفادة الانحصار من الانصراف، فإنّ الانصراف فی کلّ واحد منهما یُعارض الآخر، و حینئذٍ فإن قلنا: إنّ أدوات الشرط موضوعة للثبوت عند الثبوت، تبقی العلّیّة التامّة لکلّ واحد منهما، و یرفع الید عن الانحصار، و إلّا یصیر الکلام مجملًا، و المرجع- حینئذٍ- هو الاصول العملیّة.

و أمّا بناءً علی الثالث فالتعارض یقع بین أصلین عقلائیّین، و هما أصالة الإطلاق فی کلّ واحد منهما، و علی أیّ تقدیر: فلیس التعارض- حینئذٍ- بین مفهوم أحدهما و منطوق الآخر، بل بین المنطوقین.

المقام الثانی: فی بیان علاج التعارض: و لا بدّ فیه من التصرّف و رفع الید عن الظهور: إمّا بتخصیص مفهوم کلّ واحد منهما بمنطوق الآخر، و یحکم بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطین معاً، برفع الید عن المفهوم فیهما فالشرط هو خفاء أحدهما، أو بتقیید إطلاق الشرط فی کلّ واحد منهما، فالشرط- حینئذٍ- هو خفاء الأذان و الجُدران معاً، و امّا بجعل الشرط هو القدر الجامع المشترک بینهما. وجوه.

و التحقیق أن یقال: إنّه إن قلنا: إنّ أدوات الشرط موضوعة للعِلّیّة المُنحصرة، و إنّها المتبادِر منها، فأصالة الحقیقة فی کلّ واحد منهما معارِضة لها فی الآخر، فلا بدّ من رفع الید عنها فیهما، فیُرجع إلی الأصل العملیّ.

و أمّا رفع الید عن الانحصار فقط، و حمل کلّ واحد من الشرطین علی العِلّیّة التامّة؛ لأنّها أقرب المجازات للمعنی الحقیقی، و هو العِلّیّة المنحصرة. فغیر سدید؛ لأنّه یعتبر فی الحمل علی أقرب المجازات- بعد تعذُّر إرادة المعنی الحقیقی- أن تکون الأقربیّة إلیه بحسب انس الذهن الحاصل بکثرة الاستعمال، و العِلّیّة التامّة و إن کانت أقرب إلی العِلّیّة المنحصرة، لکن لیس لأجل انس الذهن؛ کی تحمل علیها.

و إن قلنا: إنّ الانحصار مستفاد من الانصراف إلی العِلّیّة المنحصرة یقع التعارض بین الانصرافین، فلا بدّ من رفع الید عن العِلّیّة المنحصرة، و حینئذٍ فإن قلنا:

ص: 288

إنّ أدوات الشرط موضوعة للثبوت عند الثبوت، تبقی العِلّیّة التامّة فی کلّ واحد منهما- أی من الشرطین- بحالها، و إلّا یقع الإجمال، و المرجع- حینئذٍ- الاصول العملیّة.

و إن قلنا: بأنّ الانحصار مستفاد من الإطلاق و مقدّمات الحکمة: فإن قلنا: إنّ أدوات الشرط موضوعة للعِلّیّة التامّة و أنّ التمسُّک بالإطلاق إنّما هو لإثبات الانحصار فقط، فلا بدّ من رفع الید عن الانحصار فقط مع بقاء العلّیّة التامّة لکلٍّ منهما؛ لأنّ التعارض- حینئذٍ- بین أصالتی الإطلاق فی کلّ واحد منهما؛ لأنّ قوله: «إذا خفی الجدران فقصّر» معناه: أنّ تمام الموضوع المنحصر لوجوب القصر هو خفاء الجدران، و قوله: «إذا خفی الأذان فقصّر» أیضاً معناه: أنّ تمام الموضوع المنحصر لوجوبه هو خفاء الأذان، فیقع التعارض بین الإطلاقین المستفاد منهما الانحصار.

و أمّا لو فرض استفادة العِلّیّة التامّة- أیضاً- من الإطلاق، فهنا احتمالان:

أحدهما: احتمال دخل الشرطین معاً فی الجزاء، و أنّهما معاً علّة واحدة، و کلّ واحد منهما جزء العلّة، فیدفع هذا الاحتمال بالتمسُّک بالإطلاق.

الثانی: احتمال عدم الانحصار- أی عدم کون خفاء الأذان علّة مُنحصرة، و احتُمل أن یکون له عِدْل ینوب عنه فی ترتُّب الجزاء علیه- فیندفع هذا الاحتمال- أیضاً- بالإطلاق، فیقع التعارض بین الإطلاقین، فیدور الأمر بین تقیید الإطلاق الأوّل و رفع الید عنه، و یلزمه رفع الید عن الإطلاق الثانی و الانحصار أیضاً؛ لأنّه لا معنی للانحصار مع عدم العلیّة التامّة، فرفع الید عن الانحصار إنّما هو لأجل رفع موضوعه، و هو العلّیّة التامّة، و بین تقیید الإطلاق الثانی و رفع الید عن الانحصار فقط مع بقاء العِلّیّة التامّة؛ للعلم الإجمالی بعدم إرادة أحد الإطلاقین و عدم إرادتهما معاً؛ لمکان التعارض بینهما، فیمکن أن یقال: بأنّ العلم الإجمالی ینحلّ: إلی العلم التفصیلی برفع الید عن الانحصار، و الشکِّ البدوی بالنسبة إلی تقیید الإطلاق الأوّل و رفع الید عن العلّیّة التامّة، فیُتمسّک فیه بالإطلاق.

ص: 289

و نظیر ذلک دوران الأمر بین تقیید الإطلاق و تخصیص العامّ لو اجتمعا و تعارضا، کما لو قال: «أکرم العلماء»، فإنّ «العلماء» عامّ فی أفراده، و الأفراد- أیضاً- کلّ واحد منها مطلق بالنسبة إلی حالاته، و عُلم من الخارج إجمالًا: إمّا بتقیید الإطلاق؛ بخروج زید عن هذا الحکم یوم الجمعة، و إمّا بتخصیص العامّ؛ بخروجه عن حکم العامّ رأساً، فیقال: إنّ هذا العلم الإجمالی ینحلّ: إلی العلم التفصیلی بتقیید الإطلاق المذکور، و عدم وجوب إکرام زید یوم الجمعة فقط، و الشکّ البدوی فی تخصیص العامّ بإخراج زیدٍ عنه رأساً، فیُتمسّک فیه بالعموم.

و کذلک فی دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر، فإنّه- بوجه بعید- نظیرُ ما نحن فیه، فإنّ العلم الإجمالی إمّا بوجوب الأقل أو الأکثر ینحلّ: إلی العلم التفصیلی بوجوب الأقل، و الشکّ البدوی فی وجوب الأکثر، فیُتمسّک فی نفی وجوب الأکثر بأصالة البراءة، و یُؤخذ بالأقلّ؛ لأنّه الواجب علی کلّ تقدیر.

و استشکل علیه فی «الکفایة»: بأنّ الانحلال المذکور مستلزم للدور؛ و ذلک لأنّ انحلاله موقوف علی وجوب الأقلّ علی کلّ تقدیر، و من التقادیر هو تقدیر وجوب الأکثر، و وجوبه موقوف علی بقاء العلم الإجمالی و عدم انحلاله، فانحلاله موقوف علی عدم انحلاله(1).

لکن علی فرض صحّة ما ذکره من لزوم الدور فی الأقلّ و الأکثر، لیس ما نحن فیه من هذا القبیل؛ لأنّه لیس المدّعی فیه انحلال العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی و الشکّ البدویّ، فإنّ مورد انحلاله هو ما إذا عُلم تفصیلًا ابتداءً و من الأوّل، و کان الإجمال بدْویّاً و فی بادی النظر، و أمّا فیما نحن فیه فالعلم الإجمالی باقٍ بحاله مع العلم التفصیلی أیضاً.


1- انظر کفایة الاصول: 413.

ص: 290

و السرّ فیه: أنّه لیس فیه انحلال إلیهما، بل یتولّد من العلم الإجمالی برفع الید عن أحد الإطلاقین، علمٌ تفصیلیّ برفع الید عن الإطلاق الثانی و الانحصار: إمّا برفعه بنفسه؛ و إمّا برفعه لرفع موضوعه؛ أی العلّیّة التامّة؛ لأنّه لا یعقل الانحصار مع عدم العِلِّیّة التامّة، و مقتضی بقاء العلم الإجمالیّ هو عدم جواز التمسُّک بأحد الإطلاقین، فیصیر مجملًا، فیرجع إلی الاصول العملیّة. هذا کلّه بالنسبة إلی ملاحظة کلّ واحد من المفهومین مع الآخر.

و أمّا بالنسبة إلی نفی الثالث؛ بأن احتُمل دخْلُ شی ء فی موضوع وجوب القصر، و أنّ الموضوع له مرکّب من جزءین، أحدهما خفاء الأذان، أو احتمل العِلّیّة التامّة لشی ء آخر، و أنّه عِدلٌ لخفاء الأذان- مثلًا- فی ترتُّب وجوب القصر علیه، فهل یصحّ التمسُّک بإطلاقهما لنفیه فی کلا الاحتمالین، أو لا؟

الحقّ هو التفصیل: و هو أنّه إن قلنا: إنّ أدوات الشرط موضوعة لغةً للعِلّیّة المنحصرة أو منصرفة إلیها، فلا یصحّ التمسُّک بإطلاقهما لنفی الثالث، سواء احتمل کونه جزء العلّة، أم علّة مُستقلّة؛ لأنّه بعد رفع الید عن ظهورهما بالتعارض رأساً بالعلم بالتقیید فی الجملة، لا یبقی ما به یُنفی الثالث، و لیس للظهور مراتب حتّی یبقی بعض مراتبه بعد رفع الید عن بعضها الآخر.

و إن قلنا: إنّ استفادة العِلّیّة المُنحصرة و المفهوم من الإطلاق و مقدّمات الحکمة، صحّ التمسُّک بإطلاقهما لنفی الثالث.

و إن علم بتقیید أحدهما إجمالًا کما فی سائر المطلقات، کما لو قال: «أعتق رقبة»، و علم باعتبار الإیمان فیها بدلیل خاصّ، و شکّ فی اعتبار وصف آخر، فإنّه یصحّ التمسّک بإطلاقها لنفی المشکوک اعتباره، و ما نحن فیه من هذا القبیل.

ص: 291

التنبیه الثالث: فی تداخل الأسباب و المسبَّبات

إذا تعدّد الشرط و اتّحد الجزاء، نحو: «إذا بلت فتوضّأ، و إذا نمت فتوضّأ»، فهل یتداخل فیه الأسباب أو المسبّبات أو لا؟ و لا بدّ فیه- أیضاً- من تقدیم امور:

الأمر الأوّل: محطّ البحث: هو ما إذا احرز أنّ کلّ واحد من الشرطین علّة تامّة للجزاء، و مستقلّ فی التأثیر علی فرض انفراده، فیقع البحث فیه فی التداخل، و أمّا إذا لم یُحرز ذلک، و احتُمل عدم استقلال کلّ واحد منهما فی التأثیر، و أنّ المؤثّر و العلّة التامّة هو مجموعهما، أو فرض احتمال الأعمّ من ذلک و ممّا إذا احرز أنّ کلّ واحد منهما علّة تامّة مستقلّة، فلیس هو محطّ البحث فی التداخل و عدمه.

الأمر الثانی: أنّ محلّ البحث: هو ما إذا کان الجزاء الواحد قابلًا للتکثُّر؛ لأجل أنّ الجزاء هو الطبیعة، و هی قابلة للتکثُّر فی أفرادها کالوضوء، أو لأجل أنّ المأخوذ فی الجزاء فی أحد الشرطین طبیعة من الوضوء، و فی الآخر طبیعة اخری منه بنحوٍ من أنحاء التغایر، بخلاف ما لیس کذلک کالقتل، فإنّه لیس محلَّ البحثِ و الکلامِ هنا.

و لا فرق- أیضاً- بین أن یکون الشرطان تحت طبیعة واحدة و من جنس واحد- کما لو قال: «إذا بلت فتوضّأ»، فبال المکلّف مرّتین- و بین اختلافهما فی الجنس و الطبیعة، کما لو قال: «إذا بلت فتوضّأ، و إذا نمت فتوضّأ».

الأمر الثالث: معنی تداخل الأسباب هو أنّ المؤثِّر فی المسبَّب هو مجموعها أو أحدها علی فرض انفراده، و معنی تداخل المسبَّبات هو أنّ المُقتضَی- بالفتح- واحدٌ، و أنّ لکلّ واحد من الشرطین أثراً مُستقلّاً، و مثّلوا لذلک بما لو قال: «أکرمْ عالماً، و أکرم هاشمیّاً» فأکرم هاشمیّاً عالماً(1)، فإنّه لا ریب فی أنّه امتثال لأمرین بإکرام واحد، لکن فی هذا المثال نظر؛ لأنّ مورد تداخُل المسبّبات هو بعنیه مورد تداخل الأسباب،


1- انظر کفایة الاصول: 240، و فوائد الاصول 2: 497.

ص: 292

و لکنّه علی فرض القول بعدم تداخل الأسباب قد یقال بتداخل المسبّبات، و قد عرفت أنّ محطّ البحث فی تداخل الأسباب: هو ما إذا اتّحد الجزاء لکلٍّ من الشرطین، و المثال لیس کذلک؛ لأنّ الإکرام المتعلِّق بالعالم غیر الإکرام المتعلِّق بالهاشمیّ، فتأمّل جیّداً.

الأمر الرابع: أنّ البحث فی التداخل و عدمه إنّما هو فی اقتضاء القواعد اللفظیّة اللُّغویّة ذلک، فلا بدّ أن یُفرض بعد الفراغ عن إمکانه عقلًا، و إلّا فلو امتنع التداخل أو عدمه عقلًا، لا تصل النوبة إلی البحث فی مقتضی القواعد اللُّغویّة و انّه ما ذا؟

فذهب بعضهم إلی امتناع عدم التداخل عقلًا؛ لأنّه لا ریب فی أنّه یمکن أن یقال: «إذا جاءک زید فأکرمه، و إذا أکرمک زید یجب علیک إکرامه مرّتین»، و کذا لو قال: «إذا نمت و بلت یجب علیک وضوءان»، و لکن لو قال: «إذا نمت یجب علیک الوضوء، و إذا بلت یجب علیک الوضوء»، فعلی فرض عدم تداخلهما، و وجوب الإتیان بالوضوء مرّتین، لا بدّ أن یُقیِّده بقیدٍ، و لا یصحّ ذلک إلّا أن یقول: «إذا بلت فتوضّأ، و إذا نمت توضّأ وضوءاً آخر» و هذا القید- أیضاً- إنّما یصحّ فیما لو تقدّم أحد الشرطین فی الوجود و الصدور من المکلّف دائماً، و تأخّر الآخر کذلک، و فیما نحن فیه لیس کذلک؛ فإنّه قد یوجد المتأخّر متقدِّماً و المتقدّم متأخّراً، فلا یصحّ التقیید بالآخر- أی بهذا اللفظ- أیضاً، و مع عدم تقیید أحد الجزاءین بقید، فلا یتعدّد الجزاء، فیتداخلان، فلا یمکن عدم التداخل، فلا تصل النوبة إلی الاستظهار من الأدلّة(1).

و فیه: أنّه یمکن التقیید بقیدٍ آخر غیر ما ذکره- أی قید «آخر»- لأنّه یمکن أن یقال: «إذا بلت فتوضّأ وضوءاً من قِبَل البول، و إذا نمت فتوضّأ وضوءاً من قِبَل النوم».

لا یقال: لا یجوز أن یُقیَّد المعلول بعلّته؛ لأنّه یلزم وقوعهما فی رتبة واحدة، و أن یکون المعلول فی رتبة العلّة.


1- نهایة الاصول 1: 278- 279.

ص: 293

لأنّه یقال: نعم تقیید المعلول بعلّته تکویناً و بذاته ممتنع للمحذور المذکور، و أمّا إذا لم یکن کذلک، بل قیّده المتکلّم بذلک، فلا یلزم المحذور المذکور.

مقتضی القواعد اللفظیّة
اشارة

و إذا عرفت إمکان التداخل و عدمه عقلًا، فلا بدّ من بیان مُقتضی القواعد اللفظیّة، و قد عرفت أنّ الشرطین: إمّا طبیعتان متغایرتان، مثل: «إذا بلت فتوضّأ، و إذا نمت فتوضّأ»، و إمّا فردان من طبیعة واحدة- کما لو بال المکلّف فی القضیّة الاولی- مرّتین.

أمّا المقام الأوّل:
اشارة

فقال العلّامة قدس سره علی ما حُکی عنه: إنّ کلّ واحد من الشرطین فی الأوّل: إمّا علّة تامّة مستقلّة فی التأثیر، أو لهما تأثیرٌ واحدٌ، أو لأحدهما المعیّن، أو الغیر المعیّن، و الأقسام کلّها باطلة، إلّا الأوّل(1).

فقال الشیخ قدس سره: إنّ مرجع ما ذکره إلی دعاوی ثلاثة:

أحدها: أنّ کلّ واحد من الشرطین مؤثّر.

و ثانیها: أنّ أثر الثانی غیر أثر الأوّل.

ثالثها: أنّ المُقتَضی لکلّ واحد منهما غیر المقتَضی للآخر.

ثمّ أطال الکلام فی کلّ واحد من هذه الدعاوی:

أمّا الاولی: فاستدلّ لعدم التداخل بمقتضی القواعد اللّفظیّة بوجوه(2) تبعه فی کلّ واحد منها بعض الأعاظم:

الأوّل: ما تبعه فیه فی «الکفایة»: و هو أنّه لا إشکال فی أنّ الشرط علّة


1- انظر مختلف الشیعة 2: 428- 429.
2- انظر مطارح الأنظار: 177 سطر 22.

ص: 294

مستقلّة للجزاء، و قضیّة ذلک تعدُّد الجزاء بتعدُّد الشرط، و مُقتضی إطلاق الجزاء و إن کان اتّحاده، و أنّه نفس الطبیعة فی کلّ واحد منهما، لکن ظهور الشرطیّة حاکم علی إطلاق الجزاء؛ لأنّه بیان، و الإطلاق إنّما هو فیما لیس فیه بیان، فمقتضی تعدُّد الشرط هو تعدُّد الجزاء، و یرفع الید عن إطلاق الجزاء، و أنّ الجزاء لکلّ واحد من الشرطین غیر الآخر(1).

الثانی: ما اختاره المیرزا النائینی قدس سره حیث قال ما حاصله: إنّ الأصل یقتضی عدم تداخل الأسباب و المسبّبات؛ لأنّ الأمر متعلّق بالجزاء، و مقتضاه هو إیجاد الطبیعة، و العقل حاکم بأنّ إیجاد الطبیعة یتحقّق بإیجاد فرد واحد منها، فکفایة الإتیان بالجزاء مرّة واحدة إنّما هو بحکم العقل؛ حیث إنّه اخِذ بنحو صِرف الوجود، لا أنّه مقتضی إطلاق الجزاء، لکن لو دلّ دلیل علی أن المطلوب متعدِّد لا یعارضه حکم العقل؛ لأنّ کلّ مطلوب یتحقّق امتثاله بفرد واحد، و هو لا یُنافی حکم العقل بتحقّق الطبیعة بإیجاد فرد منها، و أمّا أنّ المطلوب متعدّد أو لا، فلا حکم للعقل فیه، فلو دلّ ظاهر الشرطین علی تعدُّد المطلوب لم یُعارضه شی ء أصلًا(2).

و قال المحقّق الأصفهانی صاحب الحاشیة قدس سره ما یقرب من ذلک؛ حیث قال:

لا یخفی أنّ متعلَّق الجزاء نفس الماهیّة المهملة، و الوحدة و التکرار خارجان، فهی بالنسبة إلی الوحدة و التعدُّد لا اقتضاء، بخلاف أداة الشرط، فإنّها ظاهرة فی السببیّة المطلقة، و لا تعارض بین الاقتضاء اللااقتضاء، و لکن الماهیّة و إن کانت فی حدّ نفسها کذلک، إلّا أنّه لا بدّ للمتکلّم الحکیم أن یُلاحظها علی نهج الوحدة أو التعدُّد؛ أی أحدهما معیّناً؛ إذ لا یعقل تعلُّق حکم العقل بالمهمل، فهناک ظهوران متعارضان، خصوصاً إذا کان ظهور الأداة فی السببیّة المطلقة لا بالوضع.


1- کفایة الاصول: 240- 242.
2- فوائد الاصول 2: 493.

ص: 295

فالوجه للقول بعدم التداخل: أنّه إذا عُرضت القضیّتان علی العرف و العقلاء، یرون أنّ مقام الإثبات و مقام الثبوت مقترنان، و یحکمون بمقتضی تعدُّد السبب بتعدُّد متعلَّق الجزاء، من غیر التفاتٍ إلی أنّ مقتضی إطلاق المتعلّق خلافه، و هذا المقدار من الظهور العرفیّ کافٍ(1).

الثالث: ما أشار إلیه الشیخ الأعظم قدس سره و تبعه فیه المحقّق الهمدانی قدس سره فی «المصباح» فی باب الوضوء؛ حیث قال: مقتضی القواعد اللفظیّة هو سببیّة کلّ شرط للجزاء مستقلّاً، و مقتضاه تعدُّد اشتغال ذمّة المکلّف بتعدُّد سببه؛ لأنّ مقتضی إطلاق سببیّة کلّ شرط تنجُّزُ الجزاء عند حصوله، و مقتضی تنجُّز الجزاء عند کلّ سبب، حصولُ اشتغال ذمّة المکلّف بفعل الجزاء بعدد الخطابات المتوجّهة إلیه، فکأنّ المولی قال فی مثل «إن جاءک زید فأعطِهِ درهماً، و إن أکرمک فأعطِهِ درهماً»: «أعطِهِ درهمین» لأنّ إعطاء درهم واحد لا یعقل أن یکون امتثالًا لأمرین، إلّا إذا کان الثانی تأکیداً للأوّل؛ و لم یوجب اشتغال الذمّة، و هو باطل بعد فرض تأثیر السبب الثانی فی الفعل.

ثمّ أشار إلی أنّ العلل الشرعیّة کالعلل التکوینیّة، فکما أنّ لکلّ علّة تکوینیّة معلول خاصّ، فکذلک العلل التشریعیّة(2).

و استدلّ فی «الدرر»(3) بذلک؛ أی أنّ العلل الشرعیّة کالعلل التکوینیّة.

و هذه خلاصة الاستدلالات التی ذکرها الشیخ قدس سره.

أقول: لا بدّ من ملاحظة أنّ ظهور الجملة الشرطیّة فی حدوث الجزاء عند حصول الشرط- و دلالتها علی ذلک، کما فی «الکفایة»، أو ظهورها فی أنّ الشرط علّة مُستقلّة للجزاء، کما عبّر به الشیخ قدس سره هل هو بالوضع، أو بالإطلاق و مقدّمات الحکمة؟


1- نهایة الدرایة 1: 326.
2- مطارح الأنظار: 180 سطر 17، مصباح الفقیه( کتاب الطهارة): 126 سطر 5.
3- انظر درر الفوائد 1: 174 هامش رقم 1.

ص: 296

و الاستدلالات المذکورة مبنیّة علی الأوّل؛ أی أنّ الظهور المذکور بوضع الأداة لذلک، و حینئذٍ فظهور الجملة الشرطیّة حاکم علی ظهور إطلاق الجزاء.

لکن لیس کذلک، بل کما أنّه یُتمسَّک لوحدة الجزاء بالإطلاق و مقدّمات الحکمة- لا بحکم العقل بقبح العقاب بلا بیان و نحوه- کذلک ظهور الجملة الشرطیّة و دلالتها علی حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، إنّما هو بالإطلاق، و أنّ مقتضی الإطلاق فیها أنّ الشرط علّة مستقلّة للجزاء- سواء تقدّم علیه شرط آخر له، أم قارنه، أم تأخّر عنه- لا بالوضع، کما هو واضح.

و حینئذٍ فلو قال: «إذا بلت فتوضّأ» فلا تنافی بین إطلاقی الصدر و الذیل، و کذا لو قال: «إذا نمت فتوضّأ» لا تنافی بین إطلاقی صدرها و ذیلها، لکن بین الإطلاقات الأربع فی القضیّتین منافاة، و المعلوم إجمالًا هو رفع الید عن أحد الإطلاقین: إمّا إطلاق الشرط، أو إطلاق الجزاء، و لیس إطلاق الشرط حاکماً علی إطلاق الجزاء؛ لما عرفت من أنّ حکومة ظهور الشرط علی الظهور المستفاد من إطلاق الجزاء متوقّفة علی أن یکون استفادة ظهور الشرط من الوضع، و أنّ أدوات الشرط موضوعة للدلالة علی الحدوث عند الحدوث، و قد عرفت منعه، و جمیع الوجوه المذکورة مبنیّة علی ذلک.

و أمّا قیاس العلل الشرعیّة علی العلل التکوینیّة، و أنّه کما یقتضی کلّ واحد من العلل التکوینیّة معلولًا مستقلّاً واحداً، فکذلک العلل التشریعیّة.

فقد عرفت فساده غیر مرّة، و أنّه مع الفارق؛ لأنّ المعلول فی العلل التکوینیّة تابع لعلّته و لیس قبل المعلول تقدیر له، فالمعلول تمام حیثیّة العلّة، بخلاف العلّة التشریعیّة، فإنّه یتقدّر المعلول بقدرٍ معلوم أوّلًا، ثمّ یتعلّق به الإرادة، فالعلّة فیها تابعة للمعلول، فالآمر یُقدِّر المعلول أوّلًا: بأنّه نفس الطبیعة أو الطبیعة المقیَّدة بقید، ثمّ تتعلّق به إرادته.

ثمّ إنّه اعترف بعضهم: بأنّ ظهور الجملة الشرطیة فی الحدوث عند الحدوث،

ص: 297

إنّما هو بالإطلاق- أیضاً- کما فی الجزاء، کما ذکرناه، لکنّه مع ذلک قدّم إطلاق الشرط علی إطلاق الجزاء؛ من جهة حکم العقل: بأنّ العلّتین لا یمکن أن تُؤثِّرا فی واحد، فإطلاق الشرط- بضمیمة هذا الحکم العقلیّ- مقدَّم علی إطلاق الجزاء، و مقتضی ذلک هو عدم التداخل، و أنّ الجزاء فی کلّ واحدة من القضیّتین جزاء خاص(1).

و فیه: أوّلًا: أنّ الجمع الذی حکموا بأنّه أولی من الترجیح و الطرح، هو الجمع العرفیّ العقلائیّ، و قضیّة عدم تأثیر الاثنین فی واحد حکم عقلیّ مبنیّ علی برهان دقیق، کما بُیّن فی محلّه(2)، و لا یصحّ ابتناء الجمع العرفیّ العقلائیّ علی هذه المسألة الدقیقة العقلیّة.

و ثانیاً: لو أغمضنا عن ذلک لکن یمکن أن یُعکس الأمر؛ بأن یقال: إنّ إطلاق الجزاء- بضمیمة هذا الحکم العقلیّ- یرجَّح علی إطلاق الشرط و یُقدَّم علیه، و مُقتضی ذلک هو التداخل.

و الحاصل: أنّه لا بدّ من التخلّص عن مخالفة هذا الحکم العقلیّ، و لا یمکن مع بقاء إطلاق کلّ واحد من الشرط و الجزاء علی حاله، فلا بدّ من رفع الید عن أحد الإطلاقین- إطلاق الشرط، أو إطلاق الجزاء- و لا ترجیح لرفع الید عن الثانی، بل هما متساویان.

فالحقّ فی تقریر عدم التداخل هو ما اختاره صاحب الکفایة فی الحاشیة: و هو أنّ المتبادر فی التفاهم العرفیّ فیما إذا تعدّد الشرط و اتّحد الجزاء: أنّ کلّ واحد من الشرطین علّة تامّة للجزاء، و أنّ لکلّ واحد منهما جزاءً خاصّاً من دون التفات إلی أنّ ذلک منافٍ لإطلاق الجزاء(3): إمّا لأجل قیاسهم العلل التشریعیّة علی العلل


1- مصباح الفقیه 1: 126 سطر 19.
2- الأسفار 2: 209- 212.
3- انظر کفایة الاصول: 242 هامش 3.

ص: 298

التکوینیّة؛ حیث إنّه یترتّب علی کلّ واحد من العلل التکوینیّة معلول خاصّ، کالنار و الشمس للحرارة، فإنّ لکل واحدة منهما حرارة خاصّة، و قد عرفت سابقاً أنّ هذا القیاس فاسد لکنّه لا یضرّ فی کونه منشأً للمتفاهم العرفیّ.

و إمّا لأنّهم یرون أنّ بین العلّة و نفس المعلول ارتباطاً و مناسبة، و أنّ فی موت الهرّة- مثلًا- فی البئر و نزح عشر دِلاء مناسبة، و کذلک بین موت الفأرة و نزح عشرة، فیحکمون بنزح عشرین فی موتهما معاً فیه، فکذلک یرون أنّ بین کلّ واحد من النوم و البول مناسبة مع الوضوء، فیتعدّد وجوب النزح المقدَّر عند تعدُّد الشرط عندهم.

و علی أیّ تقدیر فالتفاهم العرفیّ فی ذلک کافٍ فی تقدیم ظهور الشرطیّة- فی تأثیر کلّ واحد منهما أثراً مستقلّاً- علی ظهور إطلاق الجزاء، أو لأظهریّتها منه.

لکن أورد علیه بعضهم: بأنّه لا ریب فی أنّ الأسباب الشرعیّة علل للأحکام المتعلّقة بأفعال المکلّفین، لا لنفس الأفعال؛ ضرورة لزوم الانفکاک علی تقدیر علّیّتها لها، لا لأحکامها، فتعدّدها لا یوجب تعدّد الفعل، و إنّما یوجب تعدُّد معلولها، و هو الوجوب، و تعدّده لا یدلّ علی وجوب إیجاد الفعل مکرّراً(1).

توضیح ذلک: أنّ هیئة الأمر- فی قوله: «توضّأ عند صدور البول»- موضوعة للبعث، الظاهر فی أنّه معلول لإرادة حتمیّة، ما لم ینضمّ إلیه قرینة دالّة علی أنّه عن إرادة غیر حتمیّة، و الوجوب مُستفاد من البعث المعلول عن إرادة حتمیّة، فلو قال بعد ذلک: «إذا نمت فتوضّأ» فهو- أیضاً- بعث معلول عن إرادة حتمیّة، لکن هذه الإرادة التی هی علّة لهذا البعث عین الإرادة التی هی علّة للبعث الأوّل، و مع ذلک هذا البعث غیر البعث الأوّل، و الوجوب المستفاد منه غیر الوجوب المستفاد من البعث الأوّل، لکنّه لا یوجب تعدُّد الوجوب، بل هو تأکید للأوّل، و لیس معنی التأکید أنّه مجاز، و لا أنّ الهیئة مستعملة فی التأکید، بل الهیئة مستعملة فی البعث إلی الوضوء مثل


1- انظر عوائد الأیّام: 101 سطر 24، و انظر أیضاً مطارح الأنظار: 179 سطر 32.

ص: 299

الأوّل، و منشؤهما إرادة حتمیّة، کما هو کذلک فی الأوامر العرفیّة، فإنّه قد یأمر المولی عبده بشی ء، و یُؤکّد أمره بأمر آخر و ثالث؛ لمکان أهمّیّة الغرض فی نظره، مع أنّ إرادته واحدة، و الثانی مع أنّه بعث آخر تأکید للأوّل، و لیس معناه أنّه عین الأوّل. و حینئذٍ فالأمر دائر بین رفع الید عن ظهور إطلاق الشرط المقتضی لتعدّد الجزاء و بین رفع الید عن إطلاق الجزاء المقتضی لوحدة الجزاء و رفع الید عن ظهور السیاق فی أنّ الثانی تأسیس المقتضی لتعدد الجزاء، و حیث إنّ ظهور السیاق أهون من الأوّلین، فالأولی رفع الید عنه بحمل الثانی علی التأکید لا التأسیس. هذا غایة ما ذکروه من الإشکال.

و اجیب عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره: و هو أنّ ظاهر القضیّة الشرطیّة فی القضیّتین هو أنّ کلّاً منهما علّة مُستقلّة لاشتغال ذمّة المکلّف، فالشرط الثانی- أیضاً- موجب لاشتغالٍ آخر غیر الاشتغال الحاصل من الأوّل؛ لوجود المقتضی و عدم المانع.

أمّا وجود المُقتضی فهو ظاهر؛ لأنّ المفروض أنّ کلّ واحد من الشرطین علّة مُستقلّة لوجوب الوضوء فی المثال.

و أمّا عدم المانع فلأنَّ المفروض أنَّ الجزاء قابل للتکثُّر، و مقتضی تعدُّد الاشتغال هو تعدُّد المشتغَل به- بالفتح- وجوداً و قد فُرض أنّ الشرط علّة للوجوب، و إنّما یصحّ أن یُجعل الثانی تأکیداً للأوّل لو کان بینهما تقدّم و تأخّر، و الشرطان بحسب الوجود الخارجی کذلک، فیوجد أحدهما بعد الآخر، لکن المناط هو التقدّم و التأخّر فی مقام الجعل و التشریع، و لیسا کذلک، فإنّ کلّ واحد من النوم و البول فی مقام الجعل و التشریع فی عَرْض واحد و فی رتبة واحدة، فلا یمکن أن یُجعل أحدهما تأکیداً للآخر.

ثمّ ذکر فی آخر کلامه: أنّه لو فرض أنّ أحد الشرطین علّة لجهة، و الآخر علّة لجهة اخری، متصادقین علی موضوع واحد، أمکن أن یُجعل أحدهما تأکیداً للآخر،

ص: 300

بخلاف ما لو کان الشرطان علّتین لعنوان واحد، و هو وجوب الوضوء، و ما نحن فیه من قبیل الثانی، لا الأوّل(1). انتهی.

أقول: أمّا ما ذکره: من أنّ الشرط الثانی علّة لاشتغال آخر فی الذمّة غیر الأوّل، فقد عرفت سابقاً ما فیه، فإنّه لا یوجب إلّا اشتغال ذمّته بوجوب الوضوء، و قد کانت الذمّة مشغولة به، فیقع الثانی تأکیداً للأوّل.

و أمّا ما أفاده: من أنّه لو فرض أنّ أحد الشرطین علّة لجهة غیر الجهة التی هی معلولة للآخر، و تصادقا علی موضوع واحد، أمکن أن یُجعل أحدهما تأکیداً للآخر، و لکن ما نحن فیه لیس کذلک.

فهو- أیضاً- کما تری، فإنّه علی فرض کون الجزاء لأحد الشرطین غیر ما للآخر، لم یمکن جعل أحدهما تأکیداً للآخر، فإنّه لو أفطر شخص فی صوم شهر رمضان بشرب الخمر، لارتکب محرّمین، و خالف تکلیفین، لا أنّه ارتکب حراماً مؤکّداً لتصادق العنوانین.

و أمّا ما ذکره: من أنّ الحمل علی التأکید إنّما یصحّ لو تقدّم أحد الشرطین علی الآخر فی مقام الجعل و التشریع، ففیه: أنّه لیس معنی التأکید: أنّ الثانی مستعمل فی مفهوم التأکید، بل معنی التأکید هو تکرار مطلب واحد و لو بغیر اللفظ، فلو قال لعبده:

«اخرج» و أشار بیده إلی الخروج، فهو تأکید لبعثه إلی الخروج؛ للفرق بینه و بین ما لو اقتصر علی قوله: «اخرج» بدون الإشارة إلیه بالید، فلو فرض إمکان بعثه إلی شی ء واحد باللفظ مرّتین، فالثانی تأکید للأوّل.

فما ذکره: من اعتبار عدم تقارن المؤکِّد و المؤکَّد، و اعتبار تقدُّم أحدهما علی الآخر فی الحمل علی التأکید، أیضاً غیر مُستقیم.

الوجه الثانی: ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره أیضاً: من أنّه یمکن أن یقال بالتزام


1- انظر مطارح الأنظار: 179- 180 السطر الأخیر.

ص: 301

أنّها أسباب لنفس الأفعال لا لأحکامها.

و الاشکال بلزوم الانفکاک یمکن أن یدفع: بالقول بأنّ الجنابة- مثلًا- سبب جعلیّ للغُسل، لا عقلیّ و لا عادیّ، و معنی السبب الجعلیّ هو أنّ لها نحو اقتضاء للغسل فی نظر الجاعل، علی وجهٍ لو انقدح ذلک فی نفوسنا نجزم بالسببیّة، و یکشف عن ذلک قول المولی لعبده: «إذا جاء زید من السفر فأضفه»، فإنّ للضیافة نحو ارتباط بالمجی ء من السفر، فالقول بأنّها لیست أسباباً لنفس الأفعال لا وجه له ... إلی أن قال:

لکن الإنصاف: أنّه- أیضاً- لا یفید، فإنّ معنی جعلیّة السبب لیس إلّا مطلوبیّة المسبَّب عند وجود السبب، و الارتباط المدّعی بین الشرط و الجزاء- من حیث إنّ الجزاء من الأفعال الاختیاریّة- معناه: أنّ الشرط منشأ لانتزاع أمر یصحّ جعله غایةً للفعل المذکور(1).

و أجاب المحقّق العراقی قدس سره أیضاً بهذا الجواب الذی ذکره(2) أوّلًا؛ غفلةً عن رجوعه عنه بما ذکره.

الوجه الثالث: الذی ذکره- أیضاً- بعد الغضّ عن الوجه الثانی، و حاصله: أنّ مقتضی تأثیر کلّ واحد من الشرطین مستقلّاً هو الوجوب المستقلّ، بعد فرض أنّها أسباب للأحکام المتعلِّقة بالأفعال، لا لنفس الأفعال، و إلّا فتأکّد الوجوب فی ظرف تکرار الشرط، یستلزم عدم استقلال الشرط فی التأثیر؛ لبداهة استناد الوجوب المتأکّد إلیهما، لا إلی کلّ واحد منهما، و حینئذٍ فمن المعلوم اقتضاء الوجوبین المستقلّین وجودین کذلک، و لازم ذلک- أیضاً- عدم التداخل(3). انتهی.

و الأولی فی وجه القول بعدم التداخل ما ذکرها: من أنّه المتبادر إلی الأذهان


1- مطارح الأنظار: 180 سطر 20.
2- مقالات الاصول 1: 142 سطر 2.
3- نفس المصدر سطر 10.

ص: 302

العرفیّة، و هو کافٍ فی إثباته.

هذا کلّه فی المقام الأوّل أی ما إذا تعدّد جنس الشرط.

و أمّا المقام الثانی:

- أی ما إذا اتّحد جنس الشرطین، کما لو قال: «إذا بلت فتوضّأ»، فبال المکلّف مرّتین-: فلْیُعلمْ أنّ محطّ البحث فی هذا القسم: هو ما إذا احرز أنّ الشرط هو الأفراد الخارجیّة للبول- مثلًا- لا جنس البول و طبیعته، و أنّ معنی «إذا بلت فتوضّأ»: أنّه متی بلت و صدر منک البول فی الخارج یجب علیک الوضوء، فیتفرّع علیه البحث فی تداخل الأسباب أو المسبّبات؛ إمّا لأجل انحلال القضیّة الشرطیّة إلی ذلک، کما هو مختار المحقّق المیرزا النائینی قدس سره(1) أو لغیر ذلک.

و أمّا لو فُرض أنّ المؤثّر و الشرط هی طبیعة البول- أو احتُمل ذلک- فلا تصل النوبة إلی هذا البحث؛ لأنّ السبب- حینئذٍ- واحد، هو طبیعة البول و إن تکرّر صدوره منه.

و فی الانحلال الذی ذکره المحقّق النائینی قدس سره منع و علی فرض کون الشرط هو الأفراد الخارجیّة، ففرقٌ بین هذا القسم و بین القسم الأوّل، فإنّه لا منافاة بین إطلاق الصدر و إطلاق الذیل فی کلّ واحدة من الشرطیّتین فی القسم الأوّل، و إنّما التنافی هو بین الإطلاقات الأربعة فی القضیّتین- کما تقدّم- بخلاف هذا القسم، فإنّ إطلاق الشرط یُنافی إطلاق الجزاء فی کلّ قضیّة شرطیّة فیه، و أنّ الصدر ظاهر فی أنّ کلّ واحد من الأفراد مؤثّر مستقلّ، و هو منافٍ لظهور وحدة الذیل- یعنی الجزاء- فیه، و لا إشکال فی حکومة ظهور الصدر علی ظهور الذیل؛ لأنّه أظهر عرفاً بلا إشکال، و یتفرّع علی ذلک القولُ بعدم التداخل. هذا کلّه فی تداخل الأسباب.


1- فوائد الاصول 2: 494.

ص: 303

و أمّا الکلام حول التداخل فی المسبّبات:

بعد فرض کون کلّ واحد من الشرطین مؤثّراً مستقلًا، و أنّ أثر کلٍّ منهما غیر أثر الأوّل، فهل یستلزم تعدُّدَ الجزاء- و تکرُّره بحسب العمل- حسب تعدُّد الشرط و تکرُّره، أو لا، بل یکفی إیجاد فرد واحد من الجزاء، الذی یعبَّر عنه بتداخل المسبَّبات؟

فقال الشیخ قدس سره: إنّ تداخل المسبَّبات- بمعنی کفایة إیجاد فرد واحد من الجزاء مع وجوب المتعدِّد علیه- ممتنع، بعد فرض أنّ کلّ واحد من الشرطین علّة تامّة، و أنّ معلول کلّ واحد منهما غیر معلول الآخر، فلا یمکن التعبُّد بدلیل خاصّ علی کفایته؛ لامتناعه، و علی فرض ورود دلیل خاصّ علیه، فلا بدّ إمّا من رفع الید عن الدعوی الاولی التی ذکرها العلّامة(1)؛ أی عن العلّیّة التامّة لکلّ واحد من الشرطین، و إمّا عن الثانیة؛ أی تغایر أثر کلّ واحد من الشرطین(2). انتهی محصّله.

أقول: فیه أنّه إن جُعل الجزاء هو الفردَ الخارجیّ، و أنّ البول- مثلًا- علّة تامّة لوجود فرد خارجیّ من الوضوء- مثلًا- و کذلک النوم، فما ذکره صحیح، لکن قد عرفت عدم تعلّق الأوامر و النواهی بالخارج؛ لامتناعه، و لا یلتزم به الشیخ قدس سره أیضاً.

و إن جُعل الجزاء عنواناً کلّیّاً، کالعنوان الکلی للوضوء فی قوله: «إذا بلت فتوضّأ»، غیر العنوان الکلی منه فی قوله: «إذا نمت فتوضّأ»، و التغایر بین العنوانین لا بدّ أن یکون بالقید، و القیود مختلفة، فإن قُیِّد أحدهما بقید مضادّ للآخر، و لم یمکن اجتماعهما فی مقام الثبوت و نفس الأمر کالسواد و البیاض، فالأمر کما ذکره قدس سره من امتناع تداخل المسبّبات، فلا یکفی الوضوء مرّة واحدة- فی المثال- فی امتثال الأمرین.


1- تقدّم تخریجه قریباً.
2- مطارح الأنظار: 180.

ص: 304

و إن قُیّد کلٌّ منهما بقید مُخالف للآخر، و یمکن اجتماعهما فی واحد، کالبیاض و الزنجیّ- مثلًا- فمقتضی القاعدة کفایة الإتیان بمجمع العنوانین فی امتثال الأمرین، بل احتمال ذلک کافٍ فی الحکم بإمکان تداخلهما؛ لأنّ الحکم بالامتناع یحتاج إلی إثبات أنّ بین القیدین تضادّ، و إلی دلیل و برهان علیه، و إلّا فمجرّد احتمال التضادّ بینهما لا یکفی فی الحکم بالامتناع. هذا فی مقام الثبوت.

و أمّا فی مقام الإثبات: فمقتضی القاعدة هو عدم تداخل المسبَّبات، و الحکم بالاشتغال و لزوم الإتیان بالجزاء مرّتین أو أزید حسب تعدُّد وجود الشرط، إلّا أن یدلّ دلیل علی کفایة الإتیان به مرّة واحدة، کما قیل فی الأغسال: إنّها کذلک، فمع عدم التداخل فی أسبابها تتداخل مسبّباتها(1).

خاتمة:

تعرّض بعضهم فی المقام إلی ما لا یخلو إیراده عن الفائدة فی الفقه و هو أنّه یعتبر فی المفهومِ القیودُ المأخوذة فی المنطوق فی جانب الموضوع و الحکم، فإذا قیل: «إن جاءک زید یوم الجمعة قبل الزوال فأکرمه بالضیافة»- مثلًا- فمفهومه انتفاء سنخ هذا الحکم إذا لم یجی ء یوم الجمعة قبل الزوال، فبانتفاء أیّ قید منها ینتفی الحکم(2)، و هذا ممّا لا إشکال فیه.

و کذا لا إشکال فیما لو قُیّد بالکلّ المجموعی فإنّ مفهوم قوله: «إذا جاءک زید فأکرم مجموع العلماء»، هو انتفاء وجوب إکرام مجموعهم عند انتفاء مجی ء زید.

و إنّما الإشکال فیما لو قُیِّد بالکلّ الاستغراقیّ، کما لو قیل: «إن جاءک زید فأکرم


1- مطارح الأنظار: 180- 181.
2- درر الفوائد: 197، و فوائد الاصول 2: 485، و مقالات الاصول 1: 139- 140 سطر 13.

ص: 305

کلّ العلماء»، و مثل قوله علیه السلام: «إذا بلغ الماءُ قدرَ کُرٍّ لم یُنجِّسه شی ء»(1)؛ لأنّ النکرة فی سیاق النفی تُفید العموم، فاختلفوا فی أنّه هل یعتبر هذا القید فی المفهوم أیضاً، و أنّ المفهوم فی المثال الأوّل: «أنّه إذا لم یجئکَ زید فلا یجب إکرام کلّ العلماء»؛ بنحو عموم السلب، و فی المثال الثانی: «إذا لم یبلغ الماء قدر کُرّ ینجِّسه کلّ واحد من النجاسات»، أو أنّه لا یُعتبر هذا القید فی جانب المفهوم، فالمفهوم فی المثال الأوّل: «لا یجب إکرام جمیع العلماء»؛ بنحو سلب العموم، و فی المثال الثانی: «ینجِّسه شی ء»، کما اختاره المحقّق صاحب الحاشیة علی «المعالم»(2) و جمع آخر(3)؟ قولان.

قال الشیخ الأعظم قدس سره ما حاصله: إنّه إن اخذ «شی ء» فی «لم ینجِّسه شی ء» بنحو الآلیّة و المرآتیّة لعناوین النجاسات الواقعیّة، فکأنّه قال: «لم ینجّسه الدم و المیتة ...» إلخ، فیعتبر هذا فی المفهوم أیضاً، فالمفهوم- حینئذٍ-: «إذا لم یبلغ الماء قدر کُرٍّ ینجّسه کلّ واحد من النجاسات»، و إن اخذ بنحو الاستقلالیّة- أی المنظور فیه لا به- فالحقّ هو ما اختاره صاحب الحاشیة علی «المعالم»: من عدم اعتبار هذا القید فی جانب المفهوم.

و لکنّه قدس سره استظهر الأوّل، ثمّ قال: و أمّا ما ذکره المنطقیّون من أنّ نقیض الموجبة الکلّیّة سالبة جزئیّة، فإنّما هو بلحاظ أنّهم أخذوا لازم القضایا و القدر المتیقَّن من نقائضها، المطّرد فی جمیع الموارد، و إلّا فالظاهر من اللفظ أنّ نقیض الکلّیة هی الکلّیة، فلا ینافی ما استظهرناه. انتهی ملخّص کلامه قدس سره(4).

أقول: و فیه: أوّلًا: أنّ الشی ء فی الروایة اخذ بنحو الاستقلالیّة، لا الآلیّة


1- مختلف الشیعة 1: 186.
2- هدایة المسترشدین: 291 سطر 33.
3- نهایة الاصول 1: 280.
4- مطارح الأنظار: 174 سطر 22.

ص: 306

و المرآتیّة لعناوین النجاسات، کما هو المتبادِر منها عرفاً، لکن من المعلوم أنّ المراد منه هو أحد النجاسات، لا بنحوٍ اخذ قیداً مقدَّراً فی الکلام، بل هو کنایة عنها.

و ثانیاً: سلّمنا أنّه اخذ بنحو المرآتیّة لعناوین النجاسات، لکن لیس مفهوم السالبة موجبة؛ لیصیر مفهوم ذلک: «إذا لم یبلغ قدر کرّ ینجِّسه شی ء»، بل المفهوم- کما صرّحوا به- انتفاء سنخ الحکم الثابت عند ثبوت الشرط، فمفهومه: «الماء إذا لم یبلغ قدر کُرٍّ لیس هو بأن لا ینجّسه کلّ شی ء» علی فرض اعتبار القید فی ظرف المفهوم، کما استظهره قدس سره غایة الأمر أنّه یلزمه قضیّة موجبة: و هی «أنّه إذا لم یبلغ قدر کُرٍّ یُنجِّسه شی ء».

و بعبارة اخری: مفهوم «إذا بلغ الماء قدر کرّ لا ینجّسه کلّ واحد من النجاسات من الدم و المیتة و غیرهما»-: هو أنّه «إذا لم یبلغ قدر کرّ فهو لیس بحیث لا ینجّسه کلّ واحد من الدم و المیتة و غیرهما»، و لازمه العقلیّ هو تنجُّسه بشی ء من المذکورات بنحو الإهمال و الإجمال، و حینئذٍ فالقول: بأنّ المفهوم للقضیّة هو نقیضها، غیرُ صحیح؛ لما عرفت من أنّ المفهوم انتفاء سنخ الحکم الثابت فی المنطوق علی تقدیر ثبوت الشرط؛ سواء کانت القضیّة موجبة أم سالبة، فمفهوم السالبة سلب السلب، و هو غیر الإیجاب، کما عرفت.

ص: 307

الفصل الثانی فی مفهوم الوصف

اشارة

و أنّه هل للوصف مفهوم؛ بحیث یُعارض التصریح بخلافه، أو لا؟

و لنقدّم أمرین:

الأمر الأوّل:

أنّ محطّ البحث فی مفهوم الوصف أعمّ من المعتمِد علی الموصوف- مثل: «أکرم الإنسان العالم»- و غیره؛ بأن یذکر الوصف و الموصوف بلفظ واحد؛ مثل: «أکرم العالم».

و توهّم: أنّ محطّ البحث هو القسم الأوّل فقط، و أنّه لو کان الغیرُ المعتمِد- أیضاً- محلَّ البحث، و أنّ لقولنا: «أکرم العالم»- أیضاً- مفهوم، للزم أن یکون مفهوم اللقب- أیضاً- محلّ الکلام، و لَزِم ثبوت المفهوم له- أیضاً- و أنّ مفهوم «أکرم الإنسان» هو عدم وجوب إکرام الحیوان، مع أنّه کما تری(1).

مدفوع: بأنّه إن ارید أنّ القسم الثانی لیس محلَّ الکلام و محطَّ بحث الاصولیّین


1- فوائد الاصول 2: 501.

ص: 308

و نزاعهم، فهو واضح الفساد؛ ضرورة وقوع البحث بینهم فیه، و صرّح الشیخ قدس سره فی التقریرات(1) و صاحب الفصول(2) 0 بذلک.

مضافاً إلی أنّ منشأ وقوع النزاع هو من هذا القبیل حیث فَهِم أبو عبیدة(3) من قوله علیه السلام:

(لَیُّ الواجِدِ یُحلّ عرضه و عقوبته)

(4) و

(مَطْل الغنیّ ظلم)

(5) أنّ لَیّ غیر الواجد لا یُحِلّ عقوبته، و مطل غیر الغنیّ لیس بظلم، مع أنّ الواجد و الغنیّ وصفان غیر معتمدین علی الموصوف فی الروایة.

و إن ارید أنّه لا ینبغی البحث فیه فله وجه.

و أمّا قوله: و إلّا یلزم أن یقع مفهوم اللقب- أیضاً- مورداً للبحث، ففیه: أنّ مفهوم اللقب- أیضاً- محلّ للبحث، غایة الأمر أنّه بحث ضعیف.

و بالجملة: لا إشکال فی أنّ البحث یعمّ القسمین.

الأمر الثانی:

إنّ الوصف و الموصوف: إمّا متساویان، کالإنسان الضاحک، أو الوصف أعمّ مطلقاً من الموصوف، کالإنسان الماشی، أو بالعکس، کالإنسان العالم، أو بینهما عموم من وجه، فهل یعمّ البحث جمیع الأقسام، أو لا؟

الظاهر أنّ محلّ البحث هو ما إذا کان الموصوف أعمَّ مطلقاً من الوصف، أو أعمّ من وجه، لکن فی خصوص مادّة افتراق الموصوف عن الصفة لا غیر؛ لأنّه یشترط فی باب المفهوم إحراز وجود الموضوع- الذی جعل موضوعاً فی المنطوق مع الوصف-


1- مطارح الأنظار: 182 سطر 11.
2- الفصول الغرویة: 151 سطر 35.
3- ذکره فی القوانین 1 فی ضمن حجّة المثبتین: 178 سطر 12، و نسب هذا القول فی شرح العضدی إلی أبی عبید: 311.
4- مسند أحمد بن حنبل: 222، سنن ابن ماجة 2: 811 ح 2427، سنن النسائی 7: 316.
5- سنن النسائی 7: 317، صحیح مسلم 3: 383 ح 33.

ص: 309

عاریاً عن الوصف فی جانب المفهوم، و هذا إنّما یتحقّق فی القسمین المذکورین.

و بعبارة اخری: المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحکم الثابت لموضوعٍ موصوفٍ بصفة عن نفس هذا الموضوع بعینه بدون الصفة، و لا یتحقّق ذلک فیما إذا کان الوصفُ أعمَّ من موصوفه و فی مادّة افتراق الصفة عن الموصوف فی العامّین من وجه و کذا فی المتساویین؛ لعدم احراز الموضوع مع انتفاء الصفة فیها؛ حتّی یحکم بانتفاء سنخ الحکم عنه، و انتفاء سنخ الحکم عن موضوع آخر لیس من باب مفهوم الوصف، و تعلیق الحکم علی موضوع موصوف بصفة لا یدلّ علی انتفائه عن موضوع آخر.

و أمّا ما ذکره بعض الشافعیّة: من أنّ قوله علیه السلام:

(فی الغنم السائمة زکاة)

(1)، یدلّ علی وجوب الزکاة فی الإبل المعلوفة(2)، فیمکن أن یقال: إنّ ذلک لأجل قیام قرینة خارجیّة علیه، مضافاً إلی أنّه غلط و فاسد قطعاً لو أراد أنّ تلک الدلالة من جهة المفهوم.

و کذلک ما ذکره صاحب الکفایة قدس سره من أنّه علی فرض استفادة العِلّیّة المنحصرة للوصف یشمل النزاع المتساویین(3) أیضاً، و الظاهر أنّه سهوٌ من قلمه الشریف، فإنّه لا یتوهّم أحد أنّ مثل: «أکرم الإنسان الضاحک» یدلّ بحسب المفهوم علی جعل حکم سلبیّ علی موضوع آخر، کالحیوان الغیر الضاحک.

دلیل ثبوت مفهوم الوصف

إذا عرفت ذلک فنقول: مقتضی ما ذکروه فی مفهوم الشرط- من أنّ قضیّة إطلاق الشرط أو الجزاء هو أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء- هو ثبوت المفهوم


1- عوالی اللآلی 1: 399 ح 50.
2- المنخول للغزالی: 222.
3- کفایة الاصول: 245.

ص: 310

للوصف- أیضاً- لإمکان أن یقال فیه: إنّ مقتضی إطلاق الموضوع ک «الإنسان العالم» فی «أکرم الإنسان العالم»، هو أنّه تمام الموضوع لوجوب الإکرام، فلو کان لقیدٍ آخر دخلًا فی ثبوت الحکم لزم علیه البیان، و حیث إنّه لم یبیِّن یُعلم أنّه تمام الموضوع له.

ثمّ إنّه یستفاد من الإطلاق أمر آخر أیضاً: و هو أنّه لا عِدْل لذلک الموضوع ینوب منابه فی ترتُّب ذلک الحکم علیه، و إلّا لزم علیه البیان، و حیث إنّه لم یُبیِّنه یُعلم أنّ الموضوع لذلک الحکم منحصر بذلک، فیفید سلبَ سِنْخ هذا الحکم عن الموصوف بدون الصفة، کالإنسان الجاهل فی المثال.

لکن فیه: أنّک قد عرفت أنّ ما ذکروه- من أنّ مقتضی الإطلاق هو أنّه تمام الموضوع- مُسلّم، و أمّا استفادة الانحصار من الإطلاق فهی ممنوعة؛ لأنّ ثبوت الحکم للموصوف بهذه الصفة، مع انتفاء الصفة و طُروّ وصف آخر علیه، لا یُنافی الإطلاق، کما مرّ تفصیله.

و استدلّ بعضهم لإثبات مفهوم الوصف: بأنّ الأصل فی القید أن یکون احترازیاً، و مقتضی ذلک هو ثبوت المفهوم له، و أنّ الظاهر أنّ لعنوان الوصف بخصوصه دَخْلًا فی ثبوت الحکم، و عدمُ وصفٍ آخر ینوب منابه فیه، و إلّا یلزم أن یصدر الواحد من اثنین، و لا یصدر الواحد إلّا من الواحد، و القول بأنّ الجامع بین الوصفین هو المؤثّر خلاف ظاهر الکلام؛ حیث إنّ الظاهر أنّ الوصف بعنوانه الخاصّ ممّا یترتّب علیه الحکم(1). انتهی.

و فیه: أوّلًا: أنّه لیس فیما نحن فیه صدور و صادر، و لیس الحکم صادراً من الموضوع؛ کی یقال: الواحد لا یصدر إلّا من الواحد، مضافاً إلی أنّ القاعدة إنّما هی فی موارد خاصّة، لا کلّ مورد فیه صدور و صادر، کما مرّ مراراً.

و ثانیاً: لو أغمضنا عن ذلک لکن القاعدة المذکورة عقلیّة، و البحث فیما نحن فیه


1- انظر نهایة الدرایة 1: 330 سطر 10.

ص: 311

عرفیّ، و المرجع فیه العرف و العقلاء، لا العقل.

ثمّ إنّ معنی احترازیّة القید: هو أنّ له دَخْلًا فی الحکم، فی قبال التوضیحیّ منه الذی لیس له دخل فیه، و لیس معناها أنّه لا یخلفه قید آخر فی ترتُّب الحکم علیه.

و أمّا دعوی التبادر أو الانصراف فی باب مفهوم الوصف فالإنصاف أنّها جزافیّة، و أمّا فهم أبو عبیدة(1) من قوله علیه السلام: (لَیُّ الواجد یُحِلّ عقوبته)(2) و نحوه، فیمکن استفادته من قرینة حالیّة أو مقالیّة، مضافاً إلی أنّ فهمه لیس حُجّة علینا، فإنّا لا نفهم ذلک فی عرفنا و لساننا، و لا یمکن الاختلاف فی ذلک بین الألسنة.

و أمّا توهّم بعضهم: أنّ حمل المطلق علی المقیّد فی المثبتین- مثل: «أعتق رقبة» و «أعتق رقبة مؤمنة»- إنّما هو لأجل مفهوم الوصف(3).

ففیه: أنّه سیجی ء- إن شاء اللَّه- فی باب المطلق و المقیّد: أنّه لیس کذلک، بل هو لأجل أنّه جمع عرفیّ بینهما، و أنّ العرف و العقلاء یفهمون منه أنّ المراد من المطلق هو المقیّد، و لم یُرد غیره، کما فی «الکفایة»(4).


1- تقدّم تخریجه.
2- تقدّم تخریجه.
3- نسبه الی البهائی فی مطارح الأنظار: 183 سطر 2.
4- کفایة الاصول: 244.

ص: 312

ص: 313

الفصل الثالث فی مفهوم الغایة

اشارة

هل الحکم المُغیّا بغایة یدلّ علی انتفائه عمّا بعد الغایة، بناءً علی دخول الغایة فی المغیّا، أو عنها و ما بعدها؛ بناءً علی خروجها؛ بحیث یعارض ما لو صرّح بثبوت الحکم لما بعدها أو لا؟ فیه خلاف(1).

و الحقّ هو التفصیل- کما اختاره کثیر(2) منهم- بأنّه لو جعلت الغایة قیداً للموضوع- بأن لاحظ الآمر الموضوع مقیّداً بغایة، کالسیر المقیّد إلی الکوفة، و علّق علیه الحکم- فلا مفهوم لها، و لا تدلّ- حینئذٍ- علی انتفاء سِنْخ الحکم عمّا بعدها، حتّی أنّه لو صرّح بثبوته لما بعدها لم یناقض الحکم الأوّل، فهو مثل مفهوم الوصف.

بل ذکر الشیخ الأعظم قدس سره: أنّه لیس المراد بالوصف النعت الاصطلاحی، بل یشمل مثل الحال و التمییز(3)، فتشمل الصفةُ بهذا المعنی الغایة التی اخذت قیداً للموضوع، فإذا لم یکن للوصف مفهوم فالغایة کذلک أیضاً، بل مفهوم الغایة أضعف


1- مطارح الأنظار: 185- 186 سطر 33.
2- کفایة الاصول: 246، درر الفوائد: 204.
3- انظر مطارح الأنظار: 168.

ص: 314

من مفهوم الوصف.

و إن کانت الغایة غایة للحکم فتدلّ علی انتفاء سنخ الحکم عمّا بعد الغایة؛ بحیث لو صرّح بثبوته لما بعدها لناقضها.

و قد ذکروا لبیان ذلک تقریبات، أوجهها ما ذکره فی «الدرر»، و حاصله: أنّه قد ثبت فی محلّه: أنّ الهیئة فی الأوامر موضوعة للطلب الحقیقی و طبیعة الطلب، و المفروض أنّه قُیِّد الطلب الحقیقی بغایة معیّنة، مثل: «اجلس إلی الظهر»، فحقیقة وجوب الجلوس إنّما هی إلی الظهر، و یلزم ذلک انتفاء الوجوب بعد الظهر، و إلّا یلزم عدم ما جعل غایة بغایة(1).

لکنّه قدس سره عدل عن ذلک فی أواخر عمره الشریف، و قال ما حاصله: إنّ ما ذکرناه من البیان لإثبات مفهوم الغایة لا یفی لإثباته؛ لأنّه لا ریب فی أنّ لکلّ حکم علّةً و سبباً یمتنع الحکم بدونه، فإنْ فُرض أنّ وجوب الجلوس إلی الظهر معلول لعلّة مُنحصرة له دلّ ذلک علی المفهوم، و أمّا إذا فُرض أنّها لیست بمنحصرة فلا تدلّ علیه؛ و ذلک لأنّ المعلول لکلّ علّة لا مطلقٌ بالنسبة إلی العلّة، و لا مقیَّد بها، لکن له ضیق ذاتیّ بها، و لا یمکن أن یکون أوسع من علّته و بالعکس.

و بالجملة: لا بدّ فی ثبوت المفهوم للغایة من إحراز أنّ علّة الحکم منحصرة، و أمّا بدونه فلا مفهوم(2) لها، انتهی.

أقول: لو سلّمنا: أنّ هیئة الأمر موضوعة لحقیقة الطلب و طبیعته، فالحقّ هو ما ذکره أوّلًا من ثبوت المفهوم للغایة؛ لأنّه لا ریب فی أنّ الحکم المُغیّا بغایة، ظاهر عرفاً فی انتفائه عمّا بعدها، و هذا الظهور العرفیّ ممّا لا ریب فیه، و حینئذٍ فإن قلنا: إنّ الأحکام الشرعیّة مُسبَّبات عن أسباب و علل موجبة لها، و أنّ العرف و العقلاء


1- درر الفوائد: 204.
2- الظاهر أنه مستفاد من مجلس بحثه الشریف.

ص: 315

- أیضاً- یُدرکون ذلک کشف هذا الظهور عن أنّ العلّة منحصرة.

و إن قلنا: إنّهم لا یُدرکون ذلک فلا مصادم لهذا الظهور أیضاً. و علی أیّ تقدیر فالظهور العرفی باقٍ بحاله، و لا مصادم له، و هو کافٍ فی المقام.

و کأنّه قدس سره زعم أنّ المفهوم فی باب الغایة مثل المفهوم للشرط؛ فی أنّه ناشٍ عن العِلّیّة المُنحصرة للشرط أو الموضوع، لکن لیس کذلک، فإنّ استفادة العِلّیّة المُنحصرة و المفهوم من الشرطیّة، إنّما هو لأجل أنّها موضوعة لذلک، أو لاقتضاء الإطلاق لهما، بخلاف ما نحن فیه، فإنّ استفادة المفهوم إنّما هی لأجل الظهور العرفی فی ذلک.

هذا لو قلنا بأنّ هیئات الأوامر موضوعة لحقیقة الطلب، لکنّه ممنوع؛ لما عرفت فی المعانی الحرفیة [من] أنّها جزئیّة دائماً، و أنّ هیئات الأوامر موضوعة لإیقاع البعث و إیجاده، کما أنّ أحرف النداء موضوعة لإیقاع النداء و إیجاده، فهی موضوعة لمعنیً جزئیّ؛ أی ما یصدق علیه إیجاد النداء، و لیست مثل المعانی الاسمیّة فی أنّ لها معنیً کلّیّاً و معنیً جزئیّاً، بل معانیها جزئیّة دائماً، و لکن یکفی فی ثبوت المفهوم للغایة انتزاع الوجوب- بلا قید الکلّیّة و الجزئیّة عرفاً- من إیجاد البعث فی الخارج، فیقولون: إنّه أوجب الجلوس إلی الظهر- مثلًا- فیدلّ علی أنّه لا وجوب للجلوس بعد الظهر، بدون أن یتفطّن و یستشعر أنّ معنی الهیئة جزئیّ، و هو کافٍ فی ثبوت المفهوم.

بحث: فی دخول الغایة فی حکم المُغیّا

ثمّ إنّ هنا بحثاً آخر: و هو أنّ الغایة نفسها هل هی داخلة فی حکم ما قبلها أو خارجة عنه؟

و محطّ البحث فی ذلک: إنّما هو فی الغایة التی لها استمرار وجود، و أنّ المراد بالغایة هنا هو مدخول «حتّی» أو «إلی» لا بمعنی النهایة؛ لأنّ البحثَ عن أنّ غایة الجسم و نهایته هل هو جسم أو لا؟ بحثٌ فلسفیّ، أو لیس من المسائل الاصولیّة.

ص: 316

و کذلک لا معنی للبحث عن معناها العرفی: أنّها داخلة فی حکم ما قبلها، أو لا، بل المراد هو مدخول «حتّی» أو «إلی» فی ما له استمرار وجود، ک «الکوفة» فی «سرت من البصرة إلی الکوفة».

أمّا الغایة التی هی أمر بسیط، مثل الفصل المشترک، کالآن الفاصل بین اللیل و النهار، فلا معنی للبحث عنه- أیضاً- لأنّه أمر اعتباریّ یمکن اعتباره جزءاً من اللیل أو النهار، کالنقطة بالنسبة إلی الخطّ، و الخطّ بالنسبة إلی السطح، و السطح بالنسبة إلی الجسم.

إذا عرفت هذا نقول: ادّعی بعضهم الإجماع علی دخول ما بعد «حتّی» فی حکم ما قبلها، نحو: «أکلت السمکة حتّی رأسها»، و عدم دخول ما بعد «إلی» فیه(1).

و فصّل فی «الدرر» بین ما إذا جعلت الغایة قیداً للفعل، و بین ما لو جعلت قیداً للحکم؛ بدخولها و ما بعدها فی حکم ما قبلها فی الأوّل، مثل «سرت من البصرة إلی الکوفة»؛ لأنّه المتبادِر منه عرفاً، فلا بدّ من سیرة مقداراً من الکوفة حتّی یصدق ذلک، بخلاف القسم الثانی، فإنّ الحکم إذا جُعل مغیّا بغایة فمعناه: أنّ الحکم مستمرّ إلی ذلک، و إلّا یلزم عدم کون ما جُعل غایةً بغایةٍ(2).

و قال فی «الکفایة»: إنّ هذا البحث إنّما هو فیما إذا جُعلت الغایة غایة للموضوع و المتعلّق، دون ما إذا جُعلت قیداً للحکم(3)، و لکنّه عدل عن ذلک فی الحاشیة إلی أنّه یمکن تصوُّر النزاع فیما إذا جعلت قیداً للفعل أیضاً(4).

قلت: التحقیق هو خروج الغایة عن حکم ما قبلها مطلقاً.


1- نسبه ابن هشام إلی شهاب الدین القرافی، مغنی اللبیب: 65 سطر 16.
2- درر الفوائد: 205.
3- انظر کفایة الاصول: 247.
4- نفس المصدر.

ص: 317

و الدلیل علی ذلک: هو الفهم العرفی، فإنّه لا إشکال فی تحقُّق الامتثال فی «سرْ من البصرة إلی الکوفة» إذا سار حتّی انتهی إلی ظهر الکوفة من دون أن یدخلها، و لا دلیل لنا و لا لهم فی المقام سوی الفهم العرفی.

و أمّا ما أفاده فی «الدرر»- من دخولها و ما بعدها فی حکم ما قبلها إذا جعلت قیداً للفعل للانفهام العرفی- فهو ممنوع.

و أمّا دعوی الإجماع علی دخولها فی «حتّی» دون «إلی»، ففیه: أنّه وقع الخلط بین «حتّی» العاطفة و «حتّی» التی للغایة فی المقام، فإنّ «حتّی» فی «أکلت السمکةَ حتّی رأسها» عاطفةٌ، و المراد أنّه أکل تمام السمکة، لا أنّه ابتدأ فی الأکل من ذَنَبها حتّی وصل إلی رأسها، کما ذکر ذلک ابن هشام(1).


1- انظر مغنی اللبیب: 65.

ص: 318

ص: 319

الفصل الرابع فی مفهوم الاستثناء

اشارة

اختلفوا فی أنّ الاستثناء: هل یدلّ علی اختصاص الحکم إیجاباً و سلباً بالمستثنی منه و نفیه عن المستثنی، أو لا، بل هو مسکوت عنه؟

الحقّ: هو الأوّل، و لذا قالوا: الاستثناء من الإثبات نفی و من النفی إثبات(1)، خلافاً لأبی حنیفة(2)، حیث احتجّ بقوله علیه السلام:

(لا صلاة إلّا بطهور)

(3)؛ لأنّه لو کان الاستثناء من النفی إثباتاً، لزم صحّة الصلاة مع الطهور و لو فقدت سائر الشرائط، أو مع الموانع.

و اجیب عن ذلک:

أوّلًا: بأنّ المراد من مثله: أنّ الصلاة الواجدة لجمیع الشرائط، الفاقدة لجمیع الموانع، لا تقع صحیحة إلّا مع الطهور، و بدون الطهارة لیست بصلاةٍ أو صلاةٍ مأمور بها(4).


1- انظر مطارح الأنظار: 187 سطر 23، کفایة الاصول: 247، درر الفوائد: 206.
2- انظر شرح مختصر الاصول للعضدی: 265.
3- عوالی اللآلی 3: 8 ح 1، الفقیه 1: 22 ح 1 باب وقت وجوب الطهور.
4- انظر مطارح الأنظار: 187 سطر 28، و کفایة الاصول: 247- 248، و درر الفوائد: 206.

ص: 320

و ثانیاً: محلّ الکلام فیما لو تجرّد الکلام عن القرائن، و القرینة فیما ذکره موجودة، مضافاً إلی أنّ الروایة فی مقام بیان شرطیّة الطهارة للصلاة، مع قطع النظر عن سائر الشرائط و الموانع(1)، کما لا یخفی.

و استدلّوا علی أنّ الاستثناء من النفی إثبات بقبول رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و سلم(2) إسلام من قال: «لا إله إلّا الله»، فلو لا أنّ الاستثناء من النفی إثبات لما قبل ذلک بمجرّد التلفُّظ بذلک(3).

و أوردوا علی دلالتها علی التوحید: بأنّه لا بدّ فیها من خبر مقدّر للفظة «لا» النافیة للجنس، و هو إمّا لفظ «ممکن»، أو «موجود»، و علی أیّ تقدیر لا تدلّ علی التوحید:

أمّا علی الأوّل: فلأنّها- حینئذٍ- تدلّ علی إمکان وجوده تعالی، لا علی وجوده، و إن دلّت علی عدم إمکان غیره.

و أمّا علی الثانی: فلأنّها و إن دلّت- حینئذٍ- علی وجوده تعالی، لکن لا تدلّ علی عدم إمکان غیره تعالی، بل تدلّ علی عدم وجود غیره تعالی فقط(4).

و اجیب عنه:

تارةً: بأنّ الإشکال مردود علی کلا التقدیرین؛ لأنّ المراد من اللَّه هو واجب الوجود، و مع تقدیر «ممکن» فی خبرها تدلّ علی إمکانه تعالی و عدم إمکان غیره، و إمکانه تعالی ملازم لوجوده؛ للملازمة بین إمکان وجوده و وجوده.

و علی فرض تقدیر «موجود» تدلّ علی عدم وجود غیره تعالی، و عدم وجود


1- انظر کفایة الاصول: 248.
2- سنن البیهقی 9: 182 کتاب الجزیة باب من لا تؤخذ من أهل الأوثان.
3- مطارح الأنظار: 187 سطر 29 قرره.
4- قرّره فی درر الفوائد: 207 و کفایة الاصول: 248.

ص: 321

غیره ملازم لامتناعه؛ لأنّه لو أمکن لوُجد(1).

و تارة اخری: بأنّها تدلّ علی التوحید بضمیمة أنّ کلّ مولود یولد علی الفطرة الإسلامیّة، کما عن الشیخ قدس سره علی ما فی التقریرات(2).

و ثالثة: بأنّه لا احتیاج إلی تقدیر خبر، بل هی بلا خبر، و المعنی: لا نقرّ بالأُلوهیّة لإله إلّا الله(3).

و الأولی فی دفع الإشکال أن یقال: حیث إنّ العرب و الأعراب کانوا علی قسمین و طائفتین: طائفة منهم المشرکون القائلون بتعدُّد الآلهة، و طائفة اخری قائلون بالتوحید المعتقدون به، فمن نطق منهم بهذه الکلمة یُعلم أنّه من الطائفة الثانیة المعتقدة بالتوحید، و لذلک کان رسول اللَّه صلی الله علیه و آله یقبل إسلام من تلفّظ بها.

و أمّا الأجوبة المذکورة فغیر مستقیمة؛ لعدم إدراک العوامّ و الأعراب هذه المعانی الدقیقة و المطالب العقلیّة و العرفانیّة، کما لا یخفی.


1- انظر کفایة الاصول: 248.
2- انظر مطارح الأنظار: 188 سطر 7.
3- انظر فوائد الاصول 2: 509.

ص: 322

ص: 323

المطلب الرابع العامّ و الخاصّ و فیه فصول:

اشارة

ص: 324

ص: 325

الفصل الأوّل تعریف العامّ

عُرِّف العامّ بتعاریف کثیرة مذکورة فی الکتب المطوّلة(1)، مع الإشکالات التی أوردوها علیها من النقض و الإبرام، و لم یتعرّض فی «الکفایة»(2) لها؛ لأنّها تعاریف لفظیّة، و هو کذلک، فالأولی عدم التعرُّض لها.

و لکن القدر المعلوم: هو أنّ فی کلمات العرب ألفاظاً موضوعة للطبائع المجرّدة، کلفظ «الإنسان» لطبیعته، و الطبیعة و اللفظ الموضوع لها و إن تصدق علی الأفراد الخارجیّة من الإنسان- مثلًا- لکن یستحیل حکایتها عنها بخصوصیّاتها؛ لأنّ المفروض أنّ اللفظ موضوع لنفس الطبیعة لا بشرط، فلا یحکی إلّا عمّا هو الموضوع لها بلا زیادة عنه، و کذلک نفس الطبیعة.

و فیها ألفاظ- أیضاً- موضوعة للکثرة، مثل «کلّ» و «جمیع» و نحوهما فی سائر


1- هدایة المسترشدین: 339- 341 سطر 9، الفصول الغرویة: 158- 159 سطر 24، غایة المسئول: 359- 362 سطر 8.
2- کفایة الاصول: 252.

ص: 326

اللغات موضوعة لمعنی الکثرة، فإذا دخل هذا اللفظ علی اللفظ الموضوع لنفسِ الطبیعة أو لعنوانٍ من عناوین المشتقّات، و قیل: «کلّ إنسان» أو «کلّ عالم» یُفهم منه کلّ فردٍ فردٍ من أفراد الإنسان، و حینئذٍ فالعامّ هو اللفظ الدالّ علی الکثرة کلفظ «کلّ» و ما یرادفه من سائر اللغات.

ص: 327

الفصل الثانی الفرق بین بحث العامّ و المطلق

جعل بعض أهل الفنّ العامّ علی قسمین: أحدهما ما هو موضوع للکثرة و الشمول، و الثانی ما لیس کذلک، بل یستفاد العموم منه من الإطلاقات و مقدّمات الحکمة.

ثمّ قال: إنّ المقصود هنا البحث عن القسم الأوّل، و أمّا القسم الثانی فالکلام فیه موکول إلی باب المطلق و المقیّد.

و هکذا صنع فی «الدرر»(1) و المحقّق المیرزا النائینی علی ما فی التقریرات(2).

و لکن فیه ما لا یخفی، فإنّه لا ارتباط بین المطلق و العامّ و لا بین مسائلهما؛ لأنّ العامّ کما عرفت هو الموضوع للکثرة، و أنّ معنی «کلّ إنسان» کلّ فرد من طبیعة الإنسان، و المطلق موضوع لنفس الطبیعة لا بشرط، لکن إذا کان المتکلّم فی مقام البیان، و جعَل نفس الطبیعة موضوعة لحکمه بدون أن یقیّدها بقید، و المفروض أنّه


1- درر الفوائد: 210.
2- فوائد الاصول 2: 511.

ص: 328

عاقل مختار حکیم، یُستکشف منه أنّ تمام الموضوع لحکمه هی نفس الطبیعة.

و بالجملة: المتکلّم بالعامّ متعرّض للأفراد بخصوصیّاتها بالدلالة اللفظیّة، بخلاف المتکلّم بالمطلق، فإنّه لا تعرّض له لخصوصیّات الأفراد بالدلالة اللفظیّة، بل لنفس الطبیعة مجرّدةً، و الإطلاق لیس من الدلالات اللفظیّة، کما أشرنا إلیه سابقاً، و سیجی ء فی باب المطلق و المقیّد إن شاء اللَّه.

ص: 329

الفصل الثالث هل یحتاج فی دلالة ألفاظ العموم علیه إلی مقدّمات الحکمة فی مدخولها أو لا؟

قد یقال: إنّ دلالة جمیع العمومات علی العموم، إنّما هو بمعونة مقدّمات الحکمة فی مدخول ألفاظها، و بدونها لا تفید العموم(1). و قد وقع فی «الدرر»(2) فی دفع هذا القول فی حیص بیص.

و الحقّ: أنّه لا احتیاج فیها إلی مقدّمات الحکمة، و أنّ استفادة الإطلاق من مثل قوله: «أعتق رقبةً»، إنّما هی لأجل أنّه فعل اختیاریّ صادر من عاقل مختار، جعَل نفس الطبیعة موضوعة لحکمه، فیستکشف منه أنّ تمام الموضوع للحکم هی تلک الطبیعة لا غیر، من دون أن یدلّ علی ذلک لفظ، بخلاف العموم، فإنّ لفظة «کلّ» تدلّ علیه بالدلالة اللفظیّة؛ لما عرفت من أنّ لفظة «کلّ» موضوعة للکثرة، و الإنسان موضوع لنفس الطبیعة، و إضافة «کلّ» إلیها تفید کلّ فرد من أفراد الطبیعة؛ بحیث لو


1- انظر کفایة الاصول: 254- 255.
2- درر الفوائد: 211.

ص: 330

أراد المتکلّم غیر ذلک کان غالطاً، فلیس هنا ما یُتمسّک بالإطلاق فیه.

نعم یمکن التمسُّک بالإطلاق بالنسبة إلی حالات الأفراد و کیفیّات الحکم، لا فی مدخول «کلّ».

و أیضاً یمکن أن یکون المتکلّم بالمطلق فی مقام الإهمال و الإجمال، کما فی کثیر من المطلقات، بخلاف المتکلّم بالعامّ؛ لأنّه حیث إنّه حاکٍ عن الأفراد، و یدلّ علیها بالدلالة اللفظیّة، لا یتصوّر فیه کونه فی مقام الإجمال أو الإهمال.

ص: 331

الفصل الرابع فی أقسام العامّ

أنّهم قسّموا(1) العامّ إلی الشمولیّ الاستغراقیّ، و المجموعیّ، و البدلیّ، و وقع فی کلامهم خلطٌ بین العامّ و المطلق هنا أیضاً.

و لا بدّ من البحث فی أنّه: هل لنا ألفاظ تدلّ علی کلّ واحد من هذه الأقسام، أو لا؟ و قد عرفت أنّ لفظة «کلّ» تدلّ علی العموم الاستغراقیّ، و أمّا العموم البدلیّ فمثّل له بعضهم بالنکرة، مثل «رجل» إذا کان التنوین للنکارة، کما ذکره المحقّق العراقی قدس سره فی «المقالات»، و ذکر- أیضاً- أنّ العامّ الاستغراقیّ مثل اسم الجنس(2).

أقول: لکنّه لیس کذلک؛ لأنّ النکرة لا تدلّ علی أنّ کلّ واحد من الأفراد بدل عن الآخر، فإنّ قوله: «أکرم رجلًا» و إن دلّ علی واحد لا بعینه، لکن لا دلالة له علی بدلیّة کلّ فرد عن الآخر، نعم العقل فیه حاکم بالتخییر بین الأفراد، لکنّه لیس مدلولَ لفظ النکرة، و لا بدّ فی العام من دلالة لفظه علیه، و کذلک اسم الجنس لیس موضوعاً


1- هدایة المسترشدین: 341 سطر 17، کفایة الاصول: 253.
2- مقالات الاصول 1: 146 سطر 1.

ص: 332

للدلالة علی الاستغراق بل لنفس الطبیعة المطلقة.

و الظاهر: أنّ لفظ «أیّ» الاستفهامیّة تدلّ علی العموم البدلی، مثل: «فَأَیَّ آیاتِ اللَّهِ تُنْکِرُونَ»(1)، فإنّها مضافاً إلی دلالتها علی الفرد الغیر المعیَّن، تدلّ علی بدلیّة کلّ واحد من الأفراد عن الآخر، و کذلک قوله تعالی: «فَبِأَیِّ حَدِیثٍ بَعْدَهُ یُؤْمِنُونَ»*(2).

و أمّا العامّ المجموعی فالظاهر أنّ الدالّ علیه هو لفظ المجموع، مثل «أکرم مجموع العلماء»، فإنّه یدلّ علی أمرین: أحدهما خصوصیّات الأفراد، و الثانی اعتبار مجموعها و فرضهم واحداً؛ بحیث لو لم یکرم واحداً منهم لما امتثل أصلًا، بخلاف ما لو قال: «أکرم کلّ العلماء أو جمیعهم» فإنّه لو أکرم بعضهم دون بعضٍ آخر، امتثل الأمر بالنسبة إلی من أکرمهم، و عصی بالنسبة إلی من لم یکرمهم.

و الحاصل: أنّ بعض الألفاظ یدلّ علی العموم الاستغراقی بلفظه، مثل «کلّ» و «جمیع» و ما یُرادفهما فی سائر اللّغات، و بعضها یدلّ علی العموم المجموعی، مثل لفظ «المجموع»، و بعضها یدلّ علی البدلی منه، مثل «أیّ» الاستفهامیّة، و دلالة کلّ واحد من الألفاظ المذکورة علی المعانی المذکورة، إنّما هی بألفاظها، کما هو المتبادِر منها.

فظهر من ذلک: أنّ ما ذکره فی «الکفایة»، و تبعه المیرزا النائینی قدس سره: من أنّ اختلاف ما ذکر من أقسام العامّ- أی: الاستغراقی و المجموعی و البدلی- إنّما هو باختلاف کیفیّة تعلُّق الأحکام به، و إلّا فالعموم فی الجمیع بمعنی واحد، و هو شمول المفهوم لجمیع ما یصلح أن ینطبق علیه(3)، غیرُ صحیح.


1- غافر: 81.
2- المرسلات: 50.
3- کفایة الاصول: 253، فوائد الاصول 2: 514- 515. الا أنّه تبعه فی المجموعی و الشمولی فقط لأنّه أخرج البدلی عن مفهوم العموم منذ البدایة.

ص: 333

و کذلک ما ذکره المحقِّق العراقی قدس سره(1): من أنّ الفرق بین الاستغراقی و البدلی، إنّما هو فی متعلَّقهما مع اتّحاد کیفیّة تعلُّق الحکم به فیهما.

نعم، و قسّموا(2) الإطلاق- أیضاً- إلی الاستغراقی و المجموعی و البدلی و إن لم یصرّحوا بالمجموعی منه، و ذلک لما عرفت من انّ تبادر العموم الاستغراقی من لفظ «کلّ عالم»، و البدلی من «أیّ» الاستفهامیّة، و المجموعی من لفظ «المجموع»، قبل تعلُّق الحکم به، و لو کان الفرق بینهما باختلاف تعلُّق الحکم به، لَزِم أن لا تتبادر المعانی المذکورة منها إلّا بعد تعلُّق الحکم بها، مع أنّهم صرّحوا بخلافه، و هل هذا إلّا التناقض؟!

فإنّه ذکر المحقّق المیرزا النائینی قدس سره علی ما فی التقریرات: أنّه لا یستفاد الاستغراق من مفردات قضیّة «أکرم کلّ عالم»، بل من مجموع تعلُّق الحکم بموضوعه(3).

و قال بُعَید هذا: إنّ المستفاد من «کلّ رجل» هو الاستغراق(4).

و هذا مناقض لما ذکره قُبَیل ذلک: من أنّ العموم لا یُستفاد من مفردات القضیّة.

مضافاً إلی أنّه لو کان اختلاف الأقسام بلحاظ تعلُّق الأحکام بها و اختلافه، فلا معنی للاختلاف فی أنّ العامّ بعد تخصیصه حجّة فی الباقی، أو لا، و کذلک البحث فی أنّه هل للعموم صیغة تخصّه أو لا؟ ثمّ اختیار الأوّل، مثل «کلّ»، فإنّ معناه أنّ لفظ «کلّ» موضوع لذلک، و یدلّ بلفظه علی الاستغراق.

و أمّا تقسیم الإطلاق إلی هذه الأقسام فهو- أیضاً- فاسد، بل لیس للإطلاق المستفاد من مقدّمات الحکمة إلّا معنیً واحد، و هو أنّ المطلق الذی جعله المتکلّم


1- انظر مقالات الاصول 1: 146 سطر 1.
2- کفایة الاصول: 292، فوائد الاصول 2: 562.
3- انظر فوائد الاصول 2: 514- 515.
4- نفس المصدر: 515.

ص: 334

العاقل الشاعر موضوعاً لحکمه، هو تمام الموضوع للحکم من دون دخل قیدٍ فیه، و إلّا لزم علیه البیان، و هو دلالة الفعل لا اللفظ، و المراد من إجراء مقدّمات الحکمة: إثبات أنّ تمام الموضوع للحکم هو المطلق- أی الطبیعة لا بشرط- و یحکم العقل بالتخییر بین أفراد المطلق؛ و اختیار أیّ فرد منها، و هذا التخییر عقلیّ لا یدلّ علیه اللفظ.

و ممّا یدلّ علی ما ذکرنا: أنّه فرق بین أن یقال: «أعتق رقبةً أیّة رقبة»، و بین أن یقال: «أکرم رقبة»، فإنّ الأوّل یدلّ علی العموم البدلی، دون الثانی، فیعلم من ذلک:

أنّ المطلق لا دلالة له علی البدلیّة.

ص: 335

الفصل الخامس فی دلالة بعض الألفاظ علی العموم

هل النکرة أو اسم الجنس الواقعان فی سیاق النفی أو النهی یُفیدان العموم، أو لا؟

و لا بدّ فیه من ملاحظة مفردات هذا الترکیب، فنقول:

أمّا «لا» النافیة فتدلّ علی النفی، و الناهیة علی الزجر، و أمّا لفظ «رجل» فی «لا رجلَ فی الدار» فمادّته تدلّ علی نفس الطبیعة لا بشرط، و التنوین أو الهیئة علی الواحد لا بعینه، فالمجموع یدلّ علی نفی الطبیعة المقیّدة بالواحد لا بعینه، و لیس فیها ما یدلّ علی العموم، و لیس للمرکّب وضع آخر غیر وضع مفرداته، بل لا معنی له.

و یدلّ علی ذلک: أنّه فرق بین «لا تکرم رجلًا» و بین «لا تکرم کلّ رجل»، فإنّه یتبادر العموم من الثانی، دون الأوّل.

نعم، یمکن التمسُّک بمقدّمات الحکمة لإثبات الإطلاق، و أنّ الموضوع للحکم هو نفس الطبیعة، و العقل- حینئذٍ- یحکم بأنّ ترکها أو انتفاءها إنّما هو بترک جمیع أفرادها و انتفائه، لکن ذلک غیر العموم کما عرفت.

و أمّا المفرد المحلّی بالألف و اللام: فهو- أیضاً- لا یُفید العموم، بل تجری فیه

ص: 336

مقدّمات الحکمة لإثبات أنّ الموضوع هو نفس الطبیعة المطلقة.

و أمّا الجمع المحلّی بالألف و اللام: مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(1)، فلا ریب فی إفادته العموم؛ لأنّه المتبادِر منه عرفاً، لکن هل هو مستفاد من الألف و اللام، أو من نفس الجمع؟

الظاهر أنّ نفس الجمع یدلّ علی الکثرة- أی ما فوق الاثنین- و الألف و اللام علی أقصی مراتب الکثرة.

و بالجملة: لا ریب فی تبادر العموم منه.


1- المائدة: 1.

ص: 337

الفصل السادس فی حجّیّة العامّ المخصَّص فی الباقی

اشارة

العامّ المخصَّص بالمخصص بالمتّصل أو المنفصل، هل هو حجّة فی الباقی، أو لا، أو التفصیل بین المخصِّص بالمتّصل و بین المنفصل؛ بأنّه حجّة فی الأوّل، دون الثانی؟ أقوال:

و عمدة دلیل النافین: هو أنّه بعد التخصیص مجازٌ فیما بقی، و مراتب المجازات کثیرة، و لیس أکثرها عدداً أقربها لیحمل علیه؛ لأنّ المناط فی الأقربیّة إلی المعنی الحقیقیّ الأقربیّة بحسب انس الذهن، الحاصل من کثرة الاستعمال، لا الکثرة العددیّة، و حینئذٍ فلا یُعلم إرادة أیّة مرتبة من مراتبه بعد عدم إرادة المعنی الحقیقی، فیقع الإجمال(1).

و استدلّ المفصّل بهذا البیان فی المخصَّص بالمنفصل فقط.

أقول: لا بدّ من ملاحظة مفردات العامّ المخصَّص، و أنّ التصرُّف بالتخصیص فی أیٍّ منها؟


1- انظر ما قرّره صاحب معالم الدین: 121 سطر 10، و الفصول الغرویة: 199- 200 السطر الأخیر، و مطارح الأنظار: 192 سطر 13.

ص: 338

فنقول: لا ریب فی أنّ لفظ «کلّ» فی «أکرم کلّ عالم»- المفروض تخصیصه بالعدول- مستعمل فی معناه الموضوع له، و کذلک لفظ «عالم»، و کذلک مادّة «أکرِم» و هیئته- أیضاً- مستعملة لإنشاء البعث الموضوع له، فلم یستعمل واحدٌ من هذه المفردات فی غیر معناه الموضوع له؛ لیلزم التجوُّز فیه، غایة الأمر أنّ الداعی لإنشاء البعث: إمّا البعث أو الانبعاث الحقیقیّان، أو أمر آخر، کالامتحان أو السخریة أو غیر ذلک، مع استعمال الهیئة فی معناها الموضوعة له؛ أی إنشاء البعث.

و فیما نحن فیه استعملت الهیئة لإنشاء البعث الموضوع له، لکنّه بالنسبة إلی إکرام العلماء العدول لغرض البعث و الانبعاث حقیقةً، و بالنسبة إلی إکرام جمیعهم- العدول منهم و الفسّاق- لداعی جعل القانون، کما هو دیدن الموالی العرفیّة و دأبهم؛ حیث إنّهم یجعلون الأحکام للمکلّفین بنحو العموم فی مقام جعل القوانین، ثم یذکرون المخصِّصات بعد ذلک، فالهیئة مستعملة فی معناها الحقیقی، و ارید منها العموم بالإرادة الاستعمالیّة، لکن ارید منها البعث الحقیقی بالإرادة الجدّیّة بالنسبة إلی بعضهم.

و بالجملة: لا یلزم من تخصیص العامّ تجوُّز أصلًا لیرد علیه ما ذکر، بل عرفت أنّ اللفظ فی جمیع موارد توهُّم المجاز مستعمل فی معناه الحقیقی، و أنّه اسند الفعل فی «وَ سْئَلِ الْقَرْیَةَ»(1) إلی نفس القریة من دون أن یُقدَّر المضاف؛ إذ لا ریب فی أنّه لو قیل: «اسأل أهل القریة» لما کان فیه من الحسن ما فی إسناده إلی نفس القریة، لکن بدعوی أنّ المطلب بمکان من الظهور حتّی أنّه تدرکه نفس القریة العادمة للشعور أیضاً، و کذلک لفظ «السماء» فی قول الشاعر:

إذا نزل السماء بأرض قومٍ(2) ... الخ.


1- یوسف: 82.
2- صدر بیت لجریر بن عطیة التمیمی علی ما فی جامع الشواهد 1: 99، و لمعاویة بن مالک علی ما فی لسان العرب 6: 379، و حاشیة السبکی علی تلخیص المفتاح، شروح التلخیص 4: 327، و عجزه: رعیناه و إن کانوا غضابا.

ص: 339

فأسند الفعل إلی نفس السماء؛ بدعوی أنّ السماء بنفسها قد نزلت لکثرة نزول المطر، لا أنّه استعمل السماء فی المطر، کأنّه قال: «نزل المطر»؛ لعدم الحسن فیه.

و غیر ذلک من أقسام المجازات.

راجع ما ألّفه الشیخ أبو المجد الاصفهانی قدس سره(1) تصدِّق ما ذکرناه، و لیس ذلک ما ذکره السکّاکی(2) فی باب الاستعارة، بل قریب ممّا ذکره.

و قد اورد علی ما ذکرناه فی بیان دفع إشکال لزوم المجاز:

اشارة

تارةً: بأنّ الداعی إلی الأمر و البعث إلی إکرام العلماء فی قوله: «أکرم العلماء» مع أنّه مخصَّص: إمّا البعث و الانبعاث الحقیقیّان بالنسبة إلی إکرام العدول منهم، و إمّا جعل القانون بالنسبة إلی جمیعهم، لا البعث و الانبعاث الحقیقیّان بالنسبة إلی جمیعهم، و لا یمکن إرادة جمعهما- أی الداعیین معاً- لأنّ الواحد لا یصدر من اثنین بما هما اثنان، و لا جامع- أیضاً- فی البین(3).

و اخری: کما عن المحقّق المیرزا النائینی قدس سره: بأنّه یستلزم وجود إرادتین للآمر:

إحداهما الاستعمالیّة بالنسبة إلی البعث إلی إکرام جمیع العلماء، و الثانیة الجدّیّة فی البعث بالنسبة إلی إکرام العدول منهم، مع أنّه لیس له إلّا إرادة واحدة.

و انّ التحقیق فی دفع الإشکال أن یقال: إنّه لا یستلزم تخصیصُ العامّ المجازیّة مطلقاً؛ متّصلًا کان المخصّص، أم منفصلًا:

أمّا فی المتّصل فواضح؛ لأنّ «کلّ» فی «أکرم کلّ عالم» لیس مستعملًا فی غیر ما وُضع له، بل فی معناه الموضوع له، و هو استغراق أفراد مدخوله، و المدخول هنا


1- وقایة الأذهان: 101- 135.
2- مفتاح العلوم: 156- 157.
3- انظر نهایة الدرایة 1: 337.

ص: 340

«الرجل العالم»، فکأنّ دائرة المدخول مُضیّقة من الأوّل.

و أمّا فی المنفصل فکذلک؛ حیث إنّه ارید من «الرجل» فی «أکرم کلّ رجل» و «لا تکرم الفاسق» الرجل العادل، لا مطلق الرجل، کالمتّصل(1). انتهی.

أقول: أمّا الإشکال الأوّل فیرد علیه:

أوّلًا: بأنّ الداعی إلی شی ء أو فعل من مبادئ ذلک الشی ء و الفعل، لیس مصدراً یصدر عنه الفعل؛ کی یقال: إنّ الواحد لا یصدر إلّا من الواحد، لا من الاثنین، مع ما عرفت أنّ مورد القاعدة غیر هذه الموارد.

و ثانیاً: أنّا نری بالضرورة و العیان أنّه قد یکون للفعل داعیان أو أکثر، کالذهاب إلی مجلس العالم لزیارته و استفادة العلم منه.

و أمّا الإشکال الثانی فیرد علیه:

أنّه لیس المراد أنّ فی استعمال لفظ «کلّ» إرادتین: استعمالیّة بالنسبة إلی إکرام جمیع العلماء، و الجدّیة بالنسبة إلی بعضهم؛ لیرد علیه ما ذکر، بل المراد أنّ فی تعلیق وجوب الإکرام علی کلّ عالم إرادتین: استعمالیّة بالنسبة إلی جعل القانون، و الجدّیة بالنسبة الی اکرام العدول منهم و حینئذٍ فلا یرد علیه ما ذکر.

و أمّا ما جعله التحقیق فی الجواب ففیه: أنّه إن أراد أنّ الرجل فی «أکرم کلّ رجل»- المخصَّص بالمنفصل- مستعمل فی الرجل العالم، فهو استعمال للّفظ فی غیر ما وضع له غلطاً، و إن أراد أنّه مستعمل فی معناه، و هو مطلق الرجل بالإرادة الجدّیة، فلا بدّ أن یکون التخصیص بالمنفصل بعد ذلک بداءً و هو کما تری.

و قال المحقّق العراقی قدس سره فی المقالات فی الجواب عن الإشکال ما حاصله:

حیث إنّ اللفظ یجذب المعنی إلی نفسه؛ و لذا یسری قبح المعنی إلی اللفظ، کان للعامّ ظهورات متعدّدة حسب تعدُّد أفراده، فإذا خصّص العامّ سقط بعضها، و یبقی الباقی


1- أجود التقریرات 1: 446 و 452.

ص: 341

لعدم المصادم له(1).

و هذا الذی ذکره قدس سره فی الجواب یقرب ممّا ذکره الشیخ الأعظم قدس سره(2) لکن فیه ما مرّ عند نقل ذلک عن «الکفایة»: من أنّه لا معنی لجذب اللفظِ المعنی إلی نفسه، و سرایة قبح المعنی إلی اللفظ، فإنّه لیس فی نفس الألفاظ حسنٌ و لا قُبح، و أمّا اشمئزاز النفس عند سماع بعض الألفاظ، فهو لأجل أنّه موضوع لمعنیً یشمئزّ النفس منه، و تبادرِهِ إلی الذهن عند سماع اللفظ الموضوع له، و لیس فی «أکرم کلّ عالم» إلّا ظهور واحد، و هو وجوب إکرام العلماء بنحو الاستغراق، لا ظهورات متعدّدة.

فالأولی فی الجواب هو ما ذکرناه، و هو- أیضاً- مراده فی «الکفایة»، لکن عبارتها قاصرة غیر وافیة به، و کذلک «الدرر»(3)، و إن ذکر قدس سره فیه ما لا یخلو عن الإشکال، فراجع.


1- مقالات الاصول 1: 148 سطر 15.
2- مطارح الأنظار: 192 سطر 17.
3- درر الفوائد: 214.

ص: 342

ص: 343

الفصل السابع الکلام فی المخصَّص بالمجمل

و له أقسام:

اشارة

لأنّ الشبهة و الإجمال: إمّا فی مفهومه؛ بأنّ لا یُعلم أنّه لأیّ شی ء وضع؟ و إمّا فی المصداق مع تبیُّن مفهومه.

و الإجمال فی القسم الأوّل أیضاً: إمّا لأجل تردُّده بین المتباینین، أو الأقلّ و الأکثر.

و علی جمیع التقادیر: الکلام إمّا فی المخصّص المتّصل، أو المنفصل.

أمّا القسم الأوّل: و هو الشبهة المفهومیّة مع تردّده بین الأقلّ و الأکثر فی المخصّص المتّصل

، کما لو قال: «أکرم العلماء إلّا الفسّاق منهم»، و تردَّد مفهومُ الفاسق بین مرتکب الکبیرة فقط، و بین مرتکب کلّ ذنب و لو من الصغائر، فقالوا: إنّه لا یجوز التمسُّک بالعامّ فی خصوص المشکوک؛ أی مرتکب الصغیرة؛ و ذلک لأنّ کلّ واحد من مفردات «أکرم کلّ رجل عالم» و إن کان ظاهراً فی معناه الموضوع له، لکن حیث إنّه متّصل باستثناء ما لا یعلم مفهومه؛ لتردّده بین الأقلّ و الأکثر، یسری إجماله إلی العامّ، و یصیر هو- أیضاً- مجملًا بالنسبة إلی الأکثر، و لیس لمجموع المستثنی و المستثنی منه

ص: 344

إلّا ظهور واحد، و المفروض إجماله بالنسبة إلی الفرد المشکوک، ففی مقام المخاصمة و الاحتجاج بین العبد و مولاه، لا یصحّ لواحد منهما الاحتجاج به علی الآخر.

و بالجملة: الموضوع لوجوب الإکرام هو العالم الغیر الفاسق لیس إلّا، و المفروض أنّ الفاسق مجمل مردَّد بین الأقلّ و الأکثر، فلا یصحّ التمسُّک بالعموم بالنسبة إلی الأکثر أیضاً لصیرورته مجملًا لا یصحّ الاحتجاج به.

القسم الثانی: ما إذا کانت الشبهة فی المفهوم لأجل تردُّد المخصِّص بین الأقلّ و الأکثر أیضاً، لکن فی المخصِّص بالمنفصل

، فذهبوا إلی أنّه لا یسری إجمال مفهوم المخصِّص إلی العامّ؛ لأنّه صدر عند انعقاد ظهور العامّ فی العموم ابتداءً، و بعد الظفر بالمخصِّص تُرفع الید عن ظهوره بالنسبة إلی المعلوم دخوله فی المخصِّص، و أمّا بالنسبة إلی المشکوک دخوله فیه- کالمرتکب للصغیرة فی المثال المذکور- فلا تُرفع الید عن ظهور العامّ بالنسبة إلیه، فهو حجّة بالنسبة إلیه(1).

و الحاصل: أنّ العامّ حجّة حیث لا حجّة أقوی منه أو مطلقاً علی الخلاف، و المفروض وجود الحجّة بالنسبة إلی الأقل؛ أی مرتکب الکبائر، و أمّا بالنسبة إلی الأکثر فلم تثبت حجّیّة الخاصّ فیه؛ حتّی ترفع الید عن ظهور العموم، کیف؟! و لو صدر المخصِّص المذکور ابتداءً قبل صدور العامّ، لما صحّ الاحتجاج به بالنسبة إلی الأکثر الذی لم یُعلم شمول عنوان الخاصّ له، فکیف فیما نحن فیه المفروض وجود الحجّة علی خلافه و هو العامّ؟!

لکن هذا الذی ذکروه فی هذا القسم، إنّما یتمّ إذا لم یکن المخصِّص المنفصل ناظراً إلی العامّ و مفسّراً له، کما فی بعض أقسام الحکومة، و أمّا إذا کان المخصِّص المنفصل ناظراً إلی العامّ و شارحاً له بعد صدور العامّ، ففیما ذکروه تأمّل و إشکال؛ لأنّه- حینئذٍ- کالمخصِّص المتّصل کأدلّة نفی العسر و الحرج؛ حیث إنّها ناظرة إلی أدلّة التکالیف


1- کفایة الاصول: 258، فوائد الاصول 2: 524، مقالات الاصول 1: 149.

ص: 345

و مفسِّرة لها.

قال قدس سره فی «الدرر» ما حاصله: إنّه إذا فرض أنّ عادة المتکلّم و دیدنه جاریة علی ذکر المخصِّص منفصلًا عن کلامه، فحال المخصِّص المنفصل فیه کالمخصِّص المتّصل فی کلام غیره؛ فی أنّه یحتاج فی التمسُّک بعموم کلامه إلی عدم إحراز المخصِّص إمّا بالقطع أو بالأصل، و لا یمکن إحرازه فیما نحن فیه بواحد منهما: أمّا القطع فواضح، و أمّا الأصل فلأنّه إنّما یجری فیما لم یوجد فیه ما یصلح للمخصِّصیة، و أمّا فیما نحن فیه الذی یوجد فیه ما یصلح لها فلا(1). انتهی.

أقول: هذا الذی ذکره إنّما یصلح للاستدلال به لوجوب الفحص عن المخصّص، و عدم جواز التمسُّک بالعامّ قبل الفحص و الیأس عنه، کما فی سائر الموارد غیر هذا المورد، و أمّا الاستدلال به لما ذکره من عدم جواز التمسُّک بالعامّ الصادر من المتکلِّم الذی دیدنه کذا، و لو بعد الفحص عن المخصِّص و الیأس عنه؛ لإجماله- حینئذٍ- لسرایة إجمال المخصِّص المنفصل إلیه، فلا.

القسم الثالث: ما إذا کانت الشبهة فی مفهوم المخصِّص و إجماله لأجل تردّده بین المتباینین

، کما لو قال: «أکرم العلماء، و لا تکرم زیداً»، و لم یعلم أنّ المراد زید بن عمرو أو زید بن بکر، فاللازم فی هذا الفرض هو الاحتیاط؛ للعلم الإجمالی بوجوب إکرام أحدهما الغیر المعلوم، کما فی سائر موارد العلم الإجمالی، إلّا إذا دار الأمر فیه بین المحذورین، کما لو علم بوجوب إکرام أحدهما و حرمة إکرام الآخر، و لا فرق فیه بین المخصِّص المتّصل و المنفصل.

القسم الرابع: ما لو کانت الشبهة فی مصداق الخاصّ مع تبیُّن مفهومه

، فمحطّ البحث فیه هو ما إذا ثبت حکمٌ لعامّ- أی لکلّ فرد فرد منه- ثمّ اخرج عدّة من أفراده عن تحته، لا فیما کان الحکم ثابتاً لعنوان، ثمّ قُیّد ذلک العنوان بدلیل خاصّ،


1- درر الفوائد: 215.

ص: 346

کالعالم و العالم العادل؛ لما عرفت غیر مرّة: أنّ مسألة العامّ و الخاصّ غیر مربوطة بمسألة المطلق و المقیّد.

فانقدح بذلک ما فی کلام المحقّق المیرزا النائینی قدس سره فی المقام حیث ذکر ما حاصله: أنّ ظاهر قوله: «أکرم العالم» هو أنّ عنوان «العالم» تمام الموضوع لوجوب الإکرام، و یُستکشف بالمخصِّص أنّ عنوان «العالم» لیس تمام الموضوع له، بل هو جزء الموضوع، و الجزء الآخر هو عنوان «العادل» مثلًا، و أنّ تمام الموضوع هو عنوان «العالم» المقیّد بالعادل، فکما لا یجوز التمسُّک فی فرد شُکّ فی أنّه عالم أو لا بالعموم، فکذلک فیما لو شُکّ فی أنّه عادل أو لا؛ لعدم الفرق فی ذلک بین الجزءین للموضوع، بل لا بدّ فی جواز التمسُّک بالعامّ من إحراز الموضوع بتمام جزأَیْه(1).

أقول: ما أفاده قدس سره من عدم جواز التمسُّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص- حقٌّ، لکن البیان الذی ذکره لذلک غیر صحیح؛ لما عرفت أنّه وقع الخلط فیه بین بابی المطلق و المقیّد و بین العامّ و الخاصّ، و حینئذٍ نقول:

إنّ المخصِّص فی الفرض: إمّا متّصل، و إمّا منفصل:

أمّا الأوّل: فلا ریب فی عدم جواز التمسُّک فیه بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص، کما لو قال: «أکرم العلماء إلّا الفسّاق منهم» و شکّ فی فرد أنّه فاسق أو لا، مع تبیُّن مفهوم الفُسّاق؛ لأنّه لا ینعقد للکلام إلّا ظهور واحد فی وجوب إکرام العالم الغیر الفاسق، فمع الشکّ فی فرد أنّه فاسق أو لا، فحیث إنّه لا ظهور للکلام بالنسبة إلیه، لا یجوز التمسُّک بالعامّ فیه.

و أمّا المخصّص المنفصل: فقد یقال بجواز التمسُّک بالعامّ فیه؛ لانعقاد ظهوره أوّلًا فی عموم العلماء الفُسّاق منهم و العدول، و بعد صدور المخصِّص المنفصل ترفع الید عن ظهوره بالنسبة الی الفرد المعلوم فسقه، و أمّا المشکوک فسقه فلا وجه لرفع الید


1- فوائد الاصول 2: 525.

ص: 347

عن ظهور العامّ بالنسبة إلیه مع شموله له قطعاً.

و بالجملة: لم یُعلم دخول ذاک الفرد تحت الخاصّ حتّی یُزاحم العامّ فی ظهوره، فهو من قبیل مُزاحمة الحجّة بلا حجّة(1). انتهی.

أقول: یرد علیه: أنّ العامّ قاصر عن الحجّیّة بالنسبة إلی الفرد المشکوک دخوله تحت الخاصّ.

توضیح ذلک: أنّه لا ریب فی أنّه لا یصحّ التمسُّک بالعامّ إلّا فیما یجری فیه أصالة الجدّ، و هی إنّما تجری فیما تجری فیه أصالتا الحقیقة و الظهور، ففی العامّ الغیر المخصَّص الاصول الثلاثة جاریة: أمّا أصالتا الحقیقة و الظهور فواضح، و أمّا أصالة الجدّ فلبناء العقلاء علی تطابق الجدّ و الاستعمال فیه، و لا ریب فی أنّ العامّ فیه مستعمل فی معناه الحقیقی، و استقرّ بناؤهم- أیضاً- علی أن العموم مراد جدّی له، و أنّه لم یُتکلّم به هَزْلًا و لَغْواً، کما لا یخفی.

و أمّا فیما نحن فیه؛ أی العامّ المخصَّص بالخاصّ المنفصل المبیَّن مفهومه، و لکن شُکّ فی فرد أنّه مصداق له أو لا، فکلُّ واحدٍ من مفردات جملة «أکرم العلماء»- أی العامّ- و «لا تکرم الفسّاق منهم»- أی الخاصّ- مستعملٌ فی معناه الحقیقی الموضوع له، و لیس لمجموعهما وضع علی حِدة، فأصالتا الحقیقة و الظهور جاریتان فیها؛ لأنّ المفروض أنّ المعنی اللُّغوی لکلٍّ من المفردات معلوم مبیّن واضح، لکن لا تجری هنا أصالة الجدّ بالنسبة إلی الفرد المشکوک أنّه من أفراد الخاصّ، لا فی العامّ، و لا فی الخاصّ:

أمّا فی العامّ: فلأنّ بناء العقلاء علی حمل العامّ علی الجدّ و عدم الهَزْل إنّما هو فیما لم یکن مخصَّصاً، و أمّا مع تخصیصه فلا.

و أمّا فی الخاصّ: فلأنّ المفروض أنّ انطباقه علی الفرد المشکوک فسقه


1- انظر ما قرّره فی کفایة الاصول: 258- 259.

ص: 348

مشکوک فیه، فلا تجری أصالة الجدّ فیه أیضاً.

و بالجملة: مع العلم الاجمالی بأنّ الفرد المشکوک فسقه إمّا داخل تحت مفهوم العامّ أو الخاص، و لیس واحدٌ منهما حجّة فیه، فلیس ما نحن فیه من قبیل مزاحمة الحجّة مع اللاحجّة؛ لعدم حجّیّة العامّ فیه کالخاصّ، فما ذکره المستدلّ- من أنّ العامّ بعمومه یشمل الفرد المشکوک فی مصداقیّته، و أنّه حجّة فیه دون الخاصّ- فهو غیر صحیح؛ لما ذکرناه من أنّه لا یکفی مجرّد العموم و الظهور فی ذلک ما لم تجرِ فیه أصالة الجدّ و بناء العقلاء علیه، و هو ممنوع.

فانقدح بذلک: الفرق بین الشبهة المصداقیّة للمخصِّص و بین الشبهة المفهومیّة له فی المخصِّص المتّصل، فإنّه لیس فی الثانی إلا ظهور واحد و موضوع واحد للحکم، و إجمال مفهوم المخصِّص المتّصل یسری إلی العامّ فیه، فیصیر- أیضاً- مجملًا، فلا یصحّ التمسُّک بعمومه أیضاً.

و أمّا فی المخصِّص المنفصل فإنّه ینعقد للعامّ ظهور فی العموم ابتداءً، و لا تجری أصالتا الحقیقة و الظهور فی الخاصّ؛ لأنّ المفروض أنّ مفهومه مجمل، و لا ینعقد له ظهور أصلًا، بخلاف العامّ؛ حیث إنّه ینعقد له ظهور فی الابتداء، و تجری فیه أصالتا الحقیقة و الظهور، و تجری فیه أصالة الجدّ بالنسبة إلی غیر المتیقّن دخوله تحت الخاصّ، فهو حجّة فی الفرد المشکوک من جهة الشبهة المفهومیّة للمخصِّص، بخلاف ما نحن فیه؛ أی الشبهة المصداقیّة، کما عرفت.

و قال المحقّق العراقی قدس سره فی وجه عدم جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة ما حاصله: إنّ الظهور الذی یمکن الاحتجاج به هو الظهور التصدیقی، لا التصوّری، و هو إنّما یتحقّق فیما إذا کان المتکلِّم فی مقام الإفادة و الاستفادة، و بصدد إبراز مرامه و إظهار مراده، و هو- أیضاً- إنّما یتحقّق إذا التفت إلی مرامه، و لیس هو ملتفتاً إلی الموضوعات الخارجیّة و خصوصیّاتها الشخصیّة؛ لیکون بصدد

ص: 349

بیان أحکامها، و حینئذٍ فلا یصحّ الاحتجاج بالعامّ فی فرد یشکّ فی دخوله تحت عنوان الخاصّ.

ثمّ قال: و هذا هو مراد شیخنا فی «الکفایة»(1) و الشیخ الأنصاری(2) 0 أیضاً. انتهی(3) خلاصة کلامه.

أقول: الموضوع لحکم العامّ- الذی فرض أنّ المتکلّم بصدد بیان أحکامه- هو الأفراد الخارجیّة بعنوان «کلّ عالم»- مثلًا- و لا یستلزم ذلک لحاظ خصوصیّات الأفراد حسباً و نسباً و عوارضها الشخصیّة؛ بأن یُلاحظ کلّ واحد من زید و عمرو فی «أکرم کلّ عالم»- مثلًا- فإنّ الموضوع فی جمیع القضایا الحقیقیّة و الخارجیّة هو الأفراد، کما فی قولنا: «کلّ نار حارّة» و نحوه، و لا یستلزم ذلک تصوُّر کلّ فرد فرد من النار بخصوصیّاتها؛ کیف؟! و قد لا یوجد فرد منه فی الخارج، مع وجود الحکم المتعلِّق بالعامّ.

و بالجملة: إنّما تتعلّق الأحکام بالأفراد و الحاکم متعرّض لها و ملتفت إلیها بدون استلزامه للالتفات إلی خصوص زید و عمرو و غیرهما.

مع أنّه یَرِد علیه النقض بما لو فرض أنّ المتکلّم قال: «أکرم کلَّ عالم»، ثمّ قال:

«لا تکرم الفُسّاقَ منهم»، و اعتقد أنّ زیداً- الذی هو عالم- فاسقٌ، و اعتقد المکلّف بخلافه، و فرض أنّه الصواب، فهل یصحّ للعبد الاحتجاج علی المولی فی ترک إکرامه:

بأنّک کنت معتقداً بفسقه؟! حاشا و کلّا.

و أمّا ما ذکره الشیخ قدس سره فحاصله: أنّه إنّما یصحّ التمسُّک بظهور کلام المتکلّم إذا کان بصدد بیان ذلک، لا فی غیره، فلو فُرض أنّه بصدد بیان وجوب إکرام العلماء،


1- کفایة الاصول: 258.
2- مطارح الأنظار: 193 سطر 10.
3- مقالات الاصول 1: 151 سطر 8.

ص: 350

فقال: «أکرم العلماء»، صحّ التمسُّک و الاحتجاج بظهور کلامه فی وجوب إکرام زید العالم، و لو شک فی أنّه عالم أو لا، لا یصحّ التمسُّک بالظهور و الاحتجاج به؛ لأنّه لیس بصدد بیان أنّ زیداً عالم أو لا، و هذا حقّ لا ریب فیه، لکن لا ربط له بما ذکره، بل الظاهر أنّ مراد صاحب الکفایة هو ما ذکرناه من البیان الذی یقرب ممّا ذکره الشیخ قدس سره(1).

و لا فرق فیما ذکرناه- من عدم جواز التمسُّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصّص- بین المخصِّص اللفظی و اللُّبّی کالإجماع و حکم العقل، فلو قال المولی:

«أکرم جیرانی»، و قطع العبد بأنّه لا یرید أعداءهم منهم، فلو شَکّ فی عداوة زید له الذی هو جاره، فکما أنّه لا یتمسّک به فی المخصِّص اللفظی فی الشبهة المصداقیّة، فکذلک فی المخصِّص اللُّبّی، و لیس بناء العقلاء علی التمسُّک بالعموم لوجوب إکرام زید المذکور، کما فی «الکفایة»(2) فی المخصِّص اللُّبّی، الذی لا یصحّ أن یتّکل علیه المتکلّم؛ لانفصاله و عدم احتفاف الکلام به.

فظهر: أنّ محطّ البحث فی المخصِّص اللُّبّی هو ما إذا فُرض خروج عدّة من أفراد العامّ بمخصِّص؛ بعنوان خاصّ بتلک الأفراد، و شُکّ فی فرد أنّه من مصادیق ذلک العنوان المخرَج عن العامّ، أو لا.

و حینئذٍ یظهر ما فی کلام المحقّق المیرزا النائینی قدس سره حیث قال- علی ما فی التقریرات- ما حاصله: أنّ العنوان المخرَج بالتخصیص اللُّبّی إذا کان من العناوین التی لا تصلح إلّا لتقیید الموضوع به، مثل (انظروا إلی رجل قد روی حدیثنا ...)(3) إلخ؛


1- مطارح الأنظار: 193 سطر 10.
2- کفایة الاصول: 259.
3- الکافی 7: 412 باب کراهیة الارتفاع إلی قضاة الجور ح 5، التهذیب 6: 301 باب 92 من کتاب القضایا و الأحکام ح 52، الوسائل 18: 98 باب 11 من أبواب صفات القاضی، ح 1،( مع تفاوت).

ص: 351

حیث إنّه عامّ یشمل العادل و غیره، إلّا أنّه قام الإجماع علی اعتبار العدالة فی المجتهد الذی یُرجع إلیه فی القضاء، فإنّ العدالة قید للموضوع فیه، فلا فرق فی ذلک بین المخصِّص اللُّبّی و بین اللفظیّ فی عدم جواز التمسُّک فیه بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة، و إلّا- أی و إن لم یکن المخرج من العناوین التی لا تصلح إلّا أن تکون قیداً للموضوع بل تصلح لتقید الحکم لا الموضوع- یجوز التمسُّک فیه فیها بالعامّ، مثل

(لعن اللَّه بنی امیّة قاطبةً)

(1)؛ حیث إنّ العقل حاکم بأنّ الحکم لا یعمّ المؤمن منهم؛ لأنّ اللعن لا یُصیب المؤمن، فلو علمنا من الخارج: أنّ خالد بن سعید- مثلًا- مؤمن، فهو لا یندرج تحت هذا العامّ، و لکن المتکلّم لم ینبِّهه علی ذلک؛ لمصلحة مقتضیة لذلک، أو للغفلة عن ذلک، کما یتّفق ذلک فی الموالی العرفیّة، فلا یجوز لعنه، و إذا شککنا فی إیمان فرد من بنی امیّة صحّ التمسُّک فیه بالعموم، و یستکشف منه أنّه غیر مؤمن، فأصالة العموم فیه جاریة، و یکون المعلوم خروجه من التخصیصات الفردیّة؛ حیث إنّه لم یؤخذ العنوان قیداً للموضوع، و لم یخرج من العموم إلّا بعض الأفراد.

و السرّ فی ذلک: أنّ ملاکَ الحکم فی الفرض الأوّل و تطبیق العنوان علی مصادیقه، من وظیفة المکلّف و المخاطب و فی عهدته، و فی الفرض الثانی من وظیفة المتکلّم و فی عهدته لا المخاطب، و حیث إنّ إحراز وجود الملاک فی الثانی من وظیفة المتکلّم، کالبغض لأهل البیت و العداوة لهم علیهم السلام فی المثال، و لا یصلح إلقاء هذا العموم إلّا بعد إحراز ذلک، أمکن و صحّ التمسّک بالعموم فی الفرد المشتبه. انتهی(2) ملخّصاً.

وجه ظهور الفساد: أنّ ذلک خروج عن محطّ البحث؛ لما عرفت من أنّ محلّ البحث هنا: هو ما إذا کان الإخراج بالمخصّص اللُّبّی، و شُکّ فی فرد أنّه من مصادیق ذاک العنوان المخرَج أو لا و ما ذکره فی الفرض الثانی- الذی ذکره- لیس کذلک، فإنّ


1- مصباح المتهجد: 716، کامل الزیارات باب 71.
2- فوائد الاصول 2: 536- 537.

ص: 352

مرجعه إلی الشکّ فی التخصیص الزائد و عدمه، و لا ارتباط له بالمقام.

ثمّ إنّه استُدلّ أیضاً- المستدلّ المحقّق النهاوندی قدس سره علی ما حُکی- لجواز التمسُّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص: بأنّ قول القائل: «أکرم العلماء» یدلّ بعمومه الأفرادی علی وجوب إکرام کلّ واحد من العلماء، و بإطلاقه اللحاظی علی سرایة الحکم إلی جمیع حالات الأفراد التی تعرض علیها، و من جملة تلک الحالات کون فرد مشکوک الفسق و العدالة، کما أنّ من جملتها معلومیّة العدالة أو الفسق، و بقوله: «لا تُکرم الفُسّاق منهم» خرج من هو معلوم الفسق منهم، و لم یُعلم خروج الباقین، فمقتضی أصالة العموم و الإطلاق بقاء المشکوک تحت حکم العامّ(1). انتهی.

أقول: إن أراد قدس سره إثبات الحکم الواقعی للفرد المشکوک بالإطلاق اللحاظی، فمرجعه إلی إثبات حکمین واقعیّین مختلفین فعلیّین لفرد واحد بعنوان واحد فی بعض التقادیر، و هذا محال؛ و ذلک لأنّه إذا فُرض أنّ الفرد المشکوک فسقه فاسق واقعاً، فیشمله «لا تکرم الفسّاق»؛ لأنّ حرمة الإکرام متعلّقة بالفسّاق الواقعیّین و المفروض أنّ هذا الفرد فاسق واقعاً، فهو محرّم الإکرام، فلو حکم بأنّه واجب الإکرام بحکم العامّ بعنوانه الواقعی بالإطلاق اللحاظی، لزم ما ذکرنا؛ ضرورة أنّ المراد بالإطلاق المذکور هو أنّ الأفراد محکومة بحکم العامّ بعنوانها الواقعی.

مضافاً إلی ما عرفت مراراً: أنّ الإطلاق اللحاظی هو معنی العموم، و لیس للإطلاق إلّا قسم واحد، و هو أنّ تمام الموضوع للحکم هو هذا، من دون دَخْل شی ءٍ فیه، و لو تُمسّک بالإطلاق بهذا المعنی لإثبات وجوب الإکرام واقعاً للفرد المشکوک- أیضاً- لزم ما ذکرناه فی بعض التقادیر.

و إن أراد التمسُّک بالإطلاق لإثبات الحکم الظاهری؛ من وجوب الإکرام للفرد المشکوک، فإن اخذ فی موضوعه الشکّ فی الفسق؛ بأن یقال: إنّ الفرد المشکوک فسقه


1- انظر تشریح الاصول: 261.

ص: 353

محکوم بوجوب الإکرام ظاهراً، فهو خلاف ما اصطلحوا علیه من الحکم الظاهری، فإنّ الحکم الظاهری المصطلح هو الذی اخذ فی موضوعه الشکّ فی الحکم الواقعی لا غیر ذلک.

و إن أراد أنّه اخذ فی موضوعه الشکّ فی الحکم الواقعی؛ بأن یقال: إنّ الفرد المشکوک أنّه من أفراد الخاصّ- من حیث إنّه مشکوک الحکم بوجوب الإکرام واقعاً- محکوم بأنّه واجب الإکرام ظاهراً، فهو و إن سَلِمَ عن الإشکال المذکور، لکن لا یمکن إنشاء حکمین- أحدهما الواقعی علی أفراد العلماء العدول، و ثانیهما الظاهری بالنسبة إلی الفرد المشکوک- بإنشاء واحد، فالاستدلال المذکور لجواز التمسُّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص، أسوأ حالًا ممّا ذکرناه و قدّمناه.

هنا مسائل:

المسألة الاولی فی إخراج الأفراد بجهة تعلیلیّة

أنّه لو قال: «أکرم العلماء»، ثمّ أَخرج منهم عدّة من أفراده، مثل زید و عمرو و بکر؛ لعلّة مشترکة بینهم، کما إذا عقّبه بقوله: «لأنّهم فسّاق» و شکّ فی فرد مشکوک الفسق و العدالة أنّه أخرجه- أیضاً- أو لا، فهل هو من قبیل الشکّ فی التخصیص الزائد؛ لیصحّ فیه التمسّک بالعامّ بالنسبة إلی ذلک الفرد، أو أنّه من قبیل الشکّ فی مصداق المخصّص، فلا یصحّ التمسُّک فیه بالعموم؟

الظاهر المتبادِر منه عرفاً هو الثانی؛ لأنّ المتبادِر منه فی المتفاهمات العرفیّة هو أنّه أخرج عنوان الفسّاق، لا لخصوصیّة فی زید و عمرو.

ص: 354

المسألة الثانیة فی العامین من وجه

لو صدر من المتکلّم عامّان من وجه، مثل: «أکرم العلماء»، و «لا تُکرم الفُسّاق»، و شکّ فی عالم أنّه فاسق أو لا، أو فی فاسق أنّه عالم أو لا، فإمّا أن یکون أحدهما حاکماً علی الآخر و ناظراً إلیه و شارحاً له، فهو مقدّم علی العامّ الآخر، و حُکمُ العامّ الحاکم هنا حُکمُ المخصِّص فی الشبهة المصداقیّة له.

و ان لم یکن أحدهما حاکماً علی الآخر:

فذهب بعضهم: إلی أنّه یُعامل معهما فی مادّة الاجتماع معاملة المتعارضین، و لیس من باب اجتماع الأمر و النهی، و حینئذٍ فمع ثبوت المزیّة و المرجِّح لأحدهما، فحکمُ ذی المرجِّح حکمُ المخصِّص فی العامّ و الخاصّ المطلق فی عدم جواز التمسُّک بعموم الآخر فی الشبهة المصداقیّة له، فمع تقدیم «لا تکرم الفسّاق» لمرجّحٍ لو شُکّ فی عالم أنّه فاسق أو لا، لا یصحّ التمسُّک بعموم «أکرم العلماء»(1) فی الحکم بوجوب إکرامه.

و ذهب بعضهم إلی أنّهما من باب المتزاحمین لا المتعارضین، فلا بدّ من ملاحظة أنّ الملاک فی أیّهما أقوی(2)، فلو فرض أنّ ملاک أحدهما أقوی من الآخر، فذهب بعضهم إلی أنّ الحکم فی ذی الملاک الضعیف بالنسبة إلی مادّة الاجتماع شأنیّ لا فعلیّ، بل الحکم الفعلیّ إنّما هو لذی الملاک القویّ، و حینئذٍ فلا مزاحم فی الفرد العالم الفاسق- أی مادّة الاجتماع- لحرمة إکرامه؛ لو فرض أنّ ملاک الحرمة أقوی من ملاک


1- انظر فوائد الاصول 4: 708.
2- کفایة الاصول: 211، نهایة الأفکار 2: 412.

ص: 355

الوجوب، و حینئذٍ ففی الفرد المشکوک عدالته یشکّ فی وجود المزاحم لحرمة إکرامه، فلو أکرمه معتذراً باحتماله عدالته لم یُقبل عذره.

و ذهب بعضهم إلی أنّ الحکمین فی المتزاحمین فعلیّان معاً- کما هو المختار- و إن کان ملاک أحدهما أقوی من الآخر، و حینئذٍ فالکلام فی المشکوک مصداقیّته لذی الملاک الأقوی، هو الکلام فی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص.

المسألة الثالثة فی إحراز الموضوع بالأصل فی الشبهة الموضوعیة

قد عرفت أنّه لا یجوز التمسُّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص، لکن هل یجری فیه أصل موضوعی ینقَّح به الموضوع، و ینتج نتیجة التمسُّک بالعامّ فیه، أو لا؟

ذهب بعضهم إلی أنّه لیس فیه أصل موضوعیّ کذلک- ذهب إلیه المحقّق العراقی قدس سره فی المقالات- لا أصل العدم الأزلی و لا غیره(1).

و ذهب بعض آخر کالشیخ(2) و صاحب الکفایة(3) و الحائری قدس سرهم فی بحثه(4) و درسه إلی جریانه مطلقاً.

و فصّل بعضهم بما سیأتی إن شاء اللَّه.

و استدلّ المحقّق العراقی قدس سره بما حاصله: أنّ تخصیص العامّ و إخراج بعض أفراده عن تحته، لیس إلّا کانعدام ذلک البعض، فکما أنّ موت بعض الأفراد لا یوجب


1- مقالات الاصول 1: 152 سطر 3.
2- مطارح الأنظار: 192 سطر 32.
3- کفایة الاصول: 261.
4- درر الفوائد: 219.

ص: 356

تغیُّر عنوان موضوع حکم العامّ، کالعلماء فی المثال، بل هو باقٍ فی تعلّقه بهذا العنوان کما کان قبل موت ذلک البعض، کذلک التخصیص لا یوجب تغیُّر عنوان الموضوع؛ لأنّه لیس هنا إلّا إخراج عدّة من الأفراد، و لا یغیّر ذلک موضوع الحکم، فإذا قال فی المثال: «لا تکرم الفسّاق منهم» و شکّ فی فرد أنّه فاسق أو لا، و کان حالته السابقة عدم الفسق، فاستصحاب عدم فسقه إلی الآن و إن أفاد عدم حرمة إکرامه، لکن لا یثبت به وجوب إکرامه.

و أمّا ما اشتهر من التمسّک بالعامّ فی عدم شرطیّة ما شُکّ فی أنّه مخالف للکتاب أو السنّة، و کذلک الصلح المخالف لکتاب اللَّه المستثنی من عموم (کلّ صلح جائز)(1) فی إثبات نفوذ المشکوک مخالفته لکتاب اللَّه، فالسرّ فیه: أنّه کلّما کان رفع الشکّ فیه من وظیفة الشارع فالتمسّک بالعامّ فیه صحیح، و کلّما کان رفع الشکّ فیه و بیانه لیس من وظیفة الشارع، کالشبهات الموضوعیة، فلا یصحّ التمسّک فیه بالعامّ، و ما ذکر من قبیل الأوّل. انتهی ملخّص کلامه(2).

و یرد علیه: أنّه فرق بین التخصیص و بین انعدام فرد من العامّ و موته، فإنّ موت بعض أفراد العامّ لا یُغیِّر عنوان موضوع حکم العامّ، بل الحکم بوجوب إکرام جمیع أفراد العلماء باقٍ بحاله، و فعلیّ حتّی بالنسبة إلی من مات منهم، غایة الأمر أنّه معذور فی المخالفة، بخلاف التخصیص، فإنّه و إن لا یغیِّر عنوانه بحسب اللفظ، لکن یغیّره لُبّاً و فی نفس الأمر، فالوجوب متعلِّق- بعد التخصیص- بالعلماء الغیر الفُسّاق فی الواقع و نفس الأمر، و إن لم یکن کذلک بحسب اللفظ، بل الموضوع بحسبه هو الموضوع قبل التخصیص، و حینئذٍ فالقیاس فی غیر محلّه.


1- الکافی 5: 259 باب الصلح ح 5، الوسائل 13: 164 انظر باب 3 من أبواب أحکام الصلح، لکن فی المصدر( الصلح جائز).
2- مقالات الاصول 1: 152 سطر 4.

ص: 357

و أمّا ما ذکره فی آخر کلامه فهو خلط فی محطّ البحث؛ لأنّ البحث إنّما هو فی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص، و هی شبهة موضوعیّة خارجیّة أبداً، فلو فُرض الشکّ فی شرط أو صلح أنّه مخالف لکتاب اللَّه أو سنّة نبیّه صلی الله علیه و آله و سلم من جهة الشبهة الحکمیّة، فهو خارج عن محلّ الکلام؛ أی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص.

و استدلّ المحقّق الحائری قدس سره فی درسه لجواز إجراء الأصل الموضوعی مطلقاً:

بأنّه لو شکّ فی مصداقیّة فرد للخاصّ- کالشکّ فی عالم أنّه فاسق أو لا فی المثال- و فُرض أنّ حالته السابقة عدم الفسق، جری فیه استصحاب عدم فسقه، و إذا ثبت أنّه غیر فاسق بالأصل وجب إکرامه؛ لأنّ المفروض أنّه یجب إکرام العلماء، و هو- أیضاً- من أفرادهم، و مع عدم الحالة السابقة لعدم فسقه، أمکن جریان أصل العدم الأزلیّ.

توضیحه: أنّ العوارض علی قسمین: عارض الماهیّة؛ أی الذی یعرضها مع قطع النظر عن الوجودین الذهنی و الخارجی، کالزوجیّة للأربعة، و عارض الوجود کالسواد و البیاض، و هو- أیضاً- إمّا لازم أو مفارق، و حینئذٍ نقول: إنّ القرشیّة- مثلًا- من عوارض الوجود؛ لأنّها عبارة عن انتساب المرأة إلی قریش، و المرأة و إن کانت إذا وُجدت وُجدت إمّا قرشیّة أو غیر قرشیّة، لکن لو شُکّ فی امرأة أنّها منتسبة إلی قریش أو لا، یمکن أن یُشار إلی ماهیّتها، و یقال: إنّها لم تکن بحسب الماهیّة قرشیّة، فالأصل هو عدم عروض القرشیّة علی وجودها للشکّ فیه، فیشمله عموم: أنّ المرأة التی لیس بینها و بین قریش انتساب تحیض إلی خمسین. انتهی ملخّص کلامه.

أقول: لا بدّ هنا من تقدیم امور:

الأوّل: أنّ القضایا علی أقسام: لأنّها إمّا بسیطة أو مرکّبة، موجبة أو سالبة، و کلّ منها: إمّا معدولة أو محصّلة.

و ذکروا: أنّ النسبة من مُقوِّمات القضیّة، و أنّها مرکّبة من أجزاء ثلاثة:

ص: 358

الموضوع و المحمول و النسبة بینهما، و الاختلاف إنّما هو فی الجزء الرابع، لکنّهم اتّفقوا فی أنّه لا بدّ من النسبة بین الموضوع و المحمول فیها.

لکن لیس کذلک، بل منها ما لا تشتمل علی النسبة، بل لا تحکی إلّا عن الهوهویة و الاتّحاد، مثل: «زید زید»، و «زید إنسان» و «اللَّه- تعالی- موجود» و «الإنسان حیوان ناطق» و «الإنسان ممکن» ... إلی غیر ذلک؛ لأنّه لا ریب فی أنّ القضیّة إنّما تحکی عن الواقع و نفس الأمر، و لا ریب فی أنّه لیس بین زید و نفسه نسبة و ارتباط، و کذلک بین زید و الإنسان؛ لاتّحاده معه فی الخارج، و کذلک بینه و بین الوجود، و إلّا یلزم زیادة الوجود علی الماهیّة فی الخارج، و کذلک بینه و بین الشی ء؛ لاتّحاده معه فیه، و إلّا یلزم التسلسل، و صرّحوا- أیضاً- بأنّ الإنسان عین الحیوان الناطق، الذی هو حدّ له، و أنّ الفرق بینهما إنّما هو بالإجمال و التفصیل.

و بالجملة: لا ریب فی أنّه لیس بین الموضوع و المحمول فی هذه القضایا نسبة و ربط لأحدهما بالآخر فی الواقع و نفس الأمر، بل الموضوع فیها متّحد مع المحمول و عینه ضرورةً، و کذا المعنی المعقول منها- أی القضیّة المعقولة منها- لأنّ المفروض أنّه معقول منها، و لیس فیها نسبة، فکذلک فی المعقول منها، و إلّا لم یکن معقولًا منها، و کذلک القضیّة الملفوظة لیس بین الموضوع و المحمول فیها نسبة؛ لأنّها حاکیة عن الواقع، و لیس فی الواقع نسبة بینهما؛ حتّی تَحکی النسبة فی القضیّة الملفوظة عنها، و کذلک المفهوم منها، بل الهیئة فی القضایا المذکورة تحکی عن الاتّحاد و الهوهویة الخارجیّة، و معنی السوالب من هذه القضایا هو سلب الاتّحاد و الهوهویّة، فمعنی «أنّ زیداً لیس بحجر» أنّه لیس متّحداً معه فی الخارج، و سمّینا هذا القسم من القضایا بالقضایا المستقیمة غیر المؤوّلة.

و من القضایا ما تشتمل علی ثلاثة أجزاء: الموضوع و المحمول و النسبة بینهما، نحو: «زید علی السطح»، فإنّه لا یُراد منها أنّ زیداً متّحد مع السطح، و لا مع کونه علی

ص: 359

السطح؛ لأنّ الکون فیه رابطیّ، و هذا القسم من القضایا التی لا تحکی عن الهوهویّة الخارجیّة سمّیناها بالقضایا المؤوّلة.

و ممّا یدلّ علی ما ذکرنا: صدق قولنا: «زید له البیاض»، و عدم صدق قولنا:

«زید بیاض»، و لیس ذلک إلّا لأجل أنّ الهیئة فی الثانی تدلّ علی الهوهویّة و الاتّحاد، و لیس خارجُه کذلک. هذا فی الموجبات.

و أمّا السوالب فاختلفوا: فی أنّه هل تشتمل علی نسبة سلبیّة(1)؛ لیکون مفادها ربط السلب، أو أنّه لیس فیها نسبةٌ، و أنّ مفادها سلب الربط و الانتساب، فحیث إنّه لیس فی الخارج شریکُ الباری و وجودٌ و ارتباط بینه و بین ذلک الوجود، و ثبت فی محلّه أنّ صِرف الشی ء لا یتکرّر(2)، امتنع أن یکون له تعالی ثانٍ و شریک یتصوّر أنّه شریک الباری فی النفس، و یُحکم بأنّه ممتنع، و أنّه لیس بینه و بین الوجود نسبة و ارتباط، و حینئذٍ یحکم بسلب الربط بینهما، و إلّا فلا یعقل وجود النسبة بین الشی ء و العدم فی الخارج؛ لاحتیاجها إلی وجود المنتسبین فیه، و ذلک واضح.

و بالجملة: المقصود هو أنّه لیس جمیع القضایا متقوّمة بالنسبة؛ لعدم اشتمال بعضها علیها، بل هی مرکّبة من جزءین، و بعضها مشتملة علی النسبة، و أنّها مرکّبة من ثلاثة أجزاء، و بعضها مرکّبة من أربعة أجزاء، و بعضها من خمسة أجزاء.

الثانی: أنّهم ذکروا أنّ المناط فی صدق القضیة و کذبها هو أنّه إن کان الکلام لنسبته خارج تطابقه(3) أو لا تطابقه فهو إخبارٌ و إلّا فإنشاء.

و الحقّ أنّه لیس کذلک، بل التحقیق: أنّ ما به تتقوّم الجملة الخبریّة هو احتمال الصدق و الکذب، و أنّ الملاک التامّ لاحتمالهما هو الحکایة التصدیقیّة، سواء کانت


1- النجاة: 13، شرح المنظومة- قسم المنطق- : 51.
2- شرح المنظومة- قسم الفلسفة- : 43 سطر 4.
3- المطوّل: 30 سطر 15، المنظومة قسم الفلسفة: 54 سطر 2. القوانین: 419 سطر 10.

ص: 360

حکایة عن الهوهویّة التصدیقیّة، أو عن النسبة التصدیقیّة، فإنّ الهیئة فی قولنا: «زید إنسان» تحکی عن الهوهویّة التصدیقیّة، و فی قولنا: «زید علی السطح» عن النسبة التصدیقیّة، بخلاف «رجل عالم» أو «زید العالم» بنحو التوصیف، فإنّ الهیئة فیهما تحکی عن الهوهویّة التصوّریّة و فی «غلام زید» عن النسبة التصوُّریّة؛ لما عرفت من عدم اشتمال جمیع القضایا علی النسبة.

و مناط الصدق و الکذب هو مطابقة هذه الحکایة التصدیقیّة- سواء کانت إیجابیّة أو سلبیّة- للواقع و نفس الأمر و عدمها، مثلًا: لو قال: «زید قائم» أو «فی الدار»، فإن کان زید کذلک فی نفس الأمر فالقضیّة صادقة، و إلّا فکاذبة.

الأمر الثالث: قد عرفت أنّ القضایا مختلفة؛ لأنّها إمّا موجبة أو سالبة، و کلٌّ منهما: إمّا محصّلة أو معدولة.

و لها قسم آخر: و هی الموجبة السالبة المحمول، و هی التی تنحلّ إلی قضیّتین، مثل: «زید هو الذی لیس بقائم»، و هذه کالقضایا الموجبات المحصّلات و المعدولات، لا بدّ لها من وجود الموضوع؛ لأنّ ثبوت شی ء لشی ء فرع ثبوت المثبت له، و إن کان الثابت وصفاً عدمیّاً، بخلاف السالبة المحصّلة، فإنّه یمکن صدقها بانتفاء موضوعها، و أمّا القضیّة الموجبة المحمول فإنّها و إن أمکن تصویرها، مثل: «زید هو الذی قائم»، لکن لم یعدّوها من القضایا المعتبرة فی العلوم.

الأمر الرابع: الموضوع فی القضیّة لا بدّ أن یکون: إمّا مفرداً، أو بحکم المفرد کالهوهویّة التصوّریة، مثل: «زید العالم»، أو النسبة التصوّریة، نحو: «غلام زید»، لا جملةً تدلّ علی الهوهویّة التصدیقیّة أو النسبة التصدیقیّة لعدم إمکانه. و أمّا قولنا:

«زیدٌ قائمٌ غیرُ عمرٌو جالس»، فمعناه: أنّ هذه الجملة غیر تلک. و کذلک المحمول.

إذا عرفت هذا فنقول: إذا ورد عامّ، مثل: «أکرم العلماء»، و خاصّ مثل:

«لا تکرم الفُسّاق منهم» من المخصِّص المنفصل، أو کالاستثناء من المخصِّص المتّصل، فلا

ص: 361

ریب و لا إشکال فی أنّ التخصیص المذکور یوجب تغیُّر عنوان موضوع العامّ بحسب الجدّ، و أنّه العلماء الغیر الفسّاق.

فقال فی «الکفایة»: إنّ الباقی تحت العامّ بعد التخصیص حیث إنّه غیر مُعنوَن بعنوان خاصّ، بل بکلّ عنوان لم یکن ذلک بعنوان الخاصّ، فلجریان الأصل الموضوعی فی الشبهة المصداقیّة- إلّا ما شذّ- مجال واسع، فیمکن استصحاب عدم تحقُّق الانتساب بین المرأة المشکوک کونها قرشیّة و بین قریش، فیحکم بأنّها تری الحُمرة إلی خمسین سنة؛ لأنّ کلّ مرأة کذلک إلّا القرشیّة. انتهی(1) حاصله.

و قال الاستاذ الحائری قدس سره فی درسه: إنّه یمکن أن یُشار إلی المرأة المشکوکة، فیقال: هذه لم تکن بحسب الماهیّة فی الأزل قرشیّة، فیُستصحب عدم قرشیّتها، و یحکم علیها بأنّها تری الحمرة إلی خمسین سنة، و قال الشیخ الأعظم قدس سره(2) ما یقرب من هذا المعنی.

أقول: قد عرفت أنّ التخصیص لا یوجب تغیّر عنوان موضوع حکم العامّ، و حینئذٍ فإمّا أن یصیر الموضوع بعد التخصیص: هو کلّ امرأة متّصفة بأنّها غیر قرشیّة بنحو القضیّة المعدولة، و إمّا بنحو الموجبة السالبة المحمول، مثل: «کلّ امرأة لیست قرشیّة»، لا بنحوٍ یجعل القضیّة موضوعة للحکم؛ لما عرفت أنّه غیر ممکن، بل المراد أخذ الموضوع نظیر المعدولة أو الموجبة السالبة المحمول.

و لا یمکن أن یؤخذ الموضوع بنحو السالبة المحصّلة، التی یمکن صدقها بانتفاء الموضوع، مثل: «کلّ امرأة لیست قرشیّة» و لو لعدم وجود المرأة؛ لأنّه لا یعقل أن یُحکم بإثبات حکمٍ لموضوعٍ عدمیٍّ، نعم لو فُرض وجود الموضوع- کالمرأة فی المثال- أمکن أخذ الموضوع بنحو السلب المحصّل أیضاً.


1- کفایة الاصول: 261.
2- مطارح الأنظار: 194 سطر 30.

ص: 362

فإن اخذ الموضوع بعد التخصیص بأحد النحوین الأوّلین- أی بنحو العدول أو الموجبة السالبة المحمول- فلا ریب فی أنّ استصحاب عدم القرشیّة بأحد النحوین المذکورین، فرع ثبوت الموضوع، و لیس للاستصحاب المذکور حالة سابقة؛ لأنّه لم تکن المرأة موجودة فی زمان سابق متّصفةً بعدم القرشیّة؛ کی یستصحب ذلک العدم.

و استصحاب العدم الأزلی لا یفید؛ لأنّ عدم تحقّق الانتساب بینها و بین قریش فی الأزل إنّما هو بانتفاء الموضوع، مضافاً إلی أنّ ذلک الأصل لا یُثبت عنوان «المرأة التی لیست بقرشیّة».

و إن اخذ بنحو السالبة المحصّلة مع فرض وجود الموضوع، فلیس للمستصحب حالة سابقة؛ لأنّها لم تکن موجودة فی زمان مع العلم بعدم قرشیّتها کی یُستصحب ذلک العدم.

و لو سُلِّم أنّه اخذ فی الموضوعِ المرأةُ مع عدم کونها قرشیّة بنحو السلب المحصّل و لو بانتفاء الموضوع، و أغمضنا النظر عن عدم معقولیّته، فإنّه یرد علیه:

أوّلًا: أنّ القضیّة المتیقّنة فیه لیست متّحدة مع المشکوکة، لأنّ القضیّة المتیقّنة هو عدم کون المرأة قرشیّة لأجل عدم وجودها، و أمّا القضیّة المشکوکة فهی عدم قرشیّة المرأة الموجودة المشار إلیها ب «هذه»، و هی فرد خاصّ من المرأة، و یشترط فی الاستصحاب اتّحاد القضیّة المتیقّنة و المشکوکة.

و ثانیاً: أنّ هذا الاستصحاب مثبِت؛ لأنّ صدق السالبة- و لو بانتفاء الموضوع- أعمّ من صدقها مع وجود الموضوع، فاستصحاب عدم القرشیّة بنحو السلب المحصّل- بانتفاء الموضوع الذی هو أعمّ- لا یثبت عدم القرشیّة بنحو السلب المحصّل مع وجود الموضوع؛ لأنّ عدم قرشیّة هذه المرأة أثر عقلیّ للمستصحب المذکور، و حینئذٍ فما ذکروه فی المقام لا یمکن تصحیحه بوجه من الوجوه.

هذا کلّه بالنسبة إلی استصحاب العدم الأزلی فی الموارد التی لیست لها حالة سابقة.

ص: 363

و أمّا لو فرض أنّ للمستصحب حالة سابقة، فلا إشکال فی الاستصحاب الموضوعی فی الجملة فی بعض الموارد، لا فی جمیعها.

توضیح ذلک: أنّه إذا ورد «أکرم العلماء» و خُصّص بقوله: «لا تُکرم الفُسّاق منهم»، و فُرض الشکّ فی فرد أنّه فاسق أو لا، فقد عرفت أنّ الخاصّ یغیّر عنوان العامّ بحسب الجدّ، و أنّ الموضوع للعامّ بحسب الجدّ هو العالم الغیر الفاسق؛ بنحو العدم النعتی، أو الموجبة السالبة المحمول.

فإن کان للفرد المشکوک حالة سابقة، و کان مسبوقاً بعدم الفسق فی الزمان السابق، مع العلم ببقاء علمه، و إنّما الشکّ فی بقاء عدالته، فلا إشکال فی جریان استصحاب عدم فسقه، فیحکم بأنّه عالم غیر فاسق، و یُنقَّح به موضوع وجوب الإکرام، فیجب إکرامه.

و لو علم باتّصافه بعدم الفسق سابقاً و عدم اتّصافه بالعلم، ثمّ صار عالماً بالوجدان، و شکّ فی بقاء عدالته و عدم فسقه، ففی جریان الاستصحاب إشکال؛ لأنّ موضوع العامّ بحسب الجدّ هو عنوان العالم الغیر الفاسق، و استصحاب عدم فسق زید لا یثبت هذا العنوان، غایة الأمر أنّه بعد استصحاب عدم فسق زید، و بعد العلم بصیرورته عالماً، یحکم العقل بأنّه عالم غیر فاسق، لکنه حکم عقلیّ لیس بمستصحب، و المستصحب هو عدم فسق زید، لا العالم الغیر الفاسق کی ینقّح به موضوع حکم العامّ، مع أنّه یعتبر فی استصحاب الموضوعات ترتُّب أثرٍ شرعیٍّ علیها، بل معنی الاستصحابات الموضوعیة هو إثبات صغری لکبری کلّیّة شرعیّة، و أمّا خفاء الواسطة التی ذکروها، فإن کان بحیث یُعدّ الأثر للمستصحب عرفاً فهو صحیح، و إلّا فلا.

و لو علم اتّصاف زید بالعدالة فی الزمان السابق، و علم باتّصافه بالعلم کذلک، لکن لم یعلم اتّحاد الزمانین فی السابق؛ بأن لم یعلم بعدالته فی زمان اتّصافه بالعلم، أو فی غیر ذلک الزمان، فهو مثل القسم الثانی فی عدم جریان الاستصحاب؛ لعین ما ذکر.

ص: 364

و بالجملة: المناط فی جریان الاستصحاب فی الشبهات المصداقیّة للمخصِّص، هو کون المستصحب عین موضوع العامّ، لا ما یلازمه عقلًا.

المسألة الرابعة فی التمسّک بالعامّ لکشف حال الفرد

ذکر بعضٌ: أنّه قد یُتمسّک بالعمومات فیما لو شُکّ فی فرد لا من جهة التخصیص، بل من جهة اخری، کما لو شُکّ فی صحّة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف، فیستکشف صحّته بعموم، مثل: «أوفوا بالنذور» فیما لو نذره کذلک؛ بأن یقال: الإتیان بهذا الوضوء واجب وفاءً بالنذر للعمومات، و کلّما وجب الوفاء به و الإتیان به، فهو لا محالة صحیح؛ للقطع بأنّه لو لا صحّته لما وجب الوفاء به، فیحکم کلّیّاً: بأنّ الوضوء بالماء المضاف صحیح و لو فیما لم یقع متعلَّقاً للنذر(1).

و ربّما یؤیّد ذلک: بما ورد من صحّة الإحرام قبل المیقات(2)، و الصیام فی السفر(3)، و النافلة فی وقت الفریضة(4)؛ بناءً علی المنع عنها.

و فیه: أوّلًا: أنّ العموم المذکور و نحوه محکوم بقوله:

(لا نذر إلّا فی طاعة اللَّه)

(5)، و عموم وجوب إطاعة الولد للوالد محکوم بقوله:

(لا طاعة لمخلوق فی


1- قرَّره فی مطارح الأنظار: 195- 196.
2- التهذیب 5: 53- 54 باب 6 من کتاب الحج ح 8- 10، الوسائل 8: 236 انظر باب 13 من أبواب المواقیت.
3- التهذیب 4: 235 باب 57 من کتاب الصیام ح 63، الوسائل 7: 141 باب 10 من أبواب من یصح منه الصوم ح 7.
4- الکافی 3: 388 باب التطوّع فی وقت الفریضة ح 3.
5- نصب الرایة 3: 278 مع اختلاف فی اللفظ.

ص: 365

معصیة اللَّه)

(1)؛ لأنّها عرفاً شرح و تفسیر للعمومین المذکورین، و حینئذٍ فالکلام فی التمسُّک فی الشبهة المصداقیّة للحاکم بالعمومین، هو الکلام فی التمسُّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص بلا فرق بینهما.

و ثانیاً: سلّمنا عدم حکومتهما علی العمومین، لکن لا أقلّ من أنّهما مخصِّصان لهما، و حینئذٍ فالمنذور الذی شُکّ فی أنّه طاعة، أو شُکّ فیما أمر به الوالد أنّه مباح أو لا، من قبیل الشکّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص، و التمسُّک بالعامّ فیها غیر جائز کما مرّ.

و ثالثاً: ما ذکروه أسوأ حالًا من التمسُّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص؛ لأنّه مضافاً إلی أنّه کذلک فیه استکشاف لحال الموضوع من صحّة الوضوء المذکور و إباحة المنذور، نظیر التمسّک بعموم «أکرم العلماء» فی إثبات أنّ زیداً عالم، و لا یخفی علی أحد فساده کما فی «الکفایة»(2).

و أمّا التأیید المذکور فلا ربط له بما نحن فیه؛ لأنّ المقصود ممّا ذکر هو التمسُّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص، و لا شبهة فی حرمة الإحرام قبل المیقات و کذلک الصوم فی السفر، غایة الأمر أنّه قام دلیل خاصّ علی صحّة النذر فیهما بأحد التوجیهات التی ذکرها فی «الکفایة»(3)، و لیس هنا مقام تفصیلها، و البحث فیه موکول إلی الفقه.

اللّهمّ إلّا أن یقال: إنّ التأیید المذکور إنّما هو بلحاظ أنّ النذر إذا صحّ فیهما صحّ فیما نحن فیه بالطریق الأولی.


1- عوالی اللآلی 1: 444 ح 164. فی المصدر( لا طاعة لمخلوق ...).
2- کفایة الاصول: 262.
3- کفایة الاصول: 263.

ص: 366

المسألة الخامسة فی التمسّک بالعامّ عند الشکّ بین التخصیص و التخصّص

لو قال: «أکرم العلماء»، و عُلم بحرمة إکرام زید المشکوک أنّه عالم أو لا، فإن کان عالماً فی نفس الأمر لزم التخصیص فی العامّ المذکور، و إلّا فهو خارج موضوعاً.

و بالجملة: إذا دار الأمر فیه بین التخصیص و التخصُّص، فهل یصحّ التمسُّک بعموم «أکرم العلماء» و أصالة عدم تخصیصه فی إثبات أنّه غیر عالم أو لا، و علی الثانی ما السرّ فی عدم الجواز؟

قال الشیخ قدس سره: إنّ دیدن العلماء و دأبهم مستقرّ علی التمسُّک بالعامّ فی إثبات عدم فردیّة المشکوک له؛ لأنّهم یتمسّکون لإثبات عدم نجاسة ماء الغُسالة المنفصلة من المتنجِّس بعموم «کلّ نجس منجِّس»، فلمّا ثبت أنّ الغُسالة غیر منجِّسة لملاقیها یستکشف أنّها لیست نجسة؛ لأنّ کلّ نجس منجِّس لملاقیه(1).

و تمسّک فی «الکفایة»- فی باب الصحیح و الأعمّ- لإثبات أنّ الصلاة موضوعة للصحیحة منها بعموم «الصَّلاةَ تَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ»(2)، و حیث إنّ الفاسدة لیست کذلک قطعاً یستکشف منه أنّها لیست بصلاة؛ لأنّ کلّ صلاة ناهیة عنهما(3).

و قال- فی ما نحن فیه- ما حاصله: إنّه لا یجوز ذلک؛ لأنّ الدلیل علی حجّیّة أصالة العموم هو بناء العقلاء، و هو دلیل لُبّیٌّ لا بدّ من الاقتصار فیه علی القدر المتیقَّن،


1- انظر مطارح الأنظار: 196 سطر 15.
2- العنکبوت: 45.
3- کفایة الاصول: 45.

ص: 367

و المثبِتات من الاصول اللفظیّة و إن کانت حجّة، لکن لم یُحرز هنا بناء العقلاء علی أصالة العموم؛ لاحتمال اختصاص بنائهم علیها بما إذا لم یکن المراد معلوماً، و أنّه أراد الحقیقة أو لا، و المراد فیما نحن فیه معلوم(1).

و قال المحقِّق العراقی قدس سره فی توضیح ذلک ما حاصله: إنّ قوله: «أکرم العلماء» و إن کان بمنزلة الإخبار عن وجوب إکرامهم؛ فی جریان أصالة العموم و أصالة تطابق إرادتی الجدّ و الاستعمال، و أنّ عکس نقیضه هو أنّ من لا یجب إکرامه فهو لیس بعالم، لکن حیث إنّ أصالة العموم و الحقیقة أصل تعبّدیّ من العقلاء، فلا بدّ من إحراز التعبُّد به فی إثبات هذا لعکس النقیض الذی هو لازم للقضیّة، فإنّه لازم واقعیّ یحتاج فی إثباته إلی وقوع التعبُّد به، نظیر أصالة الصحّة بالنسبة إلی ملزوماتها، فإنّها من الاصول اللفظیّة، لکن لا یثبت بها جمیع الآثار العقلیّة و الواقعیّة؛ لعدم إثبات الملزومات بها.

و بعبارة اخری: السرّ فی عدم جواز التمسُّک بالعموم فیما ذکر: هو أنّه إنّما یجوز التمسُّک بالعامّ فی إثبات عدم کون الفرد المشکوک مصداقاً للعامّ، مع العلم بأنّه لیس محکوماً بحکمه، إذا فُرض أنّ العامّ متعرِّض لبیان حال الأفراد، و قوله: «أکرم العلماء» لیس کذلک، فلا یجوز التمسُّک به فی نفی مصداقیّة المشکوک له، کما مرّ فی بیان عدم جوازه فی الشبهة المصداقیّة؛ لعدم الفرق بین ما نحن فیه و بین تلک المسألة إلّا أنّ المقصود هاهنا نفی مصداقیّة المشکوک له، و هناک إثبات مصداقیّته له.

و بالجملة: حیث إنّ العمومات متکفّلة لبیان الحکم الکلی للأفراد بدون التعرُّض لتشخیص الأفراد و حالاتها، فلا یجوز التمسّک بها لنفی فردیّة المشکوک لها(2). انتهی.


1- کفایة الاصول: 264.
2- مقالات الاصول 1: 153- 154.

ص: 368

أقول: لا بدّ من ملاحظة أنّ عکس النقیض الذی هو لازم غیر منفکٍّ عن القضیّة، هل هو لازم لنفس العامّ و مجرّد الکبری الکلّیّة، أو أنّه لازم للعامّ المتعرِّض للأفراد و حالاتها؟

لا ریب فی أنّه لنفس القضیّة و العموم، و حینئذٍ یرد علیه: أنّه بعد تسلیم جریان أصالة العموم و أصالة تطابق الجدّ و الاستعمال، و أنّه یجب إکرام کلّ فردٍ فردٍ من العلماء؛ بلا استثناء فرد منه بحسب الجدّ، لا محیص عن الالتزام بأنّ من لا یجب إکرامه فهو لیس بعالم؛ لأنّ عکس نقیض القضیّة لازم لها غیر منفکّ عنها، بل هو عینها، و إلّا لم یکن العامّ عامّاً. هذا خلف. فمع تسلیم عموم وجوب إکرام العلماء بحسب الجدّ، لا یمکن عدم تسلیم أنّ من یحرم إکرامه فهو لیس بعالم، الذی هو عکس النقیض.

و أمّا عدم جواز التمسُّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة، فقد عرفت أنّ السرّ فیه هو عدم جریان أصالة الجدّ فیه.

فالتحقیق: أنّ السرّ فی عدم جواز التمسُّک بالعامّ فی المقام هو عدم جریان أصالة العموم و الحقیقة فیه؛ لأنّ الدلیل علیها هو بناء العقلاء الذی لم یحرز فی جمیع الموارد، بل فی الموارد التی تُؤدّی إلی الاحتجاج و المخاصمة و اللجاج، کما فی الخطابات الصادرة من الموالی العُرفیّة إلی عبیدهم، و لذلک تری عدم بنائهم علیها فی أشعار السعدی أو امرئ القیس- مثلًا- مع بنائهم علیها فی موارد اخری.

و بالجملة: المسلّم المقطوع به من بنائهم علیها، إنّما هو فیما إذا لم یعلم مراد المتکلّم أنّه أراد الحقیقة و العموم من قوله: «أکرم العلماء»، أو أراد الخصوص باستعمال العامّ فی بعض الأفراد مجازاً، لا فیما عُلم المراد، کما فی ما نحن فیه.

ص: 369

المسألة السادسة فی التمسّک بالعامّ إذا کان المخصّص مجملًا

و أمّا إذا علم بحرمة إکرام مسمّی زید، و دار أمره بین زید بن عمرو العالم؛ لیلزم التخصیص فی العموم، و بین زید بن بکر الجاهل، فلا یلزم التخصیص، و أنّ خروجه من باب التخصّص، فیمکن أن یقال: إنّه یحکم بوجوب إکرام زید العالم؛ لجریان أصالتی الجدّ و العموم فی العامّ، فیلزمه حرمة إکرام زید الجاهل؛ للعلم إجمالًا بحرمة إکرام أحدهما، فإذا ثبت وجوب إکرام الأوّل یلزمه حرمة إکرام الثانی، بخلاف الفرض السابق.

ص: 370

ص: 371

الفصل الثامن هل یجوز التمسُّک بالعامّ- بل فی جمیع الظواهر- قبل الفحص عن المخصِّص و المعارض، أو لا؟

و الکلام هنا فی امور:

الأوّل: فی محطّ البحث:

قال فی «الکفایة»: إنّ محطّ البحث فیه هو بعد فرض حجّیّة العموم من باب الظنّ النوعی للمشافَه و غیره، مع عدم العلم الإجمالی بوجود المخصِّص(1):

أمّا اعتبار حجّیّة أصالة العموم للمشافَه و غیره فواضح.

و أمّا اعتبار حجّیّتها من باب الظنّ النوعی، فلأنّها لو کانت من باب الظنّ الشخصی، فالمناط هو فعلیّة الظنّ و عدمها قبل الفحص و بعده.

و أمّا اعتبار عدم العلم الإجمالی بالمخصِّص، فلا بأس بالکلام علی کلا تقدیری وجود العلم الإجمالی به و عدمه.

الثانی: البحث فی وجوب الفحص

إنّما هو فی المخصِّصات المنفصلة، و أمّا


1- انظر کفایة الاصول: 264.

ص: 372

المتّصلة منها فلا یجب الفحص عنها بلا کلام؛ لأنّ احتمال وجود المخصّص المتّصل و عدم وصوله إلینا هو- مثل احتمال قرینیّة المجاز- ممّا لا یعتنی به العقلاء، کما فی «الکفایة»(1).

الثالث: هل یفرّق بین الفحص هنا و بینه فی باب البراءة أو لا؟
اشارة

و فرّق بینهما فی «الکفایة»: بأنّ الفحص هنا إنّما هو عن وجود المزاحم للحجّة، بخلافه هناک، فإنّه عن مُتمّم الحجّة، فإنّ موضوع البراءة العقلیّة هو عدم البیان، و المراد به هو البیان المتعارف، و لا یلزم وصوله إلی المکلّف بنفسه، فلا بدّ أن یُحرز عدم البیان فی جریان البراءة بالفحص.

و أمّا البراءة النقلیّة فإطلاق أدلّتها و إن یشمل ما قبل الفحص، إلّا أنّ الإجماع بقسمیه مُقیّد له بما بعد الفحص(2).

فنقول:

أمّا وجوب الفحص عن المخصِّص مع عدم العلم الإجمالی بوجوده فی البین-

کما هو الحقّ فی محطّ البحث- فالحقّ کما ذکره فی «الکفایة» من التفصیل بین ما کان العامّ فی مَعرض التخصیص، و بین ما لم یکن کذلک، فیجب الفحص فی الأوّل دون الثانی.

فالأوّل مثل الخطابات الصادرة من الشارع فی مقام جعل القوانین الکلّیّة، مثل قوله تعالی: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(3)، و نحوُه کثیرٌ فی الکتاب المجید و أحادیث سیّد المرسلین صلی الله علیه و آله و سلم.

و الثانی کما فی الخطابات العُرفیّة من الموالی العُرفیّة إلی عبیدهم، الصادرة لا فی


1- کفایة الاصول: 265.
2- انظر کفایة الاصول: 265- 266.
3- المائدة: 1.

ص: 373

مقام جعل القوانین الکلّیّة؛ و ذلک لأنّ الاحتجاج فی مقام المخاصمة و اللجاج یتوقّف علی ظهور الکلام فی العموم و جریان أصالة الجدّ، و البناء علی ذلک من العقلاء ثابت فی العمومات الصادرة منهم فی مُحاوراتهم العُرفیّة، لا فی مقام جعل القانون. و أمّا فی مقام جعل القوانین، فقد استقرّ بناء العقلاء و دیدنهم علی الفحص عن المخصِّصات للعمومات الصادرة فی هذا المقام، و لیس بناؤهم علی أصالة الظهور و الجدّ فیها بمجرّد صدورها، و العمومات الصادرة من الشارع من هذا القبیل(1)، و هو المراد من مَعْرَضیّتها للتخصیص، کما عرفت أنّه استقرّ بناء العقلاء علی جعل القوانین الکلّیّة أوّلًا، ثمّ بیان المخصِّصات و المُقیّدات و الاستثناءات فی موادّ و فصول متأخّرة عنه، و بعد الفحص بالمقدار المعتبر تخرج عن المَعْرَضیّة للتخصیص، و حینئذٍ یصحّ التمسُّک بها.

و انقدح ممّا ذکرنا: أنّه لا فرق بین الفحص هنا و بینه فی مسألة البراءة، و أنّ البحث فی کلا المقامین إنّما هو عن مُتمِّم الحجّیّة، فکما أنّه لا یصحّ الاحتجاج بأصالة البراءة إلّا بعد الفحص عن الدلیل و البیان، کذلک فیما نحن فیه، فإنّ العامّ بمجرّد صدوره و ظهوره لیس حجّة تامّة یصحّ الاحتجاج به، إلّا بعد جریان أصالة الجدّ، التی لا تجری إلّا بعد الفحص عن المخصِّص، فلا فرق بین المقامین فی أنّ الفحص إنّما هو عن مُتمّم الحجّة.

ثمّ إنّه قد یقال- و القائل شیخنا الحائری قدس سره-: إنّه لو ظُفر بالفحص بمخصِّص مجمل بحسب المفهوم؛ مردّد بین الأقلّ و الأکثر کالفاسق المردّد بین مرتکب الکبائر و الصغائر أو الکبائر فقط، فإجماله یسری إلی العامّ و یصیر مُجملًا(2).

لکن بعد التأمّل فیما ذکرنا تعرف: أنّ ما ذکره قدس سره غیر مستقیم؛ لما عرفت من أنّ العامّ ظاهر فی عمومه قبل الفحص و بعده، مع الظفر بالمخصّص و عدمه، غایة الأمر


1- انظر کفایة الاصول: 265.
2- انظر درر الفوائد: 223- 224.

ص: 374

أنّه لا یصحّ الاحتجاج بهذا الظهور، إلّا بعد جریان أصالة الجدّ، و هی لا تجری إلّا بعد الفحص عن المخصِّص، فإذا تفحّص و ظفر بالخاصّ المذکور، یرفع الید عن العموم و عن أصالة الجدّ بالنسبة إلی ما قامت الحجّة علی خلافه، و هو الأقلّ القدر المتیقّن خروجه من العموم، و أمّا الأکثر کالمرتکب للصغائر فی المثال، فلیس الخاصّ حجّة فیه مع شمول العامّ له، و لا مانع من جریان أصالة الجدّ فیه أیضاً.

هذا کلّه فیما لو لم یُعلم إجمالًا بوجود المخصِّصان.

و أمّا لو عُلم بوجودها إجمالًا فاستُدلّ لوجوب الفحص
اشارة

- حینئذٍ- و عدم جواز التمسُّک بالعامّ قبل الفحص: بأنّ مقتضی العلم الإجمالی بها و بالمُقیِّدات الکثیرة للإطلاقات الواردة فی الشریعة- حتی قیل: «ما من عامّ إلّا و قد خُصّ»(1)، و ما من مطلق إلّا و قد قُیِّد- هو عدم جواز التمسُّک بها قبل الفحص و الیأس عن المخصِّص، و بعده ینحلّ العلم الإجمالی بالظفر بعدّة من المخصِّصات.

و اورد علیه بوجهین:

الوجه الأوّل: إنّ مقتضی الدلیل المذکور أعمّ من المدّعی، و وجوب فحص أزید منه؛ لأنّ المدّعی هو وجوب الفحص فیما بأیدینا من الأخبار المُودَعة فی کتب الأخبار، و دائرة العلم الإجمالی أوسع من ذلک؛ لأنّ أطرافه أعمّ ممّا بأیدینا و وصل إلینا من الأخبار و الأحکام و ممّا لم یصل إلینا منها، و الأخبار المضبوطة فی الاصول و الجوامع الأوّلیّة لم تصل جمیعها إلینا.

و بالجملة: العلم الإجمالی إنّما هو بوجود مخصِّصات کثیرة فیما صدر من الشارع کلّها، لا فی خصوص ما بأیدینا من الأخبار فقط، و الفحص فیما بأیدینا من الکتب لا یوجب انحلال العلم الإجمالی و إن بلغ الفحص ما بلغ(2).


1- معالم الدین: 124 سطر 2.
2- انظر مطارح الأنظار: 202 سطر 21.

ص: 375

و ذکر المحقّق المیرزا النائینی قدس سره هذا الإشکال فی الاصول العملیّة فقط(1)، و أجاب عنه بما حاصله: أنّه بعد الفحص عنها فیما بأیدینا من کتب الأخبار ینحلّ العلم الإجمالی غایة الأمر أنّه لیس انحلالًا حقیقیّاً، بل انحلال حکمیّ؛ لأنّ ما عثرنا علیه منها قابل الانطباق علی ما عُلم إجمالًا منها؛ إذ لا یُعلم بأنّ فی الشریعة أحکاماً أزید ممّا تکفّلته الأدلّة التی عثرنا علیها(2).

و لعلّه إلی ذلک یرجع ما أفاده المحقّق العراقی قدس سره فی الجواب عن الإشکال؛ حیث قال فی المقالات- بعد ذکر عدم جواز التمسّک بالعامّ قبل الفحص عن المخصِّص للعلم الإجمالی-: لا بدّ أن یفحص عنه فإن ظُفر بالمعارض أو الحاکم فهو، و إلّا فیکشف [عن] خروج هذا المورد من الأوّل عن دائرة العلم الإجمالی، و بهذا یندفع الإشکال(3).

فإنّ تعبیره: بالظفر بالمعارض، یُشعر بأنّ مراده هو ما ذکره المیرزا النائینی قدس سره- من أنّا لا نعلم أنّ فی الشریعة أحکاماً سوی ما بأیدینا- و إلّا فلا یمکن الظفر بالمعارض فیما لم یصل إلینا.

نعم ظاهرُ تعبیره- بأنّه یکشف [عن] خروج هذا من الأوّل عن دائرة العلم الإجمالی- خلافُه، فإنّ ظاهره أنّ الأطراف کانت أطرافاً له ابتداءً؛ سواء انکشف الخلاف أم لا، غایة الأمر أنّه بعد الظفر بالمخصِّص یحکم بأنّها لم تکن أطرافاً للعلم الإجمالی من حینه، لا من الأوّل؛ للعلم الوجدانی بأنّها کانت أطرافاً له و لو بعد الانحلال أیضاً.

اللّهمّ إلّا أن یرید ما ذکرناه: من أنّه ینکشف خطأ الاحتمال المذکور.


1- انظر فوائد الاصول 4: 278- 279.
2- فوائد الاصول 4: 280.
3- مقالات الاصول 1: 154 سطر 21.

ص: 376

و علی أیّ تقدیر فهذا الذی ذکراه فی الجواب عن الإشکال صحیحٌ لا غبار علیه.

الوجه الثانی: إنّ هذا الدلیل أخصّ من المدّعی؛ لأنّ المُدّعی هو عدم جواز التمسُّک بالعامّ إلّا بعد الفحص عن المخصِّص فی کلّ عامّ، و العلم الإجمالی بالمخصِّصات و المقیّدات فیما بأیدینا من کتب الأخبار و إن اقتضی ذلک قبل الفحص، إلّا أنّه بعد انحلال العلم الإجمالی- بالفحص و العثور علی المقدار المتیقَّن منها- یصیر المراد:

صیرورة وجود المخصّص ضمن الأکثر شبهةً بدویّة، و الأکثر هو الباقی من الأخبار التی بأیدینا بعد الظفر بالقدر المتیقّن من المخصّصات من بینها شبهة بَدْویّة، کما فی کلّ علمٍ إجمالیٍّ تردّدت أطرافه بین الأقلّ و الأکثر، فإنّه بالعثور و الاطّلاع علی المقدار المتیقّن الذی هو الأقلّ، ینحلّ العلم الإجمالی، و یصیر الأکثر شبهة بدویّة فلا مانع من إجراء الاصول اللّفظیة فیه، و لا یقتضی هذا الدلیل وجوب الفحص عن المخصِّص فی جمیع العمومات حتّی بعد انحلال العلم الإجمالی، کما هو المدّعی(1).

و أجاب عنه المحقّق العراقی قدس سره: بأنّه و إن ظُفِر بالمقدار المعلوم کمّاً، و الشکّ فی الزائد یصیر بدویّاً، و لکن هذا المقدار إذا تردّد بین محتملات متباینات، منتشرات فی أبواب الفقه من أوّله إلی آخره، یصیر جمیع المحتملات المشکوکة فی جمیع أبواب الفقه طرفاً لهذا العلم، فیمنع من التمسُّک بالعموم قبل الفحص عن جمیعها، و لا یفید الظفر بالمعارض فی هذه الصورة بمقدار المعلوم، فالاحتمال القائم فی جمیع أبواب الفقه الموجب لکونه طرفاً للعلم، منجِّز للواقع بحسب استعداده، فإنّه مثل العلم الحاصل بعد العلم الإجمالی لا یوجب الانحلال، انتهی(2).

أقول: لو فرض أنّ محتملات المعلوم بالإجمال من المخصِّصات متشتّة فی جمیع أبواب الفقه إجمالًا، و تردّدت بین الأقلّ و الأکثر، فلو تفحّص المجتهد فی جمیع أبواب


1- قرّره أیضاً فی فوائد الاصول 4: 278.
2- مقالات الاصول 1: 155 سطر 3.

ص: 377

الفقه، و ظفر بالمقدار الأقلّ المتیقَّن، فلا محالة ینحلّ العلم الإجمالی المذکور.

و أمّا لو تفحص فی بعض أبوابه و ظفر بالمقدار المتیقَّن فهو یُنافی العلم بتشتُّت أطرافه فی جمیع أبواب الفقه، فلا بدّ إمّا من رفع الید عن دعوی العلم بتشتُّت محتملاته فی جمیع أبواب الفقه، و إمّا عن دعوی الظَّفَر بالمقدار المتیقَّن؛ لبقاء العلم الإجمالی بوجود مخصِّصات اخر فی سائر الأدلّة، و إلّا فلا محالة ینحلّ العلم الإجمالی.

و قال المحقّق النائینی فی الجواب عن الإشکال: بأنّ المعلوم بالإجمال: تارة مرسل غیر مُعلَم بعلامة یُشار إلیه بتلک العلامة، و اخری مُعلَم کذلک، و انحلال العلم الإجمالی بالعثور علی المقدار المتیقّن إنّما هو فی القسم الأوّل، و أمّا القسم الثانی فلا ینحلّ بذلک، بل حاله حال دوران الأمر بین المتباینین.

و ضابط القسمین: أنّ العلم الإجمالی مطلقاً علی سبیل القضیّة المنفصلة المانعة الخلوّ، المنحلّة إلی قضیّتین حملیّتین، و هاتان القضیّتان:

تارة: إحداهما متیقّنة، و الاخری مشکوکة من أوّل الأمر؛ بحیث نشأ العلم الإجمالی من هاتین القضیّتین بضمّ إحداهما إلی الاخری، کما لو علم بأنّه مدیون لزید إمّا خمسة دراهم أو عشرة.

و اخری: لا کذلک- أی بأن یکون من أوّل الأمر إحداهما متیقّنة و الاخری مشکوکة- بل تعلّق العلم بالأطراف علی وجهٍ تکون جمیع الأطراف ممّا تعلّق بها العلم بوجه؛ بحیث لو کان الأکثر هو الواجب لکان ممّا تعلّق به العلم، و تنجّز بسببه، و لیس الأکثر مشکوکاً من أوّل الأمر؛ بحیث لم یصبه العلم الإجمالی بوجه من الوجوه، بل کان الأکثر- علی تقدیر ثبوته فی الواقع- ممّا أصابه العلم، و ذلک فی کلّ ما یکون المعلوم بالإجمال مُعلماً بعلامةٍ کان قد تعلّق العلم به بتلک العلامة، فیکون کلّ ما اندرج تحت تلک العلامة ممّا تعلّق به العلم؛ سواء فی ذلک الأقلّ و الأکثر، و حینئذٍ لو کان الثابت هو الأکثر فی الواقع فقد تعلّق العلم به؛ لمکان تعلُّقه بعلامته، و ذلک کما إذا

ص: 378

علمتُ أنّی مدیون لزید بما فی الدفتر، فإنّ جمیع ما فی الدفتر من دین زید قد تعلّق العلم به؛ سواء کان دین زید خمسة أو عشرة، فإنّه لو کان دین زید عشرة فقد أصابه العلم؛ لمکان وجوده فی الدفتر و تعلُّق العلم بجمیع ما فی الدفتر، و أین هذا ممّا إذا کان دین زید من أوّل الأمر مردّداً بین الخمسة و العشرة؟! فإنّ العشرة فی مثل ذلک ممّا لم یتعلّق بها العلم بوجهٍ من الوجوه، و کانت مشکوکة من أوّل الأمر، فلا موجب لتنجُّزها علی تقدیر ثبوتها فی الواقع، بخلاف ما إذا تعلّق العلم بها بوجهٍ؛ و لو لمکان تعلّق العلم بما هو من قبیل العلامة لها، و هو کونها فی الدفتر، فإنّها قد تنجّزت علی تقدیر وجودها فی الدفتر.

و إن شئت قلت: کان لنا هنا علمان: علم إجمالی بأنّی مدیون لزید بجمیع ما فی الدفتر، و علم إجمالی آخر بأنّ دین زید خمسة أو عشرة، و العلم الثانی غیر مقتضٍ للاحتیاط بالنسبة إلی العشرة، و العلم الإجمالی الأوّل مقتضٍ للاحتیاط بالنسبة إلیها؛ لتعلّق العلم بها علی تقدیر ثبوتها فی الواقع، و اللامقتضی لا یمکن أن یُزاحم المقتضی.

و ما نحن فیه من هذا القبیل، فإنّ العلم الإجمالی المُعلَّم المقتضی للفحص التامّ، لا ینحلّ بالعثور علی المقدار المتیقّن؛ لأنّ العلم قد تعلّق بأنّ فی الکتب التی بأیدینا مقیّدات و مخصِّصات و أحکاماً إلزامیّة، فهو من قبیل العلم بأنّه مدیون لزید بما فی الدفتر، فیکون کلّ مقیّد و مخصِّص و حکم إلزامیّ ثابتاً فیما بأیدینا من الکتب، قد أصابه العلم و تعلّق به، و قد عرفت أنّ مثل هذا العلم الإجمالی لا ینحلّ بالعثور علی المقدار المتیقّن، بل لا بدّ فیه من الفحص التامّ فی جمیع ما بأیدینا من الکتب(1). انتهی.

أقول: یرد علیه:

أوّلًا: النقض بما لو علم أنّه مدیون لزید بما کان فی الکیس الذی صرفه فی مصارفه، أو بما أهداه للمسجد أو غیره، و تردّد ما کان فی الکیس بین الأقلّ و الأکثر،


1- فوائد الاصول 2: 543- 546.

ص: 379

فبناءً علی ما ذکره لا یجوز الرجوع إلی الأصل بالنسبة إلی الأکثر؛ لأنّه معلَّم بعلامة «ما فی الکیس»، مع أنّه قدس سره لا یلتزم به.

و ثانیاً: بالحَلّ بأنّ العناوین المتعلَّقة للعلم الإجمالی مختلفة؛ لأنّه قد یکون العنوان المتعلَّق له أمراً بسیطاً مبیَّناً مفهومه، و لکن یُشکّ فی المحصِّل له بین الأقلّ و الأکثر، کما لو تعلّق الأمر بعنوان الطهارة، و شُکّ فی أنّ المحصِّل له خمسة أجزاء أو ستّة، ففی مثل ذلک مقتضی القاعدة هو الاشتغال؛ لأنّه شکّ فی المحصِّل، فیجب الأکثر.

و قد یتردّد نفس العنوان بین الأقلّ و الأکثر، کما فی المقام، فإنّ متعلّق العلم هو وجود مخصِّصات کثیرة فیما بأیدینا من الکتب، مردّدة بین الأقلّ و الأکثر، فإنّه و إن تعلّق العلم بما فی الکتب، لکنّه مثل عنوان «ما فی الکیس» فی المثال المتقدّم، و هو عنوان یُشار به إلی الخارج، و هو فی جنب العلم الإجمالی بین الأقلّ و الأکثر من المخصِّصات، کالحجر فی جنب الإنسان، لا أثر له أصلًا، بل المؤثِّر هو العلم الإجمالی بوجود المخصِّصات إجمالًا، المردّدة بین الأقل و الأکثر، و بعد انحلاله بالعثور و الاطّلاع علی الأقلّ، لا محالة ینحلّ العلم الإجمالی المذکور، و لا موجب- حینئذٍ- للأکثر، و لا مانع من التمسُّک بالعموم حینئذٍ.

مضافاً إلی أنّ مقتضی ما ذکره عدم جواز التمسّک بالبراءة بعد الفحص- أیضاً- فی الشبهات البَدْویّة، و هو کما تری.

و أمّا بناء العقلاء علی ما ذکره، ففیه: أنّه مُسلَّم، لکن لا من حیث اقتضاء العلم الإجمالی ذلک، بل من جهة أنّ الفحص فی الشبهات الموضوعیّة خفیف المئونة؛ لا یحتاج إلی مئونة و مشقّة کثیرة فیما کانت کذلک، کما لو تردّد مائع بین الماء و الدم، و یحصل العلم بمجرّد النظر فیه و رؤیته و لو فی الشبهات البدویّة، فیوجبون الفحص فی ذلک، و لا یُبادرون إلی إجراء البراءة، و مثال الدفتر کذلک و من هذا القبیل. مضافاً إلی قیام الإجماع علی وجوب الفحص فی الشبهات الموضوعیّة و عدم صحّة التمسُّک

ص: 380

بالبراءة قبله.

فتلخّص من جمیع ما ذکرناه: أنّ الإشکال من الوجه الثانی باقٍ بحاله، و أنّ العلم الإجمالی بوجود المخصِّصات فیما بأیدینا من الأخبار المُودَعة فی الکتب الأربعة و غیرها، غیرُ مؤثّر فی وجوب الفحص فی کلّ عامّ- کما هو المُدّعی- بعد انحلاله بالظفر بالمقدار المعلوم المتیقّن منها، و الشکِّ البدوی بالنسبة إلی الباقی.

و أمّا مقدار الفحص فعلی الفرض الثانی- أی فرض وجود العلم الإجمالی بوجود المخصِّصات- یجب الفحص بمقدارٍ ینحلّ العلم الإجمالی به، و إن قیل بعدم انحلاله، لکن قد عرفت خلافه.

و أمّا علی ما اخترناه فی محطّ البحث من الفرض الأوّل- و هو فرض عدم العلم الإجمالی بها- فلا بدّ من الفحص التامّ فی کتب الأخبار عنها بمقدار یحصل الیأس من وجودها و الاطمئنان بعدمها، فلا یجوز للمجتهد المبادرة إلی التمسُّک بالعمومات، بل کلّ ظاهر ما لم یتفحّص بالمقدار المعتبر، بل لا بدّ من التتبّع فی أقوال الفقهاء فی کلّ مسألة، خصوصاً المتقدّمین منهم- قُدّست أسرارهم- لکن لا بمقدار یحصل العلم الجازم؛ لاستلزامه العسر و الحرج.

ص: 381

الفصل التاسع هل تختصّ الخطابات الشفاهیّة بالحاضرین فی مجلس الخطاب أو تعمّ الغائبین عنه بل المعدومین؟

اشارة

و قبل الشروع فی المطلب لا بدّ من تحریر محلّ الکلام:

فقد یقال- القائل هو المحقّق النائینی قدس سره-: إنّ الکلام إنّما هو فی الخطابات المصدَّرة بأحرف النداء، مثل: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا»*(1) و نحوه، لا مثل: «لِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ ...»(2)، و نحوه ممّا لا خطاب فیه و لا أحرف النداء؛ لأنّه لا إشکال فی شموله للمعدومین، فضلًا عن الغائبین(3).

و یؤیّد ذلک عنوان البحث بما عرفت، و لیس فی مثل الآیة الشریفة خطاب، فلا


1- البقرة: 153 و 183.
2- آل عمران: 97.
3- انظر فوائد الاصول 2: 548.

ص: 382

یشمله عنوانه.

لکن لیس کذلک؛ لما سیأتی- إن شاء اللَّه- أنّه و إن لم یشمله عنوان البحث، لکن یشمله ملاکه، و حینئذٍ و إن أمکن البحث فی أنّه هل وُضعت أحرف النداء و الخطاب لهذا أو ذاک، لکن النزاع و البحث- حینئذٍ- لُغَویّ، و بحثٌ ضعیف لا ینبغی التعرّض له.

و أمّا البحث فی أنّه هل یمکن مخاطبة المعدومین أو بعثهم الفعلی أو زجرهم کذلک أو لا؟ فهو واقع؛ بحیث ذهب بعض الحنابلة إلی جوازه، و استدلّوا علیه بقوله تعالی: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ»(1)؛ لأنّ أمره و إرادته تعالی لا یمکن أن یتعلّقا بالموجود(2)؛ لأنّه تحصیل للحاصل، فلا بدّ أن یتعلّقا بالمعدوم بأن یوجد.

لکن الإنصاف: أنّه لا ینبغی البحث عن ذلک أیضاً؛ فإنّه لا یُتوهَّم أن یتفوّه عاقل- بل أشعریّ- فضلًا عن فاضل بجواز تکلیف المعدوم بالبعث و الزجر الفعلیّین، و کذلک مخاطبته.

و الذی ینبغی أن یقع محلّ الکلام و البحث هو: أنّه هل یستلزم شمول الخطاب للمعدومین المحال أو لا؟

فإنّه یمکن اختیار الأوّل و القول باختصاص الخطابات المتضمّنة للتکالیف بالمشافهین؛ لأنّها لو عمّت المعدومین یلزم المحال، و یمکن أن یذهب بعضٌ إلی الثانی، و أنّه لا یستلزم محالًا، و حینئذٍ فمرجع النزاع إلی ثبوت الملازمة بین خطاب المعدومین


1- یس: 82.
2- انظر روضة الناظر و جنّة المناظر: 120 قال بأنّ هذا الرأی خلافاً للمعتزلة و جماعة من الحنفیة و من الطریف أنّ الشافعیة أنفسهم تبنوا هذه الفکرة و اعتبروها من مختصات مذهبهم، راجع کتاب شرح مختصر الاصول: 106 و کتاب المحصول ج 1: 328.

ص: 383

و بین تکلیفهم بالانبعاث و الانزجار، مع تسلیم الطرفین استحالة تکلیفهم الفعلی بالانبعاث و الانزجار.

و انقدح بذلک: عدم الفرق بین ما اشتمل علی أحرف النداء، مثل: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا»*، و بین ما لیس کذلک، مثل: «لِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ».

ثمّ إنّه لا بدّ من الکلام فی القضایا الحقیقیّة- التی هی مبنی القائلین بأعمّیّة الخطابات و شمولها للمعدومین- و أنّ الأحکام الشرعیّة تعلّقت بالعنوانین بنحو القضایا الحقیقیّة:

فقد یقال- القائل المحقّق المیرزا النائینی قدس سره-: إنّ المناط فی القضایا الخارجیّة:

هو تعلُّق الحکم بعنوان حاکٍ عن الأفراد الشخصیّة، فکأنّ الحکم تعلَّق بخصوصیّات الأفراد و أشخاصها، مثل: «قُتِل مَن فی العسکر»، فإنّ هذا العنوان اخذ مرآةً للأفراد الموجودة فی الخارج، فلا فرق بینه و بین أن یقول: «قُتِل زید و عمرو و بکر»، و إن تغایر الملاک فی حکم کلّ واحد، کما لو قُتِل زید بالسیف، و عمرو بالسهم .. و هکذا، فلا تقع القضیّة الخارجیّة کُبری کلّیّة لصُغری؛ لما عرفت [من] أنّ الحکم فیها علی الأفراد الشخصیّة، فلیست کلّیّة حتّی تقع کبری کلّیّة لصغری، و أنّ المناط فی القضایا الحقیقیّة هو أن یتعلّق الحکم بالطبیعة الحاکیة عن الأفراد الأعمّ من المحقّقة الموجودة و المقدّرة المعدومة، لکن حکایتها عن الأفراد المعدومة بالفرض؛ بأن یُفرض و یُقدّر وجودها و حکایة الطبیعة عنها(1).

و ذکر- فی باب المفهوم و المنطوق-: أنّ کلّ واحد من الحقیقیّة و الشرطیّة متضمِّنة للشرط و العنوان، لکن یُصرّح فی الحقیقیّة بالعنوان، و تتضمّن الشرط، و فی الشرطیّة بالعکس یُصرَّح بالشرط، و تتضمّن العنوان، فمرجع «لِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُ


1- انظر فوائد الاصول 2: 511- 513.

ص: 384

الْبَیْتِ»(1) إلی أنّ من استطاع یجب علیه الحجّ، أو کلّ من وجد فی الخارج و کان مستطیعاً یجب علیه الحجّ، و مرجع قوله: «من استطاع یجب علیه الحجّ» أنّه یجب الحجّ علی المستطیع(2). انتهی.

أقول: ما أفاده من معنی القضیّة الحقیقیّة و الخارجیّة غیر ما هو المصطلح علیه عند أهل الفنّ؛ و ذلک لأنّه لا فرق بین الحقیقیّة و الخارجیّة؛ فی أنّ الحکم فی کلّ واحدة منهما متعلّق بعنوان حاکٍ عن الأفراد، لا بنفس الأفراد، غایة الأمر أنّه إن قُیِّد العنوان- المتعلَّق للحکم فی القضیّة- بما یوجب تضییقَ دائرة الأفراد المحکیّة به، و حصرَها بالأفراد الموجودة فی الخارج، مثل: «قُتِل مَن فی العسکر» حیث إنّ التقیید ب «مَن فی العسکر» یوجب حکایة الموصول عن الأفراد الخارجیّة فقط، و إلّا فالحکم فیها- أیضاً- متعلِّق بالعنوان، لا بالأفراد و أشخاصها، و حینئذٍ فلا مانع من وقوع القضیّة الخارجیّة کُبری لصُغری؛ لأنّها کلّیّة.

و إن لم یُقیَّد العنوان المتعلَّق للحکم فی القضیّة بما یوجب تضییق دائرة الأفراد و انحصارها بالموجودة فقط- و إن قُیّد بقیود اخر لا توجب ذلک- فهی قضیّة حقیقیّة، مثل: «النار حارّة»، أو «أکرم کلّ عالم»، فإنّه لا اختصاص لها بالأفراد الموجودة، و لیس المراد من الحقیقیّة ما حُکم فیها علی جمیع الأفراد الموجودة و المعدومة، فإنّ المعدوم لیس بشی ء، و لا یصدق علیه شی ء؛ حتّی یجب إکرامه، و لم یُفرض فیها وجود الأفراد المعدومة، فإنّا کثیراً ما نحکم بنحو القضیّة الحقیقیّة بدون أن نفرض وجود الأفراد المعدومة، بل الحکم فیها متعلّق بنفس العنوان- أی عنوان «کلّ عالم»- بدون قید الموجود و المعدوم، فکلّما صدق علیه ذلک العنوان- أی العالم- یتعلّق به الحکم، و إلّا فقبل الوجود لا یصدق علیه الفرد؛ حتّی یحکم علیه بوجوب إکرامه، و لذا قلنا:


1- آل عمران: 97.
2- انظر فوائد الاصول 2: 494.

ص: 385

إنّ لوازم الطبیعة و إن کانت لازمة لها مع قطع النظر عن الوجودین، لکن قبل تحقُّقها بأحد الوجودین لا یصدق علیها نفسها حتّی یثبت لها لوازمها.

و ممّا یدلّ علی ما ذکرنا- من أنّ الحکم فی الحقیقیّة متعلِّق بالعنوان؛ أی عنوان الأفراد بدون قید الوجود و العدم-: أنّه یصحّ تقسیمها إلی الموجودة و المعدومة، فلو کان مقیّداً بأحدهما لما صحّ التقسیم المذکور.

و بالجملة: لا یتعلّق الحکم فی الحقیقیّة بنفس الطبیعة من حیث هی، و لا بأشخاص الأفراد و خصوصیّاتها، بل هو متعلِّق بعنوان «أفراد العلماء» مثلًا، و هو المراد بقولهم: إنّها برزخ بین الطبیعیّة و الشخصیّة.

إذا عرفت هذا فنقول: حاصل الإشکال فی عموم الخطابات الشفاهیّة للمعدومین أمران:

أحدهما: فی مثل: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا»*(1) و نحوه ممّا یشتمل علی حرف النداء، و هو أنّه لو کانت الخطابات للأعمّ یلزم خطاب المعدوم حال عدمه و هو محال.

الثانی: فی ما لا یشتمل علی أدوات النداء، مثل: «لِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ» و نحوه ممّا لا یتضمّن نداءً و لا خطاباً، و هو أنّه یلزم تکلیف المعدومین فعلًا و بعثهم و زجرهم لو عمّهم، و هو محال؛ لأنّ المعدوم غیر قابل لشی ء من ذلک.

أقول: و الجواب عن الإشکال فی الفرض الثانی: هو أنّ الحکم فی مثله إنّما هو بنحو القضیّة الحقیقیّة، و هی ما اخذ الموضوع فیها- و هو عنوان المستطیع مثلًا- بنحو الإرسال؛ بدون التقیید بالوجود و العدم، فکلّما صدق علیه عنوانه یتعلّق به الحکم، فالمعدوم لیس له حکم، فإنّ الحکم إنّما هو للمستطیع، و لا یصدق هو علی أحد إلّا بعد وجوده، فإذا وجد، و صدق علیه عنوان المستطیع یحکم علیه بوجوب الحجّ، و لا فرق فی ذلک بین الموجود فی زمن صدور الحکم و بین المعدوم.


1- البقرة: 153 و 183.

ص: 386

و أمّا الإشکال فی الفرض الأوّل- أی الخطاب المشتمل علی أحرف النداء- فلا یمکن الجواب عنه بالقضیّة الحقیقیّة لکن أجاب عنه الشیخ قدس سره بأنّه یمکن خطاب المعدوم بعد تنزیله منزلة الموجود(1)، کما وقع نظیره فی الأشعار العربیّة.

قلت: ما ذکره قدس سره و إن أمکن فی نفسه و فی حدّ ذاته، لکن لا دلیل علی أنّ خطابات القرآن المجید کذلک، و الممکن الواقع- و ما دلّ علیه الدلیل أیضاً- أن یقال:

إنّ الخطابات القرآنیّة الصادرة من اللَّه تعالی، لیست خطابات لفظیّة مخاطباً بها الناس کقوله تعالی- مثلًا-: «یا أَیُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا ...»*(2)؛ لعدم إمکان ذلک؛ لعدم لیاقة الناس لأن یکلّمهم اللَّه تعالی بلا واسطة، إلّا أنبیاء اللَّه علیهم السلام الذین بلغوا فی الکمالات ما بلغوا، حتّی صاروا لائقین بأن یخاطبهم اللَّه و یکلّمهم، و إلّا فیستحیل أن یُکلّمهم اللَّه مع عدم لیاقتهم لذلک، حتّی الحاضرین فی مجلس الخطاب، بل لم یثبت وجود مجلس خطاب عند صدور الحکم و نزول الوحی، و قد عرفت أنّ أحرف النداء موضوعة لإیجاده، لا للنداء الحقیقی، کما فی «الکفایة»(3)، و هو جزئیّ حقیقیّ یوجد فی آنٍ، ثمّ ینعدم و ینقطع فی الآن الثانی، و لا بقاء له، فلا یمکن نداء المعدوم و خطابه، بل الخطابات القرآنیّة الإلهیّة خطابات قانونیّة کتبیّة، کما هو دأب جمیع العقلاء و دیدنهم من الموالی العرفیّة؛ حیث إنّهم فی مقام جعل القوانین یکتبون ذلک و لو بنحو النداء و الخطاب، ثمّ یأمرون المُبلِّغین بنشرها و تبلیغها بین الناس، فمن اطّلع علیها یعلم بأنّه مکلّف و مخاطب بها لا بالخطاب الشخصی، فکذلک الخطابات القرآنیّة خطابات کتبیّة، نزل بها جبرئیل علی قلب سیِّد المرسلین صلی الله علیه و آله و سلم فإنّه مخاطب بتبلیغ مثل «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا»* و نحوه إلی الناس، و لم یکن صلی الله علیه و آله و سلم أیضاً واسطة فیه؛ بأن


1- مطارح الأنظار: 204 سطر 32.
2- النساء: 1.
3- کفایة الاصول: 268.

ص: 387

یخاطب صلی الله علیه و آله و سلم الناس عن اللَّه تعالی حتّی کأنّه تعالی خاطبهم؛ لما عرفت من عدم لیاقتهم لذلک، فیستحیل وقوع غیر الأنبیاء مخاطَبین- بالفتح- له تعالی، و لا کشجرة موسی؛ بأن یکون خطابه و تبلیغه تعالی بنحو إیجاد الصوت من الشجرة، و حینئذٍ فکلّ من هو مصداق لموضوع ذلک الخطاب الکتبی فهو محکوم بحکمه؛ بلا فرق فی ذلک بین الموجودین فی زمن القانون الکتبی و بین المعدومین، بدون أن یستلزم ذلک مخاطبة المعدوم، و حینئذٍ فلیس للإشکال مجال.

ثمّ إنّهم ذکروا لهذا النزاع ثمرتین ذکرهما فی «الکفایة»(1)، لکن الاولی منهما غیر التی ذکرها غیره کالفصول(2).

فأمّا اللّتان ذکرهما فی «الکفایة»:

فالاولی: أنّه یجوز التمسُّک بظهور الخطابات للمعدومین؛ بناءً علی الشمول، و عدم جوازه بناءً علی اختصاصها بالمشافهین.

و أجاب عنها: بأنّ ذلک إنّما یصحّ لو قلنا باختصاص حجّیّة الظواهر بالمقصودین بالإفهام، و لیس کذلک، فإنّ التحقیق أنّها حجّة مطلقاً.

سلّمنا أنّ حجّیتها مقصورة علی المقصودین بالإفهام فقط، لکنّ المعدومین- أیضاً- مقصودون بالإفهام منها، بل المکلّفون مقصودون بالإفهام فی الخطابات القرآنیّة و إن لم یکن المعدومون طرفاً للخطاب، کما تدلّ علیه الروایات و أدلّة الاشتراک، کما لا یخفی.

و أورد علیه المحقّق المیرزا النائینی قدس سره علی ما فی التقریرات: بأنّه کیف یمکن التمسُّک بالإطلاقات للمعدومین و الاحتجاج بها، مع فرض عدم شمول الخطاب لهم و عدم توجُّهه إلیهم، و إن کانوا مقصودین بالإفهام، بل الاحتجاج بها


1- کفایة الاصول: 269- 270.
2- الفصول الغرویة: 184 سطر 19.

ص: 388

مختصّ بالمخاطبین(1).

أقول: لیس مراده قدس سره فی «الکفایة» احتجاج المعدومین فی الفرض بظهورها و التمسُّک بها، بل مراده أنّهم یفهمون- حینئذٍ- أنّ الخطاب الفلانی- مثلًا کان ظاهراً فی المعنی الفلانی بالنسبة إلی المخاطبین، فهو حجّة لهم، و بدلیل الاشتراک و الروایات یثبت أنّ حکم المعدومین- أیضاً- ذلک، و لیس مراده احتجاج المعدومین بها لیرد علیه ما ذکر.

الثانیة: صحّة التمسُّک بالإطلاقات للمعدومین فی کلامه تعالی و جریان مقدّمات الحکمة؛ بناءً علی شمولها لهم و لو مع اختلافهم فی الصنف، و عدم صحّته علی القول باختصاصها بالمشافهین، بل یحتاج إلی إثبات اتّحادهم فی الصنف معهم؛ حتّی یحکم بدلیل الاشتراک بذلک للمعدومین- أیضاً- مثلًا یصحّ التمسّک بإطلاق قوله تعالی: «إِذا نُودِیَ لِلصَّلاةِ مِنْ یَوْمِ الْجُمُعَةِ ...»(2) لوجوب صلاة الجمعة علی المعدومین کذلک، و عدم دخل حضور الإمام علیه السلام أو نائبه الخاصّ بناء علی عدم الاختصاص، بخلافه علی القول بالاختصاص، بل یحتاج- حینئذٍ- إلی إثبات اتّحاد الصنف حتّی یحکم بدلیل الاشتراک علی وجوبها علیهم أیضاً.

و المراد من الاتّحاد فی الصنف: هو الاتّحاد فیما یحتمل أن یکون قیداً للحکم، کحضور الإمام علیه السلام أو نائبه الخاصّ فی وجوب الجمعة، لا کلّ قید، فإنّ بعض القیود ممّا لا یحتمل دخلها فی الحکم، و حینئذٍ فلا یرد علیه ما أورد علیه بعضهم: من أنّه لو اعتبر الاتّحاد فی الصنف لم یمکن إثبات حکم من الأحکام للمعدومین- بل الغائبین أیضاً- بدلیل الاشتراک فی التکلیف؛ للاختلاف بینهم فی قید من القیود(3).


1- انظر فوائد الاصول 2: 549.
2- الجمعة: 9.
3- انظر فوائد الاصول 2: 549.

ص: 389

و أورد فی «الکفایة» علی هذه الثمرة: بأنّه یمکن إثبات الاتّحاد فی الصنف بإطلاق الخطاب؛ بأن یقال: لو کان للقید دخلٌ فی الحکم لزم علیه البیان، و حیث إنّه لم یبیِّن ذلک یعلم أنّه غیر دخیل فی الحکم. انتهی ملخّصه(1).

و فیه: أنّه لا إشکال فی صحّة التمسُّک بإطلاق الخطاب و لو مع تقییده بما یکون المکلّفون فاقدین له، کحضور النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم أو وصیّه فی وجوب صلاة الجمعة.


1- کفایة الاصول: 270.

ص: 390

ص: 391

الفصل العاشر هل تعقُّب العامّ بضمیر یرجع إلی بعض مدلوله یُوجب تخصیصه أو لا؟

فیه خلاف:

فذکر الشیخ، و تبعه فی «الکفایة» و غیره: أنّ محلّ البحث إنّما هو فیما إذا وقعا فی کلامین- أو فی کلام واحد- محکومین بحکمین، و أمّا إذا وقعا فی کلام واحد و اتّحد حکمهما(1)، مثل: «و المطلّقات أزواجهنّ أحقّ بردّهنّ»، فهو خارج عن محلّ الکلام، مثاله قوله تعالی: «وَ الْمُطَلَّقاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، وَ لا یَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ یَکْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِی أَرْحامِهِنَ، وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ»(2)؛ حیث إنّه من المعلوم أنّ حکم حقّ الرجوع مختصّ بالرجعیّات لا البائنات، فالضمیر راجع إلی بعض مدلول المطلَّقات.


1- مطارح الأنظار: 207 سطر 35، کفایة الاصول: 271، نهایة الاصول 1: 320، درر الفوائد: 226.
2- البقرة: 228.

ص: 392

و فصّل المحقّق العراقی بین الضمیر و اسم الإشارة(1).

لکنّه غیر مستقیم؛ لاشتراک کلٍّ منهما فی أنّه إشارة.

و هل یعتبر فی محطّ البحث- مضافاً إلی ما ذکر- أن یُعلم بدلیلٍ خارجیٍّ أنّ الحکم مختصّ بالرجعیّات فی المثال، بدون احتفاف الکلام بما یدلّ علی ذلک من القرائن العقلیّة أو النقلیّة، أو أنّه یعتبر احتفافه بقرینة عقلیّة أو لفظیّة تدلّ علی ذلک، کما قال: «أهن الفسّاق و اقتلهم»؛ حیث نعلم علماً قطعیّاً بعدم جواز قتل جمیع الفسّاق، بل هو مختصّ ببعضهم، أو أنّ محطّ البحث أعمّ من ذلک؟

و لم أرَ من تعرّض لذلک نفیاً و إثباتاً، فلا بأس بالإشارة إلی ما هو الحقّ علی کلّ واحد من الوجوه:

أمّا علی الأوّل: ما إذا لم یکن الکلام محفوفاً بما یدلّ علی اختصاص الحکم بالرجعیّات فی مثل: «وَ الْمُطَلَّقاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ...»، فهنا عامّان:

أحدهما: «وَ الْمُطَلَّقاتُ یَتَرَبَّصْنَ».

و ثانیهما: «وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ».

و قام الدلیل من الخارج علی أنّ العموم الثانی مختصّ بالرجعیّات، و أنّ الإرادة الجدّیّة غیر مطابقة فیه بالنسبة إلی البائنات، و لا ربط له بالعامّ الأوّل، فإنّه باقٍ علی ما هو علیه من العموم و أصالة تطابق الجدّ و الاستعمال، کیف؟! و العامّ المخصَّص حجّة فیما بقی، فضلًا عن العامّ الغیر المخصَّص.

و بالجملة: لا وجه للنزاع- حینئذٍ- فإنّ العامّ الثانی إنّما خُصِّص بدلیل خارجیٍّ، دون الأوّل، فلا یدور الأمر فیه بین التخصیص و التجوُّز فی الضمیر.

و أمّا علی الثانی: أی ما إذا کان الکلام محفوفاً بما یدلّ علی أنّ العموم غیر


1- مقالات الاصول 1: 157 سطر 17، نهایة الأفکار 2: 545.

ص: 393

مراد فی العامّ الثانی، فبناءً علی ما ذهب إلیه المتأخّرون: من أنّ التخصیص لا یستلزم المجازیّة فی العامّ، کما ذهب إلیه الشیخ قدس سره(1) و تبعه من تأخّر عنه(2)، و أنّ العامّ بعد التخصیص أیضاً مستعمل فی معناه الموضوع له، فلیس الأمر فیه دائراً بین تخصیص العامّ و بین التجوُّز فی الضمیر، غایة الأمر أنّ الإرادة الجدّیّة فیه غیر مطابقة للإرادة الاستعمالیّة فی العامّ، فلا وجه للبحث فی هذا الباب حینئذٍ.

نعم علی مذهب القدماء: من استلزام تخصیص العامّ مجازیّته فی الباقی، و أنّه مستعمل فی الباقی مجازاً(3)، یدور الأمر بین تخصیص العامّ الأوّل و بین التجوّز فی الضمیر، فیقع الکلام فی أنّ أیّهما مقدّم.

و علی أیّ تقدیر فالعامّ فی هذا الفرض یصیر مجملًا؛ لأنّ المفروض احتفاف الکلام بما یوجب ذلک قبل ظهوره التصدیقی، فلا یصحّ التمسّک بعمومه؛ لأنّ أصالة الجدّ التی هی من الاصول العقلائیّة غیر جاریة فیه؛ لعدم بنائهم علیها فی هذا المورد، و لا أقلّ من الشکّ فی ذلک.

و أمّا علی الوجه الثالث من الوجوه: فالحقّ هو التفصیل بین ما إذا عُلم من الخارج أنّ الحکم مختصّ بالرجعیّات؛ بدون احتفاف الکلام بما یدلّ علیه من القرائن العقلیّة أو النقلیّة، و بین ما إذا کان الکلام محفوفاً بما یدلّ علی ذلک، فیجوز التمسُّک بالعموم فی الأوّل دون الثانی.

و أمّا ما أفاده فی «الکفایة»: من أنّ أصالة العموم إنّما تجری فیما إذا لم یُعلم


1- مطارح الأنظار: 192 سطر 6.
2- کفایة الاصول: 255- 256، درر الفوائد: 212، فوائد الاصول 2: 516.
3- عدّة الاصول: 116- 117، معارج الاصول: 97.

ص: 394

المراد، لا فیما عُلم و شُکّ فی أنّه کیف أراد(1)؟ فهو صحیح، لکن لا ربط له بما نحن فیه بعد فرض عدم استلزام التخصیص للمجازیّة- کما هو مختاره قدس سره(2)- فإنّ العامّ المخصّص مستعمل- حینئذٍ- فی معناه الموضوع له قطعاً لا شکّ فیه؛ حتی یحتاج إلی جریان أصالة الحقیقة و العموم، و إنّما الشکّ فی الإرادة الجدّیّة.


1- کفایة الاصول: 272.
2- کفایة الاصول: 255- 256.

ص: 395

الفصل الحادی عشر فی تخصیص العامّ بالمفهوم

اشارة

قال فی «الکفایة»: اختلفوا فی جواز تخصیص العامّ بالمفهوم المخالف- مع الاتّفاق علی الجواز بالمفهوم الموافق- علی قولین(1).

و فیه: أنّ المسألة لیست ممّا یصلح الاستدلال فیها بالإجماع و الاتّفاق؛ لعدم کونها ممّا ورد التعبُّد فیها فی الشرع، فالمفهوم الموافق- أیضاً- محلّ البحث.

المقام الأوّل: التخصیص بالمفهوم الموافق

و فی المراد من مفهوم الموافق احتمالات:

أحدها: ما أفاده بعض الأعاظم: من أنّه عبارة عن إلغاء الخصوصیّة، کما لو سُئل عن رجلٍ شکّ بین الثلاث و الأربع، فقال: «فلیبنِ علی الأربع» مثلًا، فیفهم من السؤال و الجواب أنّه لا دَخْل للرجولیّة فی ذلک، لا فی نظر السائل، و لا فی نظر


1- کفایة الاصول: 272.

ص: 396

الإمام علیه السلام فالمرأة- أیضاً- کذلک، و حینئذٍ فلیس المراد منه الأولویّة(1).

الثانی: أنّه عبارة عمّا کُنّی عنه بکلام آخر، کما لو قیل: إنّک لا تقدر أن تنظر إلی ظلّ فلان؛ کنایة عن عدم قدرته علی إیذائه، فإنّ مقصود المتکلِّم هو المکنّی عنه؛ بدون أن یقصد نفس النظر إلی ظلّه، و لا یبعد أن یکون قوله تعالی: «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ»(2) من هذا القبیل، و علیه فنفس الافّ لیست منهیّاً عنها، بل هو کنایة عن النهی عن ضربهما و إیذائهما.

الثالث: أن یتعلّق الحکم بفردٍ، لکن سیق الکلام لبیان حکم کلّیّ، و تعلیق الحکم بهذا الفرد لأجل أنّه أحد مصادیق ذلک الکلی؛ لأنّه الفرد الخفیّ.

و الفرق بینه و بین الاحتمال الثانی: هو أنّ الفرد المذکور محکوم بالحکم المذکور و منظور إلیه فیه، بخلافه فی الاحتمال الثانی.

الرابع: أن یکون الکلام مسوقاً لبیان حکم فرد، و نظر المتکلِّم- أیضاً- إلی هذا الفرد بخصوصه، لکن یکشف بالمناط القطعی الموجود فیه أنّ حکم الفرد الآخر- أیضاً- کذلک بالأولویّة القطعیّة، کما لو قال: «أکرم خدّام العلماء»، فإنّه یعلم منه وجوب إکرام العلماء أنفسهم بالأولویّة القطعیّة و بالطریق الأولی.

و الفرق بینه و بین الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة: هو أنّ الکلام فیها مسوق لبیان حکمٍ کلّیٍّ، بخلافه فیه، فإنّه مسوق لبیان حکمِ افرادٍ خاصّة، لکن یکشف به عن الحکم الکُلّی لغیرهم أیضاً.

الخامس: أنّه عبارة عن الأحکام المنصوصة العلّة، کما لو قال: «لا تشرب الخمر؛ لأنّه مُسْکر»، فإنّه یُفهم منه: أنّ النبیذ- أیضاً- کذلک؛ لأنّه- أیضاً- مُسْکر،


1- انظر نهایة الاصول 1: 266- 267.
2- الاسراء: 23.

ص: 397

ذکره بعض الأعاظم(1).

السادس: أنّه عبارة عن الجامع بین الاحتمالات المذکورة؛ أی ما لم یکن واقعاً فی محلّ النطق، مع عدم المخالفة بینه و بین المنطوق فی الإیجاب و السلب.

ثمّ إنّ محطّ البحث و مورد الإجماع: هل هو فیما إذا کان المفهوم بحیث لو ابدل بالمنطوق خُصّص به العامّ؛ بأن یکون أخصّ مطلقاً من العامّ، أو أنّه أعمّ منه و ممّا إذا ابدل بالمنطوق لم یُخصّص به العامّ، کما فی الأعمّ و الأخصّ من وجه؟

الظاهر هو الأوّل، فنقول: بناءً علی الاحتمال الأوّل- و هو أنّ المفهوم الموافق عبارة عن إلغاء الخصوصیّة فی الکلام- فلا ریب فی أنّه لا فرق بینه و بین المنطوق فی أنّه یُخصَّص العامّ به، فإنّ کلّ واحد منهما مُستفاد من اللفظ عرفاً، و اللفظ یدلّ علیهما.

و کذلک بناءً علی الثانی و الثالث، و فی الحقیقة لیس ذلک من قبیل المفهوم، بل هو مدلول اللفظ، فیُخصَّص به العامّ بلا إشکال.

و أمّا الاحتمال الخامس: فإن کان الحکم المنصوص العلّة بحیث یُفهم منه إلغاء الخصوصیّة عرفاً من الحکم المُلقی إلی المخاطَب، و یتبادر منه فی المتفاهم العرفی أنّ الحکم یدور مدار العلّة وجوداً و عدماً، کالإسکار فی المثال، فهو کالمنطوق فی جواز تخصیص العامّ به، فإذا ورد: «کلّ مائع حلال»- مثلًا- فهو یُخصّص بمفهوم قوله:

«الخمر حرام؛ لأنّه مُسکر»، فیخرج منه النبیذ المسکر- أیضاً- و لو کان بینهما العموم من وجه یُعامل معهما معاملة المتعارضین.

و أمّا الاحتمال الرابع: و هو أن یکون الکلام مسوقاً لبیان حکم فرد خاصّ، لکن المخاطَب یکشف منه الحکم الکلی؛ لمکان المناط القطعی له عنده، فادّعی بعض الأعاظم- الظاهر أنّه المحقّق المیرزا النائینی- أنّه لا بدّ أوّلًا من ملاحظة المنطوق مع العامّ: فإن کان بینهما العموم من وجه فالمفهوم- أیضاً- کذلک، و لا یُعقل أن یکون


1- فوائد الاصول 2: 555.

ص: 398

المفهوم أخصّ مطلقاً من العامّ حینئذٍ لیُخصَّص به، و إن کان المنطوق أخصّ مطلقاً منه فحینئذٍ یخصّص العامّ به، و لا یُعقل أن یکون المفهوم أخصّ من وجه و معارضاً له، مع عدم العموم من وجه بین العامّ و المنطوق و عدم التعارض بینهما(1).

و فیه: أوّلًا: أنّ ما ذکره إنّما یصحّ فی هذا الاحتمال من معنی المفهوم الموافق، لا فی الاحتمالات الاخر مع أنّ مدّعاه عامّ یشمل جمیعها، فالدلیل أخصّ من المُدّعی.

و ثانیاً: قد یعارض المفهومُ الموافقُ العامّ مع عدم معارضة المنطوق له، کما إذا قال: «لا تکرم النحویّین»، ثمّ قال: «أکرم جُهّال خُدّام الصرفیّین»، فإنّه لا تعارض بین العامّ و المنطوق فیهما؛ لعدم تصادقهما فی شی ء، مع أنّ بینه و بین وجوب إکرام علماء خدّام الصرفیّین المستفاد بنحو مفهوم الموافقة تعارضاً، و بینهما العموم من وجه، کما لا یخفی.

لکن یمکن أن یقال- کما أفاده بعضهم فی مثل المثال المذکور فی بیان وجوب تقدیم المفهوم علی العامّ مع أنّ بینهما عموماً من وجه-: إنّ الأمر فیه دائر بین رفع الید عن المنطوق، و بین رفع الید عن المفهوم، و بین رفع الید عن العموم:

لا سبیل إلی الأوّل؛ لأنّه بلا وجه لعدم التعارض بینه و بین العامّ.

و کذلک الثانی؛ لأنّه منافٍ لثبوت الملازمة بین المفهوم و المنطوق.

فلا محیص عن رفع الید عن العموم(2).

لکن یمکن أن یورد علیه: أنّه و إن لم یکن بین العامّ و المنطوق تعارض أوّلًا و بالذات، لکن بینهما تعارض بالعرض؛ حیث إنّ المنطوق ملازم لما هو معارض للعامّ.

و الحاصل: أنّ العامّ معارِض للمنطوق و المفهوم معاً، لکن بالنسبة إلی المفهوم بالذات و بالنسبة إلی المنطوق بالعرض، فرفع الید عن المنطوق لیس بلا وجه. هذا کلّه


1- انظر أجود التقریرات 1: 500- 501.
2- انظر مطارح الأنظار: 209- 210 سطر 33.

ص: 399

فی المفهوم الموافق.

المقام الثانی: التخصیص بالمفهوم المخالف

و أمّا الکلام فی المفهوم المخالف، و أنّه هل یصحّ تخصیص العامّ به أو لا؟

و لیس محطّ البحث فی ذلک أنّه هل القید فی قوله علیه السلام:

(إذا بلغ الماء قدر کُرٍّ لا یُنجِّسه شی ء)

(1)- یعنی البلوغ قدر الکرّ- له دَخْل فی ثبوت الحکم؛ لیکون تعارضه مع قوله علیه السلام:

(خلق اللَّه الماء طَهوراً لا یُنجِّسه شی ء)

(2) بالإطلاق و التقیید، فیقیّد المطلق به أو لا؟ فإنّه لا ریب فی تقیید المطلق به.

بل محلّ البحث إنّما هو فی تخصیص العموم به و عدمه بعد ثبوت المفهوم، کما لو قال: «أکرم العلماء»، ثمّ قال: «إن جاءک زید فلا تهن فسّاق العلماء»، و فُرض أنّ مفهومه المخالف: أنّه لو لم یجی ء زید جاز إهانة فسّاق العلماء، فهل یجوز تخصیص «أکرم العلماء» بهذا المفهوم؛ سواء کانت استفادة العموم بطریق مسلک القدماء، أم مسلک المتأخّرین؟

فنقول: دلالة العامّ علی العموم إمّا بالوضع و الظهور اللّفظی، و إمّا بالإطلاق و مقدّمات الحکمة، و کذلک دلالة الشرطیّة- مثلًا- علی المفهوم: إمّا من جهة الوضع و الظهور اللفظی، أو من جهة الإطلاق و مقدّمات الحکمة. و علی أیّ تقدیر: إمّا أن یکون العامّ و ما له المفهوم متّصلین و فی کلام واحد، أو منفصلین و فی کلامین:

فإن قلنا: إنّ دلالة کلّ واحد منهما بالوضع و ظهور اللفظ، فلا ینعقد للعامّ ظهور


1- المختلف 1: 186، الکافی 3: 2 باب الماء الذی لا ینجسه شی ء ح 1 و 2، الوسائل 1: 117 و 118 باب 9 من أبواب الماء المطلق ح 1 و 2 و 6 فی المصادر باستثناء المختلف( إذا کان الماء ...).
2- المعتبر: 9 سطر 7، الوسائل 1: 101 باب 1 من أبواب الماء المطلق ح 9.

ص: 400

فی العموم فی صورة اتّصالهما؛ لوجود ما یصلح للمخصِّصیّة قبل انعقاد ظهوره، فیقع الإجمال فی البین، و فی صورة الانفصال یصیر کلٌّ منهما مجملًا.

و کذلک لو فُرض أنّ دلالة العامّ علی العموم بالإطلاق، و دلالة الشرطیّة- مثلًا- علی المفهوم بالوضع و ظهور اللفظ.

و إن قلنا: إنّ دلالة العامّ علی العموم بالوضع و ظهور اللفظ- کما هو التحقیق- و دلالة الشرطیّة- مثلًا- علی المفهوم بالإطلاق، فالعامّ یصلح لأن یکون بیاناً مع الاتّصال، و أمّا مع الانفصال فهو مبنیّ علی أنّ المراد بالبیان- الذی یعتبر عدمه فی الأخذ بالإطلاق و مقدّمات الحکمة- هل هو الأعمّ من المتّصل و المنفصل، أو أنّه خصوص المتّصل؟

فعلی الأوّل لا یصحّ التمسُّک بالإطلاق، و یُقدَّم العامّ، بخلافه علی الثانی، فإنّه یقع الإجمال مع الانفصال.

و إن قلنا: إنّ دلالة کلیهما بالإطلاق- لا بالوضع- یقع الإجمال أیضاً.

و أمّا ما یقال (القائل المحقّق المیرزا النائینی قدس سره): حیث إنّ المفهوم مستفاد من إناطة الجزاء بالشرط، و الإناطة مدلولة للّفظ و من جهة ظهوره، فیقدّم علی العامّ.

ففیه: أنّ الإناطة و إن کانت کذلک لکن مجرّد إناطة الجزاء بالشرط لا یُفید المفهوم، بل لا بدّ من إثبات العِلِّیّة المُنحصرة للشرط، و هی إنّما تثبت بالإطلاق، کما اعترف هو قدس سره به، غایة الأمر أنّه رحمه الله تمسَّک لذلک بإطلاق الجزاء، و غیرُه بإطلاق الشرط(1).


1- فوائد الاصول 2: 561.

ص: 401

الفصل الثانی عشر فی تخصیص الکتاب بالخبر

اشارة

لا إشکال فی تخصیص الکتاب بالخبر الواحد المعتبر بالخصوص. و ما یمکن أن

یُتمسّک للمنع عنه وجوه:

الأوّل: أنّ الکتاب قطعیّ الصدور، و الخبر الواحد ظنّیّ السند، و لا یصحّ تخصیص القطعی بالظنّی(1).

و فیه: أوّلًا: النقض بالعامّ المتواتر، فإنّهم اتّفقوا علی جواز تخصیصه بالخبر الواحد المذکور.

و ثانیاً: بالحلّ بأنّ الدوران لیس بین السندین، بل بین أصالة العموم و دلیل سند الخبر، و الخبر بدلالته و سنده صالح للقرینیّة علی التصرّف فی أصالة العموم، و لیس دلیل اعتبار الخبر منحصراً بالإجماع؛ کی یقال: إنّه حجّة فیما لیس علی خلافه دلالة، و مع وجود الدلالة القرآنیّة لا یُعتمد علیه، و ذلک فإنّ العمدة فی دلیل اعتبار الخبر هو استقرار سیرة العقلاء علی العمل به فی قِبال العمومات القرآنیّة، خصوصاً فی العمومات الصادرة فی مقام جعل القوانین الکلّیّة، مثل: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(2) و نحوه.


1- المحصول 1: 434.
2- المائدة: 1.

ص: 402

الثانی: العمومات الصادرة عن الأئمّة المعصومین علیهم السلام الدالّة علی أنّ الأخبار المخالفة للقرآن، یجب طرحها و ضربها علی الجدار(1)، أو أنّها زُخرُف(2)، أو أنّها ممّا لم یقله المعصوم(3) علیه السلام(4).

و فیه: أوّلًا: النقض بالخبر المتواتر، فإنّه لا ریب و لا خلاف فی جواز تخصیص العامّ الکتابی به.

و ثانیاً: بالحلّ بأنّه لا مناص عن حمل المخالفة فی تلک الأخبار علی غیر المخالفة بنحو العموم المطلق، بل علی المخالفة بنحو التباین أو العموم من وجه؛ لصدور أخبارٍ کثیرة منهم علیهم السلام کذلک؛ أی بنحو العموم و الخصوص المطلق، و یؤیّده قوله تعالی:

«وَ لَوْ کانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً کَثِیراً»(5)، فإنّه یدلّ علی أنّ المخالفة بنحو العموم و الخصوص المطلق، لا یُعَدّ مخالفة؛ لوجود هذا النحو من المخالفة- أی العموم و الخصوص المطلق- بین الآیات فی القرآن المجید، فیکشف ذلک عن أنّ ذلک لا یعدّ مخالفة.

و السرّ فی جمیع ذلک: أنّ بناء العقلاء و دأبهم مستقرّ علی جعل القوانین الکلّیّة أوّلًا، ثمّ تخصیصها بالمخصِّصات، و لا یعدّ ذلک عندهم مخالفة.


1- مجمع البیان 1: 81 المقدمة/ الفن الثالث.
2- الکافی 1: 55 باب الأخذ بالسنّة و شواهد الکتاب ح 3 و 4.
3- الکافی 1: 56 باب الأخذ بالسنّة و شواهد الکتاب ح 5.
4- عُدّة الاصول: 135- 136 سطر 20.
5- النساء: 82.

ص: 403

الفصل الثالث عشر فی الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة

اشارة

اختلفوا فی أنّ الظاهر من الاستثناء الواقع عقیب جمل متعدّدة یرجع الی الجمیع، أو إلی خصوص الأخیرة فقط؟ علی قولین.

و لا بدّ من البحث هنا فی مقامین:

أحدهما: فی إمکان رجوعه إلی الجمیع.

الثانی: فی الاستظهار من اللفظ بعد إثبات إمکانه و أنّه ظاهر فی أیّ منهما.

المقام الأوّل: فی إمکان الرجوع إلی الجمیع

فقد یقال: إنّ آلة الاستثناء: إمّا اسمٌ مثل «غیر» و نحوه، أو حرفٌ مثل «إلّا».

و علی أیّ تقدیر المستثنی: إمّا کلّیّ مثل الفسّاق، أو جزئیّ ینطبق علیه عناوین موضوعات الجمل التی قبله، و إمّا مشترک کزید المشترک بین زید بن عمرو و زید بن بکر، و کان من أفراد موضوعات الجمل من یسمّی بزید.

فهذه ستّة أقسام.

فلو کان آلة الاستثناء اسماً، و المستثنی کلّیّاً أو جزئیّاً، ینطبق علیه عناوین

ص: 404

موضوعات کلّ واحد من الجمل المتعدّدة، فلا ریب فی إمکان رجوع الاستثناء إلی الجمیع و عدم استحالته، و عدم الإشکال فیه؛ لا من ناحیة آلة الاستثناء، و لا من ناحیة المستثنی:

أمّا الأوّل: فلأنّ الموضوع له فیها عامّ کالوضع.

و أمّا الثانی: فلأنّ المستثنی أمر کلّیّ قابل الانطباق علی الجمیع أو خصوص الأخیرة.

و أمّا لو کان المستثنی جزئیّاً مشترکاً امتنع الرجوع إلی الجمیع؛ لأنّه و إن لا یلزم منه محذور من ناحیة آلة الاستثناء؛ لأنّ المفروض أنّها اسم و الموضوع له فیها عامّ، لکن المحذور إنّما هو من ناحیة المستثنی؛ حیث إنّ رجوعه إلی الجمیع یستلزم استعمال اللفظ المشترک فی أکثر من معنیً واحد، و هو المستثنی، و هو محال، فلا یتصوّر رجوعه إلی الجمیع.

و أمّا لو کان آلة الاستثناء حرفاً: فإن قلنا: إنّ الموضوع له فی الحروف عامّ کالوضع، فالکلام فیه هو الکلام فیما لو کان اسماً فی جمیع الأقسام.

و إن قلنا: إنّ الموضوع له فیها خاصّ امتنع الرجوع إلی الجمیع فی القسم الثالث، بل هو أسوأ حالًا ممّا لو کانت اسماً؛ لأنّه یمتنع الرجوع إلی الجمیع- حینئذٍ- لوجهین:

أحدهما: لزوم استعمال اللفظ المشترک فی أکثر من معنی واحد، و هو لفظ المستثنی، و هو محال.

الثانی: استعمال لفظ آلة الاستثناء فی أکثر من معنیً واحد أیضاً، بل حیث إنّ الحروف غیر مستقلّة بالمفهومیّة، و أنّ معانیها آلة و حالة للغیر، فاستعمالها فی أکثر من معنی واحد مستلزم لفناء اللفظ الواحد فی أکثر من واحد، و هو محال(1).


1- انظر مقالات الاصول 1: 158- 159 سطر 23.

ص: 405

أقول: هذا مبنیّ علی القول بعدم جواز استعمال اللفظ المشترک فی أکثر من معنیً واحد فی استعمال واحد، لکن عرفت سابقاً: أنّ الحقّ هو جوازه، بل هو استعمال شائع فی العرف، و عرفت أنّه لیس بین المعانی الحرفیّة جامع مشترک حرفیّ هو الموضوع له للحروف، و أنّه لا یمکن حکایة جامع اسمیّ عنها و عن خصوصیّاتها، فلا محیص عن الالتزام بأنّها تابعة لمتعلّقاتها و مدخولها فی الاستعمال، فإن کان متعلَّقها ممّا یدلّ علی الکثرة، مثل «کلّ» و نحوه من ألفاظ العموم، فهی- أیضاً- مستعملة فی الکثرة تبعاً له، و أنّ لفظة «من» الابتدائیّة فی مثل «سر من البصرة إلی الکوفة» أو «سر من أیّة نقطة من البصرة»، مستعملةٌ فی الکثرة.

و أمّا ما ذکره بعضهم: من أنّ اللفظ المستعمل فی المعنی فانٍ فیه(1)، فلا معنی له.

و حینئذٍ فجمیع الأقسام الستّة متصوّرة و ممکنة.

مضافاً إلی أنّه یمکن أن یقال: إنّه إذا کانت آلة الاستثناء حرفاً، فهی مستعملة فی معنیً واحد و لو مع الرجوع إلی جمیع الجمل؛ لأنّه لو فرض أنّ المستثنی من العناوین الکلّیّة مع اشتماله علی ضمیر راجع إلی المستثنی منه، مثل: «أضف التجار، و أکرم العلماء، و جالس الطلّاب إلّا الفُسّاق منهم»، فآلة الاستثناء مستعملة فی إخراج الفسّاق، و هو معنیً واحد؛ سواء رجع الضمیر إلی الجمیع أو إلی خصوص الأخیرة بلا فرق بینهما؛ لأنّه لیس فی الأوّل إخراجات متعدِّدة، بل إخراج واحد، و هو إخراج فسّاقهم.

و تقدّم أنّ الضمائر و الموصولات و أسماء الإشارات حروف لا أسماء، و أنّها موضوعة للإشارة لا المشار إلیه، غایة الأمر أنّ الإشارة فی مثل «هذا» إنّما هو للإشارة إلی المحسوس المشاهد، و فی الضمائر و الموصولات إلی الغائب، فلا فرق فی الإشارة بالضمیر فی «إلّا الفُسّاق منهم» بین الرجوع إلی الجمیع أو البعض؛ فی أنّ


1- کفایة الاصول: 53، حاشیة المشکینی 1: 54- 55.

ص: 406

«إلّا» مستعملة فی معنیً واحد، و هو الإخراج، و کذلک فی المستثنی الجزئی المشترک، فإنّ رجوع الاستثناء فیه إلی الجمیع- باستعمال المستثنی فی أکثر من معنیً واحد- لا یستلزم استعمال أداة الاستثناء فی أکثر من معنیً واحد، فإنّ لفظة «إلّا» مستعملة فی إخراج زید بما له من المعنی المتعدّد، و إن قلنا بعدم جواز استعمال لفظ المشترک فی أکثر من معنیً واحد، فزید المستثنی من الجمیع مستعمل فی مسمّی ب «زید»، فالمخرج ب «إلّا» هو مسمّی ب «زید».

و بالجملة: رجوع الاستثناء إلی الجمیع لا یستلزم استعمال أداة الاستثناء إلّا فی معنیً واحد، و هو الإخراج، لا الإخراجات المتعدّدة، و ذلک واضح.

المقام الثانی: فی مقام الإثبات

فقد یقال- القائل المحقّق المیرزا النائینی فی التقریرات-: حیث إنّ الاستثناء یرجع إلی عقد الوضع للقضیّة، فقد یتکرّر عقد الوضع فی الجمل المتعدّدة، و قد لا یتکرّر:

فإن لم یتکرّر عقد الوضع و لم یُذکر فی الجملة الأخیرة، فهو راجع إلی الجمیع مثل «أکرم العلماء، و أضفهم، و جالسهم، إلّا الفسّاق منهم».

و إن تکرّر عقد الوضع و ذکر فی الجملة الأخیرة، فالظاهر هو الرجوع إلی الأخیرة فقط؛ لأنّه بعد تکرار الموضوع فی الجملة الأخیرة فقد أخذ الاستثناء محلّه(1). انتهی ملخّص کلامه.

و فیه: أنّ الاستثناء لیس راجعاً إلی عقد الوضع للقضیّة، بل هو استثناء من تعلُّق الحکم بالموضوع، فکأنّه قال: «تعلَّق وجوب الإکرام بالعلماء إلّا الفسّاق منهم».

و یدلّ علی ما ذکرنا ما اتّفقوا علیه: من أنّ الاستثناء من النفی إثبات و من


1- أجود التقریرات 1: 496- 497.

ص: 407

الإثبات نفی(1)، و لو رجع الاستثناء إلی الموضوع لم یکن کذلک؛ لأنّ الحکم- حینئذٍ- متعلّق ب «العلماء» المقیّد ب «غیر الفُسّاق منهم».

فالتحقیق أن یقال: إنّ الحکم فی الجمل المتعدّدة قد یتکرّر مع اختلافه سنخاً، و کذلک الموضوع، مثل: أن یقال: «أکرم العلماء، و أضف التجّار، و جالس الطلّاب» و کان المستثنی عنواناً کلّیّاً یشتمل علی الضمیر، مثل: «إلّا الفُسّاق منهم»، فحیث إنّ الضمیر فیه صالح لأن یرجع إلی جمیع الجمل المتعدّدة و إلی الأخیرة فقط، و لیس أحدهما أظهر فی المتفاهم العرفی، یقع الإجمال فی البین بالنسبة إلی غیر الأخیرة، لکنّها القدر المتیقّن من رجوع الاستثناء إلیها؛ لدوران الأمر- حینئذٍ- بین الرجوع إلی الجمیع و بین الرجوع إلی الأخیرة فقط؛ لبُعد رجوعه إلی غیر الأخیرة، کالأُولی فقط؛ لخروجه عن طریقة المحاورات و الاستعمالات.

و کذلک لو لم یشتمل المستثنی علی الضمیر، بل کان مقدَّراً، بل و لو لم یذکر الضمیر و لم یقدّر- أیضاً- مثل استثناء بنی أسد فی المثال بقوله: «إلّا بنی أسد»، و فرض اشتمال کلّ واحد من موضوعات الجمل المتعدّدة المتقدّمة علیهم، فلا یبعد- أیضاً- أنّه کذلک، فیقع الإجمال فی البین؛ لصلاحیّة رجوع الاستثناء إلی الجمیع و إلی الأخیرة فقط.

و قد تتکرّر الأحکام المتعدّدة المتّحدة سنخاً مع تکرّر الموضوعات المختلفة، مثل «أکرم العلماء، و أکرم التجّار، و أکرم الطلّاب»، فهو- أیضاً- مثل السابق فی الشقوق المتصوّرة للاستثناء و المستثنی.

و قد تتکرّر الأحکام دون الموضوع، بل الموضوع واحد مذکور فی الجملة الاولی، و الأحکام التی فی الجملة الثانیة و الثالثة- مثلًا- متعلّقة بضمیر یرجع إلیه، مثل: «أکرم العلماء و أَضِفْهم و جالِسْهم»، فإن اشتمل المستثنی علی الضمیر، مثل: «إلّا


1- قوانین الاصول: 251 سطر 9، الفصول الغرویّة: 195 سطر 22، کفایة الاصول: 247.

ص: 408

فُسّاقهم»، فالظاهر عرفاً هو الرجوع إلی الجمیع، فإنّه لا یصلح رجوع ضمیر المستثنی إلی الضمائر المتقدِّمة، فلا محالة یرجع إلی «العلماء» الذی هو مرجع الضمائر فی جمیع الجمل، و حاصل المعنی حینئذٍ: أنّ العلماء یجب إکرامهم و ضیافتهم و مجالستهم إلّا فسّاقهم، فلا یجب شی ء منها بالنسبة إلی فُسّاق العلماء.

و أمّا القول: بأنّ مرجع الضمیر- أی العلماء- و إن کان واحداً، إلّا أنّه یمکن فرض تعدُّده بفرض الحیثیّات المتعدّدة، فالعلماء من حیث إنّهم واجبو الإکرام غیر العلماء من حیث وجوب ضیافتهم، و أنّ الضمیر فی المستثنی راجع إلیهم بإحدی الحیثیّات، فهو و إن صحّ بالنظر الفلسفی، لکن الکلام إنّما هو فی الاستظهار العرفی، و ما ذُکر غیر مسموع عند العرف.

و کذلک لو لم یشتمل المستثنی علی الضمیر، لکن قُدِّر فی الکلام، بل لا یبعد أنّه کذلک و لو لم یُقدَّر لو کان المستثنی کلّیّاً، مثل: «إلّا بنی أسد».

و قد یتکرّر الأحکام المتعدّدة المختلفة سنخاً أو غیر المختلفة، کما فی باب التنازع، مثل «أکرم و أضف و جالس العلماء إلّا الفسّاق منهم»، و قس علی ذلک ما یُتصوّر فی المقام من الأقسام الاخر.

تذنیب:

هل یجوز التمسّک بالعامّ فی الجمل المشکوک رجوع الاستثناء إلیها و فی موارد الإجمال؛ لأنّ القدر المتیقَّن هو رجوعه إلی الأخیرة، و غیرها مشکوکة، فیرجع فیها إلی أصالة العموم، أو لا، بل المرجع فیها الأصل العملی، کما اختاره فی الکفایة(1)؟

التحقیق: هو الثانی؛ لأنّ الدلیل علی أصالة الجدّ هو بناء العقلاء- کما عرفت مراراً- و لم یُحرَز بناؤهم علیها فی المقام؛ أی فیما إذا احتفّ العامّ بما یصلح للمخصِّصیّة،


1- کفایة الاصول: 274.

ص: 409

کما فیما نحن فیه، فإنّ الاستثناء فی جمیع موارد الإجمال صالح لذلک، و الشکّ فی بنائهم علی ذلک کافٍ فی عدم الجواز.

فانقدح بذلک ما فی کلام المحقق المیرزا النائینی قدس سره فی التقریرات: من أنّ توهُّمَ أنّ المقام من قبیل اکتناف الکلام بما یصلح للقرینیّة، غیرُ صحیح؛ لأنّ المتکلّم لو أراد الجمیع، و مع ذلک اکتفی فی مقام البیان بذکر استثناء واحد، مع تکرُّر عقْد الوضع فی الجملة الأخیرة، لَأَخَلَّ بالبیان؛ إذ بعد أخذ الاستثناء محلّه من الکلام؛ بذکر عقد الوضع فی الجملة الأخیرة، لا موجب لرجوعه إلی الجمیع(1). انتهی حاصله.

نعم ما ذکره صحیح؛ بناءً علی مذهبه من رجوع الاستثناء فی المفروض إلی الأخیرة فقط، و أمّا بناءً علی ما ذکرناه من الإجمال فلا.

و کذلک ما ذکره المحقّق العراقی قدس سره فی المقالات: من التفصیل بین کون دلالة العامّ علی العموم وضعیّة، فیجوز التمسّک بالعموم؛ لأنّ أصالة العموم- حینئذٍ- حاکمة علی أصالة الإطلاق فی جانب الاستثناء و المستثنی، و لا یصلح مثل هذا الاستثناء للقرینیّة علی خلاف العموم؛ لأنّ قرینیّته دوریّة، فیبقی العموم علی حجّیّته، و بین استفادة العموم من الإطلاق، فلا یجوز التمسُّک بالعموم، لا من جهة اتّصال کلٍّ من إطلاقی الاستثناء و المستثنی منه بما یصلح للقرینیّة؛ لعدم إمکان قرینیّة کلٍّ منهما؛ إذ ظهورُ کلِّ واحدٍ معلّقٌ علی عدم ظهور الآخر، فیلزم الدور المستحیل، بل عدم الأخذ بالإطلاق إنّما هو لعدم ظهور کلّ واحد منهما بالذات، لا لأجل اقتران اللفظ بما یصلح للقرینیّة؛ لما عرفت من عدم إمکان قرینیّة کلٍّ للآخر ببرهان الاستحالة.

مضافاً إلی أنّ الإطلاق فی المستثنی تابع له، فإن رجع الاستثناء إلی الأخیرة فقط فالإطلاق فی المستثنی فیها فقط، و إن رجع إلی الجمیع فالإطلاق إنّما هو فی المستثنی من الجمیع(2).


1- أجود التقریرات 1: 497.
2- انظر مقالات الاصول 1: 159 سطر 15.

ص: 410

ص: 411

المطلب الخامس المطلق و المقیّد

اشارة

ص: 412

ص: 413

الفصل الأوّل فی تعریف المطلق و المقیّد

عرّفوا المطلق: بما دلّ علی معنیً شائع فی جنسه(1)، و هذا التعریف غیر مستقیم، و ذلک لأنّ الظاهر- کما صرّح به بعضهم- أنّ المراد بالموصول فی التعریف هو اللفظ(2)، فالإطلاق- حینئذٍ- من صفات اللفظ:

فإن ارید أنّ المطلق هو لفظ یدلّ علی معنیً مع الشیوع فی جنسه، و أنّ حیثیّة الشیوع جزء مدلول اللفظ.

ففیه: أنّ شیئاً من المطلقات لیس کذلک، فإنّ المطلق- مثل «الرقبة»- لا یدلّ إلّا علی نفس الطبیعة بدون زیادة علی ذلک، أو مع زیادة الوحدة فی مثل النکرة، فلا یدلّ واحد من المطلقات علی الشیوع فی الجنس بالدلالة اللفظیة. نعم بعض ألفاظ العموم- مثل «أیّ» الاستفهامیّة- کذلک، لکنّها لیست من المطلقات.

و إن ارید أنّ المطلق ما دلّ علی معنیً سارٍ فی مُجانساته ذاتاً، فلیس المراد


1- معالم الدین: 154، الفصول الغرویة: 217 سطر 36، مفاتیح الاصول: 193.
2- مطارح الأنظار: 215 سطر 7، فوائد الاصول 2: 562.

ص: 414

بالجنس هو الجنس الاصطلاحی، بل الأفراد المجانسة له، فمدلول المطلق شی ء واحد و معنیً فارد، لکنّه شائع فی مجانساته ذاتاً بدون أن یدلّ اللفظ علی ذلک.

فهو و إن سَلِمَ عن الإشکال المذکور، لکن یرد علیه:

أوّلًا: النقض بالمقیّد کالرقبة المؤمنة، فإنّها- أیضاً- کذلک.

و ثانیاً: لیس الإطلاق و التقیید وصفین للّفظ، بل هما من صفات المعنی، فإنّ الإطلاق عبارة عن الخُلُوّ من القید، و المطلق هو المعنی الخالی عن القید؛ سواء کان ذلک المعنی هو موضوعَ الحکم، أو متعلَّقَه، أو نفسَ الحکم، أو نفسَ الطبیعة مع قطع النظر عن الحکم، فإنّ الإطلاق و التقیید یمکن اعتبارهما فی نفس الطبیعة- فی مقام الثبوت- مع قطع النظر عن الحکم، فإنّ المصلحة و المفسدة قد تقومان بنفس الماهیّة و الطبیعة، و قد تقومان بالمقیّدة منها، بل یمکن تصویر الإطلاق و التقیید مع قطع النظر عن وجود المصلحة و المفسدة فی الماهیّة، فإنّ نفس طبیعة الرقبة بدون القید مطلقة، و مع التقیید بالمؤمنة مثلًا مقیَّدة؛ و لو لم یتعلّق بهما حکم، و لم یترتّب علیهما مصلحة أو مفسدة.

و بالجملة: لیس الإطلاق و التقیید وصفین للّفظ أوّلًا و بالذات، بل للمعنی.

و ثالثاً: لیس المطلق دائماً و فی جمیع الموارد ماهیّةً کلّیّة ساریة فی مجانساته، بل قد یکون جزئیّاً حقیقیّاً، کنفس الحکم الذی هو مفاد الهیئة إذا اطلق؛ لما عرفت سابقاً: أنّ الموضوع له فی الهیئات خاصّ، و أنّها موضوعة لإیجاد الحکم، فلا معنی لسریانه فی مجانساته حتّی یتکلّف فی توجیهه.

فتلخّص: أنّ هذا التعریف غیر صحیح.

ص: 415

الفصل الثانی فی الفرق بین الإطلاق و أقسام الماهیة

اشارة

ثمّ إنّ الإطلاق و التقیید وصفان إضافیّان، فیمکن أن تکون الماهیّة مطلقة بالنسبة إلی قید لم تُقیَّد به، و بالإضافة إلی قید آخر قُیِّدت به مقیّدة، مثل «الرقبة» فی الأوّل و «الرقبة المؤمنة» فی الثانی، فالتقابل بینهما أشبه بتقابل العدم و الملکة، و إن لم تکونا کذلک حقیقةً؛ لأنّه یعتبر فی الموضوع فی تقابل العدم و الملکة قابلیّتُهُ للتقیید، کالعمی و البصر، فإنّ الأعمی قابل للبصر، و من شأنه ذلک، و بعد أن صار بصیراً تزول عنه القابلیّة، و یصیر فعلیّاً، بخلاف المطلق، فإنّه لیس له حالة منتظرة؛ لیصیر بعد التقیّد فعلیّاً.

ثمّ لا فرق فی أنّ معنی الإطلاق عبارة عن اللاقیدیّة بین موارده؛ سواء کان فی الماهیّات المجرّدة کالرقبة، أم فی الأعلام الشخصیّة، کالبیت العتیق فی قوله تعالی:

«وَ لْیَطَّوَّفُوا بِالْبَیْتِ الْعَتِیقِ»(1)، فإنّه مطلق بالإضافة إلی القیود و الحالات المتصوّرة فیه، کالمسقّفیّة و عدمها و نحو ذلک، و کذلک الجواهر و الأعراض من الماهیّات


1- الحج: 29.

ص: 416

المتأصّلة، و العرضیّات من الماهیّات الغیر المتأصّلة؛ سواء اخذ فی متعلَّق الأمر و الحکم، أم فی موضوعه، و کذلک الإطلاق فی نفس الحکم و الماهیّة فی عالم التصوّر و فی مقام الثبوت؛ لما عرفت من أنّ الإطلاق و التقیید لا ینحصران فی مقام الإثبات و الدلالة فقط، بل یُتصوّران فی مقام الثبوت أیضاً، لکن نظرهم إنّما هو الإطلاق و التقیید فی مقام الإثبات و الدلالة؛ لأنّه محلّ ظهور الثمرة.

و هذا الّذی ذکرناه فی معنی الإطلاق لا ارتباط له بتقسیم الماهیّة إلی الماهیّة اللابشرط و البشرطلا و البشرط شی ء(1)؛ لأنّ هذه الأقسام إنّما هی للماهیّات المتأصّلة، و لا اختصاص للإطلاق و التقیید بها، بل الماهیّات الاعتباریّة قد تتّصف بالإطلاق و التقیید- أیضاً- کالبیع و النکاح و نحوهما.

لکن لا بأس ببسط الکلام فی بیان هذه الأقسام تبعاً للقوم، فنقول:

اشارة

الماهیّة- کرجل- قد تلاحظ فی الذهن، و هی- حینئذٍ- من الموجودات الذهنیّة، و حیث إنّ وجودها الذهنی- و لحاظها الذی وُجدت به فیه- مغفولٌ عنه للّاحظ، و أنّه یتصوّر نفس الماهیّة المجرّدة عن جمیع القیود، یمکن أن یوضع لفظ «الرجل» لها بدون تقییده بقید من القیود، حتّی قید وجودها الذهنی، فأسماء الأجناس موضوعة لنفس الطبیعة المجرّدة بلحاظها کذلک.

فما یظهر من بعض المحشّین علی «الکفایة»- المحقّق الاصفهانی قدس سره-: من أنّ الواضع یتصوّر الماهیّة بقید الإرسال، فیضع اللفظ لنفسها، و لحاظ الإرسال إنّما هو لأجل السریان فی جمیع أفرادها(2).

فیه: أنّ الوضع لنفس الماهیّة بتصوُّرها کذلک، کافٍ فی السریان بدون الاحتیاج إلی لحاظ الإرسال، مع أنّ مجرّد لحاظ الإرسال لا یُفید ما لم یوضع اللفظ


1- شرح المنظومة- قسم الفلسفة: 95 سطر 16.
2- نهایة الدرایة 1: 353 سطر 1.

ص: 417

بإزائها مقیّداً به.

فالحقّ ما عرفت: من أنّ أسماء الأجناس موضوعة لنفس الماهیّة بلحاظها کذلک، و معنی صدقها علی الأفراد هو اتّحادها مع کلّ واحد منها، لا انطباقها علیها و حکایتها عنها.

ثمّ إنّ تقسیم الماهیّة إلی المطلقة و المخلوطة و المجرّدة(1)، هل هو تقسیم لنفس الماهیّة، أو أنّه تقسیم لها مقیسة إلی الاعتبارات الثلاثة، و هی البشرط شیئیّة و البشرطلائیّة و اللّابشرطیّة، فالمَقْسم- حینئذٍ- هو الماهیّة المقیسة إلیها، لا نفس الماهیّة، و حینئذٍ فالماهیّة المقیسة إلی جمیع اللواحق العارضة لها- کالبیاض و السواد مثلًا- هو اللابشرط القسمی، أو أنّه تقسیم للحاظ الماهیّة، لا لنفس الماهیّة، و لا الماهیّة المقیسة إلی الاعتبارات الثلاثة؟

فنقول: لا بدّ من ملاحظة أنّ هذا التقسیم من الفلاسفة العظام، هل هو مجرّد فرض و اعتبار؛ بحیث یمکن أن یُفرض شی ء واحد لا بشرط و بشرط شی ء و بشرط لا، أو أنّ الأقسام المذکورة انعکاسات عن الخارج و صور له و حاکیة عن الحقائق الواقعیّة، و إنّما ذکروها فی مقام التعلیم و التعلُّم، کما أنّ مراتب الفصول و الأجناس من العالی و السافل منهما و المتوسّطات صور للعالَم؛ حیث إنّ الهیولی الاولی التی هی مادّة الموادّ، لمّا تحرّکتْ قَبِلت الصورة الجسمیّة أوّلًا، فمنها ما وقفت علیها و تعصّت عن الترقّی إلی ما فوقها؛ أی الصورة المعدنیّة کالحجر و المدر، و منها ما تحرّکت إلی ما فوقها، و قبلت الصورة المعدنیّة، و المعدنیّات- أیضاً- ما وقفت علی صورتها متعصّیة عن التحرّک إلی ما فوقها؛ أی الصورة النباتیّة کالشجر و سایر النباتات، و منها ما تحرّکت عنها إلی ما فوقها، و قبلت الصورة الحیوانیّة، و الحیوانات- أیضاً- کذلک منها ما وقفت علی صورتها، و منها ما تحرّکت إلی ما فوقها، و هی الصورة الإنسانیّة.


1- شرح المنظومة- قسم الفلسفة: 95 سطر 14.

ص: 418

و هذه الحرکة من الهیولی الاولی فی هذه المراتب، منها ما یحتاج إلی فصل زمانٍ، و فی بعضها بدون فاصلة من الزمان، فالمعدن الذی هو فی الذهب غیر المعدن الذی هو فی الإنسان، و الحیوانیّة التی فی البقر- مثلًا- غیر الحیوانیّة التی فی الإنسان، فمراتب الأجناس و الفصول لیست مجرّد فرض و اعتبار، بل هی صور عالَم الکون.

و أمّا تقسیم الماهیّة إلی الأقسام الثلاثة، فیظهر من بعضهم: أنّها مجرّد فرض و اعتبار، و أنّها قد تعتبر لا بشرط، و قد تعتبر بشرط لا، و قد تعتبر بشرط شی ء(1).

و أجابوا عن الإشکال فی هذا التقسیم- بأنّه تقسیم للشی ء إلی نفسه و إلی غیره، و اتّحاد المَقْسم مع بعض الأقسام(2)- بالفرق بین اللابشرط القسمی و اللابشرط المَقْسمی، و أنّ اللابشرط القسمی هو ما لوحظ فیه اللابشرطیّة، و قُیّدت الماهیّة بها، بخلاف المقسمی، فإنّه لم یلاحظ فیه مع الماهیّة شی ء حتّی اللابشرطیّة(3).

و نظیر ذلک الفرق بین المادّة و الجنس و النوع، فقالوا: إنّ الماهیّة إن اعتُبرت بشرط شی ء فهی النوع، و إن اعتُبرت بشرط لا فهی المادّة، و إن اعتبرت لا بشرط فهی الجنس(4)، فالفرق بینهما إنّما هو بالاعتبار، و أنّها إذا اعتبرت لا بشرط أمکن حملها، و إن اعتبرت بشرط لا امتنع حملها.

لکن هذا کلّه خلاف مراد الفلاسفة و الحکماء؛ لأنّ الفرق بین المادّة و الجنس و النوع لیس بمجرّد الفرض و الاعتبار الذهنیّ، بل الفرق بینها أمر واقعیّ تکوینیّ؛ لأنّ الهیولی بعد ما قبلت صورةً من الصور النوعیّة کالجوزة- مثلًا- صارت المادّة فعلیّة، ثمّ ان کان فیها استعداد کونها شجرة، فهی مادّة للشجرة، فالمادّة الاولی للصورة


1- شرح المنظومة- قسم الفلسفة: 95 سطر 15.
2- الاسفار 2: 19 قرّره.
3- انظر الأسفار 2: 19.
4- انظر الأسفار 2: 18.

ص: 419

النوعیّة للجوزة بشرط شی ء عند صیرورتها جوزة، و ترکیبها مع صورة الجوزة اتّحادیّ؛ بمعنی أنّ المادّة صارت فعلیّة، و المادّة الثانیة التی فی الجوزة- أی الاستعداد للشجریّة و قبولها لصورة الشجریّة- هی اللابشرط بالنسبة إلی صورة الجوزة، و ترکیبهما انضمامیّ؛ بمعنی أنّ لها الاستعداد لقبول صورة الشجریّة، و هو موجود مع صورة الجوزة، لا أنّها شی ء التصق بها، فالأوّل هو النوع، و الثانی هو المادّة.

و کذلک فیما نحن فیه، فإنّ تقسیم الماهیّة إلی الاعتبارات الثلاثة بمجرّد الفرض و الاعتبار، بل کلّ ماهیّة إذا قیست بحسب ذاتها أو وجودها الخارجیّ إلی شی ء آخر من لوازمها و لواحقها، فهی بالإضافة إلیه: إمّا بشرط شی ء أو بشرط لا أو لا بشرط، مثلًا: إذا قیست الماهیّة فی وجودها الخارجی- کالجسم- بالنسبة إلی التحیُّز، فهی بشرط شی ء بالنسبة إلیه؛ لعدم انفکاکه عنه فی وجوده، و إذا قیست إلی التجرُّد فهی بشرط لا بالنسبة إلیه؛ لاستحالة اتّصافها به، و إذا قیست إلی مثل البیاض و السواد فهی لا بشرط؛ لإمکان اتّصافها بهما و عدمه.

و هکذا الماهیّة بحسب ذاتها إذا قیست إلی شی ء آخر فلا تخلو عن أحد الامور الثلاثة: فإنّها بالنسبة إلی ما لا یمکن انفکاکها عنه کلوازمها بشرط شی ء، و بالنسبة إلی ما لا یمکن اتّصافها به بشرط لا، و بالنسبة إلی ما أمکن فیه الأمران، و لیست آبیة عنه و عن عدمه، فهی لا بشرط، فالفرق بین الأقسام المذکورة لیس مجرّد الفرض و الاعتبار الذهنیّ؛ بحیث إذا لوحظت بشرط لا عن شی ء واحد فهی بشرط لا، و إذا اعتُبرت بشرط ذلک الشی ء فهی بشرط شی ء، و إذا اعتُبرت لا بشرط عن ذلک الشی ء فهی اللابشرط، و أنّها إذا اعتُبرت لا بشرط شی ء أمکن حملها، و إن اعتُبرت بشرط لا عن هذا الشی ء امتنع حملها.

بل الفرق بینها واقعیٌّ کما عرفت، و حینئذٍ فالمَقْسم فی الأقسام المذکورة، هی نفس الماهیّة المطلقة المتّحدة مع کلّ واحد من الأقسام، و لا یرد علیه إشکال لزوم

ص: 420

تقسیم الشی ء إلی نفسه و غیره.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّ أسماء الأجناس موضوعة لنفس الطبیعة المطلقة اللابشرط المَقْسمی، و تعرف ما فی کلام المیرزا المحقّق النائینی قدس سره علی ما فی التقریرات، فإنّه قال ما حاصله: إنّ الماهیّة قد تعتبر بشرط لا؛ بمعنی أنّها تعتبر علی نحوٍ لا تتّحد مع ما هو معها، فهی بهذا الاعتبار مغایرة لما هی تتّحد معه باعتبار آخر، و الماهیّة المعتبرة علی هذا النحو، تقابلها الماهیّة المعتبرة لا بشرط بالإضافة إلی الاتّحاد، و هذا کما فی المشتقّات بالإضافة إلی مبادئها، و کما فی الجنس و الفصل بالإضافة إلی المادّة و الصورة، فهی- أی المبادئ- آبیة عن حمل بعضها علی بعض و علی الذوات المعروضة لها؛ لأنّها اخذت بشرط لا، و أمّا المشتقّات فهی قابلة لحمل بعضها علی بعض آخر، لا بمعنی أنّها تعتبر علی نحوٍ لا یکون معها شی ء من الخصوصیّات، و اللابشرط بهذا المعنی خارج عمّا هو محلّ الکلام.

و قد تعتبر الماهیة بشرط لا؛ بمعنی أنّها تعتبر علی نحوٍ لا یکون معها شی ء من الخصوصیّات اللاحقة لها، و یُعبَّر عنها بالماهیّة المجرّدة، فهی بهذا الاعتبار من الکلّیّات العقلیّة التی یمتنع صدقها علی الموجودات الخارجیّة، و الماهیّة المأخوذة بشرط لا بهذا المعنی یقابلها أمران:

الأوّل: الماهیّة المعتبرة بشرط شی ء؛ أی الماهیّة الملحوظ معها اقترانها بخصوصیّة من الخصوصیّات اللاحقة لها؛ سواء کانت تلک الخصوصیّة وجودیّة أو عدمیّة، و یعبّر عنها بالماهیّة المخلوطة، و الماهیّة بهذا الاعتبار تنحصر صدقها علی الأفراد الواجدة لتلک الخصوصیّة، و یمتنع صدقها علی الفاقدة لها.

الثانی: الماهیّة المعتبرة لا بشرط؛ أعنی بها ما لا یعتبر فیه شی ء من الخصوصیّتین المعتبرتین فی الماهیّة المجرّدة و المخلوطة، و یُعبّر عنها بالماهیّة المطلقة و الماهیّة المأخوذة بنحو اللابشرط القسمی، و هو المراد بلفظ المطلق حیثما اطلق فی

ص: 421

المباحث، و الماهیّة بهذا الاعتبار قابلة للصدق علی جمیع الأفراد المعتبرة کلٌّ منها بخصوصیّة تغایر خصوصیّة الفرد الآخر.

فظهر بذلک: أنّ الکلی الطبیعی الصادق علی کثیرین إنّما هو اللابشرط القسمی، دون المقسمی؛ لأنّ اللابشرط المقسمی أی نفس الطبیعة من حیث هی جامعة بین الکلی المعبّر عنه باللابشرط القسمی الممکن صدقه علی کثیرین، و الکلی المعبّر عنه بالماهیّة المأخوذة بشرط شی ء، الذی لا یصدق إلّا علی الأفراد الواجدة لما اعتبر فیه من الخصوصیّة، و من الواضح أنّه یستحیل أن یکون الجامع بین هذه الأقسام هو الکلی الطبیعی؛ لأنّ الکلی الطبیعی هو الکلی الجامع بین الأفراد الخارجیّة الممکن صدقه علیها، فهو- حینئذٍ- قسیم للکلی العقلی الممتنع صدقه علی الأفراد الخارجیّة، و لا یعقل أن یکون قسیم الشی ء مَقْسماً له و لنفسه؛ لأنّ المقسم لا بدّ أن یکون متحقّقاً فی جمیع أقسامه، فالمقسم هو الجامع القابل للصدق علی الخارج و علی الکلی العقلی، و لا یُعقل أن یکون الکلی الطبیعی هو الجامع بین الماهیّة المجرّدة و الأفراد الخارجیّة، بل هو المتمحِّض فی کونه جهة جامعة بین جمیع الأفراد الخارجیّة المعبَّر عنها باللابشرط القسمی، و الجامع بین جمیع هذه الأقسام هی الماهیّة المأخوذة علی نحو اللابشرط المقسمی.

و اتّضح بذلک: أنّ الفرق بین اللابشرط القسمی و بین المقسمی: هو أنّ اللابشرط المقسمی قد اخذ لا بشرط بالإضافة إلی خصوصیّات الأقسام الثلاثة، الممتاز کلُّ واحدٍ منها عن الآخر باللحاظ، و اللابشرط القسمی قد اخذ لا بشرط بالإضافة إلی الخصوصیّات و الأوصاف اللاحقة لها باعتبار اتّصاف أفرادها بها، کالعلم و الجهل بالنسبة إلی الإنسان.

و من ذلک یظهر أنّه یمکن تقسم الماهیّة إلی أقسامها الثلاثة بوجه آخر: و هو أن یقال: إنّ الماهیّة إمّا أن تلاحظ علی نحو الموضوعیّة و غیرَ فانیةٍ فی مصادیقها

ص: 422

الخارجیّة، فهی الماهیّة المجرّدة المأخوذة بشرط لا، و إمّا أن تلاحظ علی نحو الطریقیّة و فانیةً فی جمیع المصادیق؛ بحیث یکون المحمول الثابت لها ثابتاً لجمیعها، فهی الماهیّة المطلقة المأخوذة علی نحو اللابشرط القسمی، و إن لوحظت فانیةً فی قسم خاصّ من الأقسام دون غیره، فهی الماهیّة المأخوذة بشرط شی ء.

ثمّ قال: إنّا مهما شککنا فی شی ء لا نشکّ فی أنّ الإطلاق مساوق لأخذ الماهیّة علی نحوٍ یسری الحکم الثابت لها إلی جمیع أفرادها، فیکون مفادُ «أعتق رقبةً» مثلًا- بعد فرض تمامیّة مقدّمات الإطلاق فی الکلام- مساوقاً لمفاد «أعتق أیّة رقبة»، و هذا المعنی لا یتحقّق فی فرض کون اللابشرط القِسمی مَقْسماً(1). انتهی ملخّص کلامه علی ما فی تقریرات درسه.

أقول: فی کلامه قدس سره مواقع للنظر و الإشکال و التناقض الغیر القابل للجمع، و لنذکر بعضها:

أمّا أوّلًا: فلأنّ ما ذکره من التقسیم أوّلًا: بأنّ البشرطلا: عبارة عن أخذ الماهیّة و اعتبارها علی نحوٍ لا یکون معها شی ء من الخصوصیّات، و بشرط شی ء:

عبارة عن أخذها و اعتبارها مع خصوصیّةٍ من الخصوصیّات، و لا بشرط: عبارة عن أخذها و اعتبارها علی نحوٍ لا یعتبر فیها شی ء من الخصوصیّتین.

فیه: أنّه إن أراد من الأخیر- أی اللابشرط القسمی- أنّه ما لوحظ و اعتبر فیه عدم اعتبار شی ءٍ من الخصوصیّات- کما هو الظاهر- فاللابشرط بهذا المعنی کلّیّ عقلیّ، لا موطن له إلّا العقل و الذهن، و یمتنع صدقه علی الخارج؛ لتقوّمه بالاعتبار و اللحاظ الذی هو أمر ذهنیّ، و لا یمکن صدقه علی الخارج.

فإن قلت: إنّ ذلک مُسلّم لو اخذ لحاظ عدم الاعتبار بالمعنی الاسمیّ، و أمّا لو اخذ بالمعنی الحرفیّ فلا یمتنع صدقه علی الخارج و حمله علیه، کما ذکره صاحب الدُّرر


1- أجود التقریرات 1: 522- 526.

ص: 423

ردّاً علی «الکفایة»(1)؛ حیث قال: و فیما أفاده- أی صاحب الکفایة من امتناع الصدق علی الخارج- نظر؛ لإمکان دخل الوجود الذهنی علی نحو المرآتیّة فی نظر اللاحظ، کما أنّه تنتزع الکلّیّة عن المفاهیم الموجودة فی الذهن، لکن لا علی نحوٍ یکون الوجود الذهنی ملحوظاً للمتصوِّر بالمعنی الاسمی؛ إذ هی بهذه الملاحظة مباینة مع الخارج، و لا تنطبق علی شی ء، و لا معنی لکلّیّة شی ءٍ لا ینطبق علی الخارج أصلًا(2). انتهی ما فی «الدُّرر».

فإن قلت: المراد من المعنی الحرفیّ هو عدم لحاظ عدم اعتبار مقارنتها مع احدی الخصوصیّات، فی قِبال المعنی الاسمی الذی هو عبارة عن لحاظ ذلک، و حینئذٍ فإذا قُسِّمت الماهیّة إلی الأقسام الثلاثة: فإمّا أن یجعل اللابشرط القسمی نفس الماهیّة، أو الماهیّة الملحوظة عدم مقارنتها مع إحدی الخصوصیّات(3):

فعلی الأوّل: یلزم اتّحاد القسم و المَقْسم، کما ذکرنا أوّلًا.

و علی الثانی: فهو من الکلّیّات العقلیّة؛ لتقوّمه بالاعتبار العقلی، و یمتنع صدقه علی الخارج؛ لأنّه یلزم أن لا یکون الموجود فی الخارج نفس الإنسان و ماهیّته، بل الإنسان مع قید الاعتبار، و هو محال، فإنّ الموجود فی الخارج هو نفس ماهیّة الإنسان، و یمتنع حمل الإنسان مع قید لحاظ عدم اعتبار خصوصیّة معه علی الإنسان الموجود فی الخارج.

مضافاً إلی أنّه لا معنی لأخذ اللحاظ فی مقام التقسیم بالمعنی الاسمی.

و إن أراد أنّ اللابشرط القسمی هو ما لم یعتبر فیه لحاظ عدم الاعتبار، بل لوحظ فیه نفس الماهیّة فقط، یتوجّه علیه إشکال لزوم الاتّحاد بین المقسم و بعض


1- کفایة الاصول: 283.
2- درر الفوائد: 232.
3- انظر أجود التقریرات 1: 522.

ص: 424

الأقسام، لکن الظاهر أنّ مراده هو الأوّل.

و ثانیاً: أنّه قدس سره ذکر فی صدر کلامه عدم اعتبار شی ء من الخصوصیّتین فی اللابشرط القسمی(1)، و هو مناقض لما ذکره من الفرق بین المقسم و الأقسام: من أنّ اللابشرط القسمی عبارة عمّا اخذ لا بشرط بالإضافة إلی الخصوصیّات و الأوصاف اللاحقة لها باعتبار اتّصاف أفرادها بها، کالعلم و الجهل بالنسبة إلی الإنسان.

و ثالثاً: ما ذکره قدس سره فی التقسیم الأخیر من معنی اللابشرط القسمی مناقض لما ذکره أوّلًا لمعناه؛ لتقوّمه فیما ذکره أخیراً بالفناء فی الأفراد، و اعتبار ذلک فیه دون الأوّل.

اللّهمّ إلّا أن یکون تقسیماً آخر و هو کما تری، مضافاً إلی أنّه غیر مستقیم فی نفسه؛ لامتناع صدقه- حینئذٍ- علی الخارج؛ لتقوّمه باعتبار الفناء الذی هو أمر ذهنیّ.

و رابعاً: ما ذکره أخیراً فی مقام الفرق بین المَقسم و الأقسام- أیضاً- مناقض لما ذکره أوّلًا؛ فإنّ المقسم- بناءً علی ما ذکره أوّلًا- هو نفس الماهیّة و الطبیعة، و جعله هنا الماهیّة التی اخذت لا بشرط بالإضافة إلی خصوصیّات الأقسام الثلاثة بلحاظ الماهیّة، و تصوّرها فی کلّ واحد منها علی نحوٍ یُغایر لحاظها فی الآخر، و حینئذٍ فلا محیص إمّا عن الالتزام بأنّ الفرق بین الأقسام و المقسم بمجرّد الاعتبار و الفرض، کما یظهر من المحقّق السبزواری فی المنظومة؛ حیث قال:

مخلوطة مطلقة مُجرَّدةعند اعتباراتٍ علیها مُوْرَدة(2)

أو عن ما ذکرناه و حقّقناه مفصّلًا.


1- أجود التقریرات 1: 523.
2- شرح المنظومة- قسم الفلسفة: 95 سطر 15.

ص: 425

تتمیم: فی اسم الجنس و عَلم الجنس

ثمّ إنّه قال فی «الکفایة»: المشهور بین أهل العربیّة أنّ عَلم الجنس- کأُسامة- موضوع للطبیعة لا بما هی هی، بل بما هی متعیِّنة بالتعیُّن الذهنی(1)، و لذا یُعامل معها معاملة المعرفة بدون أداة التعریف.

لکن التحقیق: أنّه موضوع لصِرف المعنی بلا لحاظ شی ءٍ معه أصلًا کاسم الجنس، و التعریف فیه لفظیّ، و إلّا لما صحّ حمله علی الأفراد بلا تصرُّف و تجرید؛ لأنّه علی المشهور کلّیّ عقلیّ لا یکاد یصدق علیها إلّا مع التجرید، مع أنّه لا معنی للوضع لما یحتاج إلی التجرید عنه فی الاستعمالات المتعارفة(2).

و أورد علیه فی «الدُّرر»: بأنّ لحاظ التعیُّن إنّما هو بالمعنی الحرفیّ دون الاسمیّ؛ کی یمتنع حمله علی الخارج، و حینئذٍ یجوز حمله علی الخارج بلا عنایة التجرید(3).

أقول: هذا الجواب- علی فرض تمامیّة أصل المطلب- غیر وجیه؛ لأنّه لا معنی للحاظ التعیین إلّا بالمعنی الاسمی- کما أشرنا إلیه- فلا بدّ من بیان معنیی المعرفة و النکرة؛ لیتّضح الفرق بینهما.

فنقول: الفرق بینهما حقیقیّ واقعیّ، فإنّ لبعض المفاهیم تعیُّناً فی نفس الأمر و فی عالم المفهومیّة، کمفهوم «زید»، فإنّ مفهومه أمر متعیّن حقیقةً، و بعضها لیس کذلک، فإنّ مفهوم «رجل» غیر متعیّن فی نفس الأمر و فی عالَم المفهومیّة، و حینئذٍ فالماهیّة


1- انظر المطول: 64 سطر 3، قوانین الاصول: 198 سطر 3، الفصول الغرویّة: 165 سطر 35، و هدایة المسترشدین: 343 سطر 38.
2- انظر کفایة الاصول: 283- 284.
3- انظر درر الفوائد: 232.

ص: 426

بحسب ذاتها لا معرفة و لا نکرة، بل اللفظ الموضوع بإزائها لا یستعمل بنفسه إلّا مع إلحاق اللواحق، بل المنکوریّة و المعروفیّة من العوارض اللاحقة للماهیّة، و إلّا فهی فی مرتبة ذاتها لا معرفة و لا نکرة، و لأجل أنّها کذلک قد تلحقها النکارة و قد یلحقها التعریف، و لو کانت نکرة لما أمکن عروض التعریف علیها بالعکس، و حینئذٍ فإن قلت: «الرجل» فهو معرفة، و إن قلت: «رجل» فهو نکرة.

و حینئذٍ فیمکن أن یکون عَلم الجنس موضوعاً للماهیّة المتعیّنة واقعاً من بین الماهیّات ممتازة عنها، فإنّ ماهیّة «الأسد» ممتازة عن جمیع ما سواها من الماهیّات فی نفس الأمر، و وُضِع عَلم الجنس بإزائها، لا بإزائها مع لحاظ التعیُّن بنحوٍ یجعل لحاظ تعیُّنها جزءاً للموضوع له؛ لیرد علیه امتناع الحمل- حینئذٍ- إلّا مع التجرید کما فی «الکفایة»(1)، بل موضوع للماهیّة المتعیّنة فی نفس الأمر، و حینئذٍ فمفاد «أسد» هو مفاد «اسامة»، غایة الأمر أنّ اسم الجنس المعرَّف باللام یدلّ علی الماهیّة المتعیِّنة بتعدُّد الدالّ و المدلول، و عَلم الجنس یدلّ علیه بنفسه بدالّ واحد، و حینئذٍ فالتعریف فی أسماء الأجناس حقیقیّ علی وِفق القاعدة، کالتعریف فی أعلام الأشخاص، لا لفظیّ علی خلاف القاعدة.

و لیس المراد مطلق التعیُّن؛ کی یقال: إنّ النکرة- أیضاً- کذلک؛ لأنّها ممتازة عن المعرفة؛ لما عرفت من أنّ المراد هو التعیُّن بحسب المفهوم، و النکرة لیست کذلک، فهی بحسب المفهوم ممتازة عن غیرها هو الموضوع له للفظها.

و أمّا المفرد المحلّی باللام: فالحقّ أنّ الألف و اللام موضوعتان لمعنیً واحد، و هو تعریف الجنس، و مفیدتان للتعیین.

و أمّا العهد الذهنی و الحضوری و الذِّکری و الخارجی و الاستغراق، فهو مستفاد


1- کفایة الاصول: 284.

ص: 427

من القرائن الخارجیّة، کالحضور و الذکر و نحوهما.

و أمّا الجمع المحلّی باللام: فالحقّ أنّ اللام فیه مفیدة لتعریف الجمع و الإشارة إلی مرتبة معیّنة منه، و هی المرتبة المستغرقة لجمیع الأفراد، فإنّها المتعیِّنة فی نفس الأمر فقط، و أمّا أقلّ الجمع کالثلاثة فلیست متعیِّنة؛ لصدقها علی کثیرین من أفراد الثلاثة، بخلاف جمیع الأفراد، فلا یرد علیه ما أورده فی «الکفایة»(1).

و أمّا النکرة مثل «رجل» فی «وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَی الْمَدِینَةِ»(2) و نحوه، أو فی «جئنی برجل»، فاختلفوا فی أنّ معناها جزئیّ حقیقیّ فیهما(3)، أو کلی فیهما(4)، أو أنّه جزئیّ معلوم بالنسبة إلی المتکلّم فی الأوّل، و کلّیّ فی الثانی(5)، علی أقوال أقواها الثانی، فإنّه لا فرق بینهما فی أنّ مفهوم «رجل» هو فرد غیر معیَّن من أفراد الرجال، و أمّا أنّه معلوم و مصداق معیّن عند المتکلّم فی الأوّل، فإنّما هو لقرینة خارجیّة، و هی کلمة «جاءنی».

و اخترنا الاختصار فی هذه المباحث لخروجها عن المقصد، فلنرجع إلی أصل المبحث.


1- کفایة الاصول: 285.
2- القصص: 20.
3- درر الفوائد: 233.
4- انظر قوانین الاصول 1: 329 سطر 5.
5- کفایة الاصول: 285.

ص: 428

ص: 429

الفصل الثالث فی مقدّمات الحکمة

اشارة

فنقول: لیس معنی الإطلاق هو السریان الشمولی أو البَدلی أو تعلُّق الحکم بالأفراد؛ کی یُستشکَل فی عدّ النکرة و أسماء الأجناس من المطلقات، و یُجاب: بأنّ الإطلاق فیهما إنّما هو بالوضع کما هو المشهور(1)، أو بمعونة مقدّمات الحکمة کما نسب إلی سلطان(2) العلماء.

بل معنی الإطلاق فی الجمیع معنیً واحد؛ سواء کان فی الماهیّة، أو فی أفرادها، أو فی أحوال العَلَم، أو فی الحکم، و هو اللاقیدیّة، کما مرّت إلیه الإشارة غیر مرّة، فإنّ السریان و الشمول هو معنی العموم لا الإطلاق، و لیس معنی الإطلاق لحاظ الحالات و الخصوصیّات، و لیس من صفات اللفظ- أیضاً- بل من أوصاف المعنی.

و حینئذٍ فما ذکره فی «الکفایة»:- من أنّ المطلق هو اسم الجنس و القسم الثانی من النکرة فقط، لا القسم الأوّل، و أنّه لا یبعد أن یکون الجری فی هذا الإطلاق


1- نهایة الأفکار 2: 562- 564.
2- المصدر نفسه.

ص: 430

علی وفق اللُّغة، لا أنّ لهم فیه اصطلاحاً خاصّاً(1)- غیر وجیه.

و کذا ما ذکره بعد ذلک: من أنّه بعد جریان مقدّمات الحکمة و إثبات الإطلاق لا فرق بینه و بین العموم(2).

إلّا أنّ الاحتیاج إلی مقدّمات الحکمة إنّما هو فی موردین فی المطلق: أحدهما بالنسبة إلی الأنواع، کالرومیّة و الزنجیّة بالنسبة إلی الإنسان، و ثانیهما بالنسبة إلی الأفراد، بخلاف العامّ، فإنّه لا یحتاج فیه بالنسبة إلی الأفراد إلی مقدّمات الحکمة، و إن احتیج إلیها بالنسبة إلی الأنواع.

و أمّا مقدّمات الحکمة فلا یحتاج فی إثبات الإطلاق منها إلّا إلی کون المتکلّم فی مقام بیان تمام المراد، و هذه هی المقدّمة الاولی. فإنّه لو لم یکن فی مقام بیان تمام المراد بالنسبة إلی حکم، فلا یمکن الأخذ بالإطلاق بالنسبة إلیه، کما لو قال: «إذا شککتَ فابْنِ علی الأکثر»، فإنّه لا یصحّ الأخذ بالإطلاق بالنسبة إلی الصلاة، و أنّ الصلاة بنحو الإطلاق کذلک و لو نافلةً؛ و ذلک لعدم صحّة الاحتجاج للعبد علی المولی بذلک؛ لأنّه یصحّ للمولی أن یجیب: بأنّی لم أکن فی مقام بیان حکم ذلک، بل فی مقام بیان حکم الشکّ إجمالًا.

و قال فی «الدُّرر»: إنّه لا احتیاج إلی هذه المقدّمة- أی إحراز أنّ المتکلّم فی مقام بیان تمام المراد- فی الحمل علی الإطلاق مع عدم القرینة؛ لأنّ المهملة مردّدة بین المطلق و المقیّد، و لا ثالث لهما، و لا إشکال فی أنّه لو کان مراده المقیّد فالإرادة متعلّقة به بالأصالة، و إنّما تُنسب إلی الطبیعة بالعَرَض و المجاز لمکان الاتّحاد، فنقول: لو قال القائل: «جِئنی بالرجل- أو- برجل» فهو ظاهر فی أنّ الإرادة أوّلًا و بالذات متعلّقة بالطبیعة، لا أنّ المراد هو المقیّد، و إنّما أضاف إرادته إلی الطبیعة لمکان الاتّحاد، و بعد


1- کفایة الاصول: 286.
2- کفایة الاصول: 292.

ص: 431

تسلیم هذا الظهور تسری الإرادة إلی تمام الأفراد، و هذا معنی الإطلاق(1). انتهی.

و فیه: أنّ هذا البیان إنّما یصلح لإثبات الاحتیاج إلی تلک المقدّمة فی الأخذ بالإطلاق، فإنّه لو لم یکن المتکلّم فی مقام البیان و لم یُحرز ذلک، کیف یمکن إثبات ظهور أنّ الإرادة أوّلًا و بالذات متعلّقة بالطبیعة؟! فالظهور المذکور موقوف علی إحراز کون المتکلّم فی مقام البیان.

و أمّا المقدّمة الثانیة: و هی عدم ذکر القرینة و القید، کما فی «الکفایة» أنّها إحدی المقدّمات التی لا بدّ منها فی إثبات الإطلاق(2)، فهو من الأعاجیب؛ لأنّ مورد جریان مقدّمات الحکمة هو ما إذا شُکّ فی الإطلاق و التقیید فیحکم بالإطلاق بمعونة مقدّماته، و مع إحراز عدم القید لا یبقی شکّ فی الإطلاق، مع کون المتکلّم فی مقام بیان تمام المراد، فمع إحراز عدم القید و القرینة یتحقّق موضوع الإطلاق، لا أنّه شرطه.

و أمّا المقدّمة الثالثة: التی ذکرها فی «الکفایة»(3) و هی عدم وجود القدر المتیقَّن فی مقام التخاطب؛ و لو کان المتیقَّن بملاحظة الخارج عن مقام التخاطب فی البین، و المراد بالقدر المتیقّن فی مقام التخاطب هو کون الکلام و المخاطب بحیثٍ و حالةٍ یُفهم القدر المتیقّن من تعلُّق الحکم بالأفراد- و أنّ أفراداً معیّنة أو أصنافاً أو أنواعاً خاصّة متعلَّقة للحکم قطعاً- بمجرّد إلقاء الکلام؛ لمکان ما فی ذهن المخاطب من الانس و غیره.

و المراد من القدر المتیقَّن فی الخارج عن مقام التخاطب: هو أن لا یکون الکلام و المخاطب کذلک، و لا یَفهم المخاطَب القدر المتیقّن بمجرّد إلقاء الکلام، و إن فُهم ذلک بعده بالتأمّل و التدبّر.


1- درر الفوائد: 234.
2- کفایة الاصول: 287.
3- المصدر السابق.

ص: 432

فنقول: إنّه لا احتیاج إلی هذه المقدّمة أیضاً، بل لا معنی لها حسب ما مرّ: من أنّ المطلق: عبارة عن ما لیس له قید، و الإطلاق: عبارة عن اللاقیدیّة، و لیس معناه الشیوع و السریان إلی الأفراد، و حینئذٍ فلو کان المتکلّم فی مقام البیان، و جَعَل متعلَّق حکمه نفسَ الطبیعة، مثل طبیعة الرقبة فی «أعتق رقبة»، یُحکم بالإطلاق، و یصحّ احتجاج العبد علی مولاه لدی المخاصمة و اللجاج بالإطلاق، و لیس للمولی أن یجیبه بالاعتماد علی القدر المتیقّن الموجود من أفراد مخصوصة کالمؤمنة من الرقبة أو صنف خاصّ أو نوع کذلک؛ لأنّ واحداً منها لم یکن متعلَّقاً للحکم، بل المتعلّق له نفس الطبیعة، و لو أراد المقیَّد یلزم علیه البیان.

و إن ارید بذلک أنّ المکلّف یقطع بالامتثال و خروج العهدة عن التکلیف بالإتیان بالمقیّد- أی القدر المتیقّن- و عتق الرقبة المؤمنة- مثلًا- علی أیّ تقدیر؛ سواء تعلّق الحکم بالطبیعة أو الطبیعة المقیّدة واقعاً، بخلاف ما لو أعتق فرداً غیرها، فإنّه یحتمل عدم تعلُّق الأمر به واقعاً، فلا یقطع بالامتثال.

ففیه: أنّ القدر المتیقَّن فی مقام الإطاعة و الامتثال غیر القدر المتیقَّن فی مقام تعلُّق الحکم و الخطاب؛ إذ لا ریب فی صحّة الاحتجاج فیما لو أطلق فی مقام البیان، مع وجود القدر المتیقّن فی مقام الامتثال.

و بالجملة: لا احتیاج فی الأخذ بالإطلاق إلی هذه المقدّمة، و لا إلی المقدّمة الثانیة، بل یکفی کون المتکلّم فی مقام البیان.

هذا بناءً علی ما اخترناه من معنی الإطلاق، و أنّه عبارة عن اللاقیدیّة.

و أمّا بناءً علی ما اختاره المحقِّق صاحب الکفایة قدس سره و غیره: من أنّ الإطلاق عبارة عن الشیوع و السریان(1)- أی سریان الحکم إلی الأفراد- فلا إشکال فی الاحتیاج إلی المقدّمة الاولی- أی کون المتکلِّم فی مقام البیان- فی التمسُّک بالإطلاق.


1- کفایة الاصول: 287 و 288، مطارح الأنظار: 218 سطر 17.

ص: 433

و أمّا المقدّمة الثانیة- أی عدم ذکر القید- ففیها: أنّها محقِّقة لموضوع الإطلاق، و مع إحراز عدم القید لا یشکّ فی الإطلاق؛ لیفتقر إثباته إلی المقدّمات.

و أمّا المقدّمة الثالثة: فقال فی «الکفایة» فی تقریب الاحتیاج إلیها: إنّه مع وجود القدر المتیقّن لا إخلال بالغرض لو کان المتیقّن تمام مراده، فإنّ الفرض أنّه بصدد بیان تمامه، و قد بیّنه، لا بصدد بیان أنّه تمامه کی أخلَّ ببیانه(1).

و قال فی الحاشیة: لو کان المولی بصدد بیان أنّه تمامه ما أخلّ ببیانه، بعد عدم نصب قرینة علی إرادة تمام الأفراد، فإنّه بملاحظته یفهم أنّ المتیقّن تمام المراد، و إلّا کان علیه نصب القرینة علی إرادة تمامها، و إلّا فقد أخلّ بغرضه.

نعم لا یفهم ذلک إذا لم یکن إلّا بصدد بیان أنّ المتیقّن مراد، و لم یکن بصدد بیان أنّ غیره مراد أو غیر مراد، قبالًا للإجمال و الإهمال المطلقین، فافهم فإنّه لا یخلو عن دقّة(2). انتهی.

و فیه: أنّه علی فرض حکایة الطبیعة عن الأفراد و أنّها مرآة لها، فهی تحکی عن جمیع الأفراد؛ إذ لا معنی لحکایة الطبیعة المطلقة عن الأفراد المقیّدة، التی فُرض أنّها القدر المتیقَّن، فلو جعل متعلَّق الحکم الطبیعة الحاکیة عن الأفراد، صحّ الحکم بالإطلاق و الاحتجاج علی المولی و لو مع وجود القدر المتیقَّن بالمعنی المذکور فی البین؛ حیث إنّ المفروض أنّ متعلَّق الحکم هی نفس الطبیعة المطلقة الحاکیة عن جمیع الأفراد بزعمهم، و یکفی الإتیان بأیّ فرد من أفرادها، مثلًا: لو سأله عن بیع المعاطاة، فأجاب: بأنّه أحلّ اللَّه البیع، فإنّه یصحّ الأخذ بإطلاقه، و لا یمنعه تقدُّم السؤال، مع أنّه القدر المتیقّن بملاحظة السؤال، ثمّ بعد إحراز أنّ المتکلّم فی مقام البیان صحّ التمسُّک بالإطلاق، و الاحتجاج به علی المولی، و لا فرق فیه بین الإطلاق فی نفس الحکم


1- انظر کفایة الاصول: 287.
2- کفایة الاصول: 287- 288.

ص: 434

و متعلَّقه أو موضوعه أو غیر ذلک.

لکن اورد علیه بوجهین:

الأوّل: أنّه لو احرز أنّ المتکلّم فی مقام البیان، مع جعل الطبیعة متعلَّقة أو موضوعة للحکم، کالرقبة فی «أعتق الرقبة»، ثمّ ظفر بالمقیِّد المنفصل، یکشف به عن أنّه لم یکن فی مقام البیان، و معه لا یجوز التمسُّک بإطلاقه بالنسبة إلی قیود اخر، کالعدالة المشکوک فی تقییدها بها؛ لکشف الخلاف، و أنّه لم یکن فی مقام البیان(1).

الثانی: أنّ المقدّمات المذکورة إنّما تُنتج الإطلاق لو کان المتکلّم من الموالی العرفیّة، الذین لیس دأبهم تقیید مطلقاتهم بالدلیل المنفصل، و أمّا مَن دأبه و دیدنه جعل القوانین الکلّیّة، ثمّ الإتیان بالقیود فی فصول منفصلة عن ذلک، فلا یستقیم ذلک، و لا تنتج المقدّمات المذکورة صحّة الأخذ بالإطلاق.

أقول: أمّا الوجه الأوّل: ففیه أنّه إنّما یرد لو قلنا: إنّ تقیید المطلق موجب للتجوُّز فیه، و أمّا لو لم نقُلْ بذلک، و أنّ التقیید لا یوجب التجوُّز فی المطلق- کما مرّ تفصیلًا- فلا یسقط المطلق عن الحجّیّة بعد التقیید، کما فی العامّ بعد التخصیص.

توضیحه: أنّه لو قال: «أعتق الرقبة»، فیتخیّل أنّه فی مقام بیان تمام مراده، فمقتضی أصالة الإطلاق هو أنّ المطلق استُعمل فی معناه، کالرقبة فی نفس الطبیعة، و مقتضی أصالة الجدّ هو أنّ ذلک مراده جدّاً أیضاً، فإذا وُجد مقیّد بعد ذلک بدلیل منفصل- مثل: «لا تعتق رقبةً کافرة»- یکشف ذلک عن عدم صحّة جریان أصالة الجدّ بالنسبة إلی هذا القید، و أنّ متعلّق الحکم بحسب الجدّ هو الرقبة المؤمنة، و أمّا بالنسبة إلی قیود اخر شُکّ فیها- کالعدالة و العلم- فلا مانع من جریان أصالتی الإطلاق و الجدّ بالنسبة إلیها، کما هو الحال فی العامّ المخصَّص بالمنفصل، فإنّه حجّة فیما


1- انظر مطارح الأنظار: 218 سطر 19. و قد أشار المحقّق الخراسانی إلی هذا الإشکال فی ضمن کلامه ممّا یدلّ علی أنّ الأشکال کان مطروحاً قبله.

ص: 435

بقی بعد التخصیص.

و أمّا الوجه الثانی: ففیه- أیضاً- أنّ مقتضاه عدم جواز التمسُّک بالإطلاق قبل الفحص عن المقیِّد و المعارض، و هو مسلَّم، بل جمیع الأدلّة کذلک لا یجوز التمسُّک بها قبل الفحص عن المعارض، کالعامّ قبل الفحص التامّ عن المخصِّص و المعارض، و لا محیص عنه، لکن إذا تفحّص المجتهد بمقدار یُخرِج المُطلق عن المَعْرَضیّة للتقیید، جاز التمسُّک بإطلاقه إذا کان المتکلّم فی مقام البیان.

ثمّ إنّه لو عُلم أنّ المولی فی مقام بیان تمام مراده، فلا إشکال فی جواز التمسُّک بإطلاق کلامه، و لو عُلم أنّه لیس فی مقام البیان، فلا إشکال فی عدم جواز التمسک بإطلاق کلامه، و لو شُک فی ذلک ففیه تفصیل؛ لأنّه إمّا أن یعلم أنّه فی مقام بیان ذلک الحکم، لکن یُحتمل أن لا یکون فی مقام [بیان] تمام مراده، کما لو سأله عن الشکّ بین الثلاث و الأربع، فقال: «ابنِ علی الأربع»، فإنّه لا یُحتمل أنّه فی الجواب فی مقام بیان حکمٍ آخر غیر حکم الشکّ بینهما، لکن یحتمل عدم کونه فی مقام بیان تمام المراد، فمقتضی الأصل هو الحمل علی أنّه فی مقام بیان تمامه؛ لاستقرار بناء العقلاء علیه، و أمّا أن یشُکّ فی أنّه هل هو بصدد بیان ذلک الحکم أو حکمٍ آخر؟ فلا أصل فی البین یُحرز به ذلک؛ لعدم بناء العقلاء فی هذه الصورة علی ذلک.

ص: 436

ص: 437

الفصل الرابع فی أقسام المطلق و المقیّد و أحکامهما

إذا ورد مطلق و مُقیَّد ففیه أقسام: لأنّهما إمّا متکفّلان لحکم وضعیّ أو لحکم تکلیفیّ. و علی الثانی: إمّا هما مثبتان أو منفیّان، أو مختلفان فی النفی و الإثبات.

و علی أیّ تقدیر إمّا هما إلزامیّان، أو غیر إلزامیّین، أو مختلفان فیه. و علی الأخیر: فإمّا أنّ المثبت إلزامیّ و المنفیّ غیر الزامیّ، أو بالعکس.

و علی جمیع التقادیر: قد یُعلم بأنّ المطلوب و التکلیف واحد؛ إمّا لذکره السبب أو من الخارج، و قد لا یعلم ذلک ... إلی غیر ذلک من الأقسام المتصوّرة فیه.

و لا بأس بتفصیل الکلام و بسطه فی غالب تلک الأقسام؛ لما یترتّب علیها من النتائج المفیدة فی مقام استنباط الأحکام:

الصورة الاولی: فی المختلفین فی الإثبات و النفی، و هما- أیضاً- إمّا متّصلان أو منفصلان: لا إشکال فی حمل المطلق علی المقیَّد فی المتّصلین؛ لاحتفاف المطلق بالمقیَّد قبل انعقاد ظهوره فی الإطلاق، لا من باب تصادم الظهورین، بل لأنّه لا ینعقد للکلام- حینئذٍ- إلّا ظهور واحد فی المقیّد؛ لأنّ ظهور المطلق فی الإطلاق موقوف علی عدم ذکر القید، و المفروض ذکره فی الکلام بنحو الاتّصال.

ص: 438

و أمّا فی المنفصلین فهما- أیضاً- علی قسمین: لأنّ المنفیّ إمّا هو المطلق، و المثبت هو المقیّد، مثل: «لا تعتق الرقبة» و «أعتق رقبة مؤمنة»؛ بناءً علی أنّ الأوّل لا یُفید العموم، فإن کان النهی تحریمیّاً فلا إشکال فی حمل المطلق علی المقیّد، و لا فرق فیه بین کون الأمر فی المقیّد إلزامیّاً أو غیر إلزامیّ، فإنّ حرمة العتق بنحو الإطلاق معناها حرمة جمیع أفراده و مصادیقه عرفاً، فإنّ عدم الطبیعة فی المتفاهمات و الارتکازات العرفیّة إنّما هو بانعدام جمیع أفرادها، و هو منافٍ لوجوب عتق فردٍ منها، و هو المؤمنة، أو استحبابه، فلا محیص عن حمل المطلق علی المقیّد فیه.

الصورة الثانیة: عکس الأوّل؛ المنفی هو المقیّد و المثبت هو المطلق، نحو: «لا تعتق رقبة کافرة» و «أعتق الرقبة»، فإن کان النهی تنزیهیّاً فلا ریب فی عدم حمل المطلق علی المقیّد فیه؛ لعدم المنافاة بین وجوب عتق الرقبة و کراهة عتق الکافرة، و إن کان النهی تحریمیّاً فلا إشکال فی وجوب حمل المطلق علی المقیّد؛ لتحقّق المنافاة بین حرمة عتق الکافرة و وجوبه.

و إنّما الإشکال فیما لو شُکّ فی أنّ النهی تحریمیّ أو تنزیهیّ، فإنّ الأمر دائر بین تقیید المطلق لو فرض کون النهی تحریمیّاً، و بین التصرُّف فی هیئة النهی بحمله علی التنزیهیّ، فعلی القول: بأنّ النهی موضوع للحرمة، أو القول بکشفه نوعاً عن أنّه عن إرادة إلزامیّة، فلا ریب فی وجوب حمل المطلق علی المقیّد؛ لأنّ ظهوره فی التحریم- حینئذٍ- وضعیّ، بخلاف ظهور المطلق فی الإطلاق، و الظهور الوضعیّ أقوی من غیره، فیقدّم علیه.

لکن قد عرفت سابقاً: أنّ الحقّ أنّه موضوع للزجر عن الشی ء، و أنّه یحتاج إلی الجواب من العبد عند العرف و العقلاء، و حمله علی التحریم إنّما هو لذلک، مع عدم ترخیصه فی الفعل، و حینئذٍ فظهوره لیس وضعیّاً کظهور الآخر، و حینئذٍ لا بدّ فی التصرُّف فی المطلق من إثبات أنّ النهی فی المقیّد تحریمیّ، و کذلک العکس؛ لأنّه یعتبر

ص: 439

فی الأخذ بالإطلاق رفع الید عن احتیاج النهی إلی الجواب، و أنّ المطلق ترخیص فی الفعل، و لا ترجیح فی البین، فیقع الإجمال.

غایة ما یمکن أن یقال فی بیان حمل المطلق علی المقیّد: هو أنّ بناء الشارع المقنِّن- المستفاد من ملاحظة جمیع أبواب الفقه- هو ذکرُ المقیِّدات منفصلًا عن المطلقات، و إرادةُ المقیّد من المطلقات، فیحصل هنا ظنٌّ نوعیّ بحمل المطلق علی المقیّد، لا حمل النهی علی الکراهة مع حفظ إطلاق المطلق.

و هنا وجه ثالث: و هو أنّ ذلک مبنیٌّ علی شمول النزاع فی اجتماع الأمر و النهی للمطلق و المقیّد و القول بجواز الاجتماع و عدم الشمول.

فإن قلنا بالشمول و جواز الاجتماع فیحفظ کلٌّ من الإطلاق و النهی علی ظاهرهما، و لا یُتصرّف فی واحد منهما، فمورد الاجتماع هو مجمع العنوانین، فباعتبار أحدهما یکون فاعله مطیعاً، و باعتبار الآخر عاصیاً، و إن لم نقل بشمول النزاع لهما أو قلنا بعدم جواز الاجتماع، فلا محیص عن التصرُّف فی أحدهما، و یقع الإجمال(1).

و فیه: أنّا قد أشرنا آنفاً إلی أنّ مسألة جواز الاجتماع و عدمه مسألة عقلیّة، لا ارتباط لها بمسألة تعارض الدلیلین- کما فی المقام- و الجمع بینهما، فإنّ المرجع فیها هو العرف و نظر العقلاء، فلا بدّ من عرض المطلق و المقیّد علی العرف، فإن أمکن الجمع بینهما عرفاً بحمل المطلق علی المقیّد أو بالعکس فهو، و إلّا فلا بدّ من التعامل معهما معاملة المتعارضین، و حینئذٍ فلا وجه للاحتمال الثالث، بل یدور الأمر فیهما بین الاحتمالین الأوّلین.

و الإنصاف: أنّ الإطلاق لیس قرینة عرفاً علی التصرُّف فی هیئة النهی، بل الأمر بالعکس، کما فی العامّ و الخاصّ المطلقین، و لعلّ السرّ فی ذلک: عدم توجُّه العرف إلی المعنی الحرفیّ- أی هیئة النهی- کی یتصرّف فیه إلّا نادراً، و لا فرق فی هذه


1- انظر ما قرّره فی مطارح الأنظار: 223 سطر 8.

ص: 440

الصورة بین تقدُّم صدور المقیّد علی المطلق أو بالعکس.

و قد یقال: إنّ قوله: «لا تعتق رقبة کافرة» علی فرض کونه تنزیهیّاً، أیضاً قرینة علی التصرّف فی المطلق و حمله علی المقیّد، فضلًا عن الشکّ فیه؛ لأنّ النهی التنزیهی متعلِّق بالمقیَّد بحسب الظاهر، لا القید فقط، کما فی قوله: «لا تصلِّ فی الحمّام»، فإنّ المنهیّ عنه فیه هی الصلاة فی الحمّام، لا الکون فی الحمّام، فالمنهیّ عنه فیما نحن فیه هو عتق الکافرة لا الکفر، فعتق الرقبة الکافرة منهیّ عنه و مرجوح، و هو منافٍ لوجوب عتق مطلق الرقبة و رجحانه، فلا بدّ من حمل المطلق علی المقیّد فی هذه الصورة أیضاً. نعم لو عُلم من الخارج أنّ عتقها مطلقاً مطلوب و راجح، لم یکن بدٌّ من حمل النهی علی الإرشاد إلی أفضل الأفراد، لا حمل المطلق علی المقیّد.

أقول: قد عرفت أنّ المسألة لیست عقلیّة مبنیّة علی الدقائق العقلیّة، بل عرفیّة عقلائیّة لا بدّ من عرضها علی العرف، فمع العلم بأنّ النهی تنزیهیّ یتعیّن عند العرف حفظ إطلاق المطلق و حمل النهی علی الإرشاد إلی أفضل الأفراد.

الصورة الثالثة: فی المُثبَتَینِ نحو: «أعتق رقبة»، و «أعتق رقبة مؤمنة»، و لم یُذکر السبب فیهما، مع فرضهما إلزامیّین، ففیه احتمالات:

الأوّل: حمل المطلق علی المقیّد مع حفظ الوجوب فی کلٍّ منهما.

الثانی: أنّهما تکلیفان و واجبان مستقلّان، و حینئذٍ فالکلام فی کفایة عتق الرقبة المؤمنة فی امتثال الأمرین و عدمها، هو الکلام فی تداخل الأسباب و المسبّبات.

الثالث: حمل الأمر فی المقیّد علی الإرشاد إلی أفضل الأفراد للواجب المخیّر، مع حفظ الوجوب فیهما.

الرابع: أن یکون عتق الرقبة واجباً فی واجب.

فنقول: أمّا الاحتمال الأخیر: ففیه: أنّه إنّما یصحّ إذا تعلّق الأمر فی المقیّد بالقید وحده، لا بالمقیّد، لکنّه لیس کذلک فی أغلب الموارد، و من جملتها ما نحن فیه، فإنّ

ص: 441

الأمر بالمقیّد لیس متعلِّقاً بالإیمان، بل بالرقبة المؤمنة، و حینئذٍ فلا وجه لهذا الاحتمال.

و أمّا الاحتمال الأوّل: فحمل المطلق علی المقیّد موقوف علی إثبات وحدة الحکم و إحرازها فیهما، و أمّا لو فُرض أنّهما تکلیفان مستقلّان، فلا تنافی بینهما حتی یُجمع بینهما بحمل المطلق علی المقیَّد.

فذکر بعض الأعاظم لإثبات وحدة الحکم فیهما وجهین:

الأوّل: أنّ الحکم فی المطلق متعلّق بصِرف وجوده، و کذلک فی المقیَّد، فمع فرض أنّ الحکم فیهما إلزامیّ لا بدّ أن یکون واحداً، فیدور الأمر بین تعلُّقه بالمطلق و بین تعلُّقه بالمُقیّد، فعلی الأوّل فمعناه الترخیص فی ترک القید و عدم دخالة القید فی المطلوب، و علی الثانی فالقید دخیل فی المطلوب لا یجوز ترکه، فیقع التنافی بینهما.

الثانی: أنّ متعلَّق الحکم فی المطلق نفس الطبیعة و صِرف وجودها، و أنّه لیس للقید دَخْلًا فیه، بخلاف المقیّد، فإنّ معناه أنّ للقید دَخْلًا فی المطلوب، فمع فرض کون التکلیف إلزامیّاً یقع التنافی بینهما؛ ضرورة التنافی بین دَخْل القید فی المطلوب و عدم دخله فیه(1).

أقول: لو فرض أنّ هنا حکمین مستقلّین فی الواقع: تعلّق أحدهما بنفس الطبیعة، و الآخر بالطبیعة المقیّدة، لم یصحّ واحد من الوجهین؛ ضرورة عدم التنافی بین دخالة قید فی حکم و عدم دخالته فی حکم آخر، و الحاکم لا یرضی بترک القید فی أحد الحکمین دون الآخر، فالتنافی بینهما موقوف علی وحدة الحکم، و وحدتُهُ علی التنافی بینهما، و ذلک دور واضح.

فالأولی فی بیان إثبات وحدة الحکم فیهما أن یقال: إنّ متعلّق الحکم فی المطلق هو نفس الطبیعة المطلقة، و لم یحتمل دَخْل قید آخر فی الحکم، و فی المقیّد هو هذه الطبیعة مقیّدة بقید، فالموضوع فیهما واحد بإضافة قید فی أحدهما، فمع وحدة


1- انظر فوائد الاصول 2: 584.

ص: 442

الموضوع لا یُعقل تعدُّد الحکم، فالحکم- أیضاً- واحد لا محالة، و إلّا یلزم تعلُّق الإرادة و الحبّ بنفس الطبیعة مرّتین تأسیساً لا تأکیداً؛ لما عرفت أنّ المطلق و المقیّد لیسا عنوانین متباینین؛ لیترتّب علی أحدهما مصلحة، و علی الآخر مصلحة اخری، و حینئذٍ فلا بدّ أن یکون الحکم و المطلوب فیهما واحداً، فیدور الأمر بین الاحتمالین الأوّلین، فلا بدّ من عرضهما علی العرف، و المتبادِر فی المتفاهَم العُرفی هو حمل المطلق علی المقیّد؛ لغفلتهم عن احتمال أنّ الأمر فی المقیَّد و هیئتَهُ للإرشاد إلی أفضل الأفراد، و لعلّ السرّ فی ذلک: إمّا ما ذکرناه من عدم توجّه أذهان العقلاء و العرف إلی المعانی الحرفیّة، و أنّها مغفول عنها إلّا مع عنایة زائدة، أو لأجل أنّ الغالب فی محیط الشرع و التشریع هو ذلک لا العکس.

و لو احتمل تعلُّق الحکم فی المطلق- أیضاً- مقیّداً بقید آخر فی الواقع، فإنّه- حینئذٍ- یقع بینهما التنافی، و یدور الأمر فی المطلق بین التأسیس علی فرض تقیُّده فی الواقع بقید آخر، و بین التأکید علی فرض عدمه و حمل المطلق علی المقیّد، فالثانی- أیضاً- هو المتعیّن عرفاً.

و ذهب فی «الدُّرر»: إلی أنّه مع إحراز وحدة المطلوب من الخارج، یقع الإجمال لو لم یذکر السبب فی واحد منهما؛ لأنّ ظهور المطلق فی الإطلاق یُصادم ظهور المقیّد فی دَخْل القید، فیدور الأمر بین حمل المطلق علی المقیَّد، و بین حمل هیئة الأمر فی المقیّد علی الإرشاد إلی أفضل الأفراد، و لا ترجیح فی البین، فیقع الإجمال(1).

و فیه: أنّ ظهور المطلق فی الإطلاق إنّما هو لأجل عدم البیان، و مع ورود البیان- أی المقیّد- لا یصحّ الأخذ بالإطلاق و الاحتجاج به، فظهور المقیّد أقوی، فیقدّم علی المطلق.

و قال المحقّق المیرزا النائینی قدس سره فی المقام ما حاصله: إنّه إن کان المطلق


1- انظر درر الفوائد: 236- 237.

ص: 443

و المقیّد متنافیین متّصلین، یتعیّن حمل المطلق علی المقیّد؛ لأنّ ظهور المطلق فی الإطلاق و التمستک به، موقوف علی عدم نصب قرینة علی الخلاف، و المقیّد صالح للقرینیّة.

فالسرّ فی تقدیم المقیّد علی المطلق: هو أنّ المقیّد قرینة علی عدم إرادة الإطلاق، و ظهور القرینة مقدّم علی ظهور ذی القرینة مطلقاً، و إن کان ظهور القرینة أضعف من ظهور ذی القرینة؛ لأنّ وجه تقدیمه علیه هو حکومة ظهور القرینة علی ظهور ذی القرینة، و أنّ الشکّ فی ذی القرینة مُسبَّب عن الشکّ فی ظهور القرینة، فرفع الشکّ عن ظهور القرینة مستلزم لرفعه عن ذی القرینة، مثلًا: لو قال: «رأیت أسداً یرمی»، فالأسد ظاهر فی الحیوان المفترس بالوضع، و لفظة «یرمی» و إن احتمل أن یُراد منها الرمی بالتراب، لکنّها منصرفة إلی الرمی بالنبل، و حینئذٍ فهو عبارة اخری عن الرجل الرامی بالنبل، و ظهورها مقدّم علی ظهور «الأسد»؛ لما ذکرنا، فیلزم رفع الشکّ فی «الأسد» أیضاً، و ما نحن فیه من هذا القبیل.

ثمّ ذکر: أنّه و إن لم یظفر علی ضابط کلّیّ لامتیاز القرینة عن ذی القرینة، إلّا أنّ الغالب هو أنّ ما یُعدّ من اصول الکلام- کالفعل و الفاعل- فهو ذو القرینة، و ما یُعدّ من متعلَّقاته- کالحال و التمیّز و نحوهما ممّا لیس من اصول الکلام- فهو القرینة، و اختلف فی المفعول به فی أنّه القرینة أو ذو القرینة، مثل: «الیقین» فی

(لا تنقض الیقین بالشکّ)

(1)؛ حیث إنّ لفظ «الیقین» یعمّ صورة الشکّ فی الرافع و المقتضی، و النقضُ ظاهر فی الرافع، فإنْ عُدّ المفعول به قرینةً فلا بدّ من تقدیم ظهوره علی ظهور النقض، فیدلّ علی حجّیّة الاستصحاب مطلقاً، و إلّا قُدِّم ظهور النقض علی ظهوره، فیدلّ علی حجّیّته فی خصوص الشکّ فی الرافع فقط، و لذلک اختلفوا فی حجّیّة الاستصحاب


1- التهذیب 1: 8 باب الاحداث الموجبة للطهارة ح 11، الوسائل 1: 174 باب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 1.

ص: 444

مطلقاً(1) أو فی خصوص الشکّ فی الرافع(2).

و هکذا قولک: «اضرب أحداً»، فإنّ الضرب ظاهر فی الضرب المؤلم، و الأحد یشمل الإنسان الحیّ و المیّت.

ثمّ قال: و أمّا المنفصلان فهما- أیضاً- کذلک، إلّا أنّه لا بدّ من ملاحظة أنّهما مع فرض الاتّصال هل هما متضادّان أو لا؟ و علی الثانی فالحکم فیهما هو ما ذکرناه فی المتّصلَین(3). انتهی ملخّص کلامه.

أقول: فی کلامه قدس سره مواقع للنظر و الإشکال نذکر بعضها:

أمّا أوّلًا: فلأنّ ما ذکره- من أنّ الشکّ فی ظهور ذی القرینة مسبَّب عن الشکّ فی ظهور القرینة- ممنوعٌ؛ فإنّ المجازات نوعاً لیست کذلک، فإنّ الشکّ فی ظهور «الأسد» فی الحیوان المفترس، لیس مسبَّباً و ناشئاً عن الشکّ فی ظهور «یرمی»؛ لإمکان العکس، بل الشک فی أحدهما ملازم للشکّ فی الآخر، لا أنّه مسبَّب عن الآخر، و یرتفع الشک فی أحد المتلازمین بارتفاعه فی الآخر، فلیس ظهور القرینة حاکماً علی ظهور ذی القرینة، و ما ذکره: من أنّ «یرمی» عبارة اخری عن الرجل الرامی، کما تری، و الوجه فی تقدیم ظهور المقیَّد علی ظهور المطلق، هو ما أشرنا إلیه من أقوائیّة ظهوره علی ظهور المطلق.

و ثانیاً: ما أفاده: من عدم الفرق بین المنفصلین و بین المتّصلین، فهو من الأعاجیب؛ لأنّهما فی المتّصلین لیسا کالقرینة وذی القرینة؛ لما عرفت من أنّه مع احتفاف المطلق بما یصلح للتقیید قبل ظهوره التصدیقی، لا ینعقد له ظهور، فلیس لظهور المقیّد مصادِم فی صورة الاتّصال، بخلاف القرینة وذی القرینة، و الإطلاق لیس


1- کفایة الاصول: 439.
2- فرائد الاصول: 328 سطر 17.
3- فوائد الاصول 2: 577- 579، أجود التقریرات 1: 535- 537.

ص: 445

مدلولًا للّفظ، بخلاف ذی القرینة.

و بالجملة: قیاس ما نحن فیه بالقرینة وذی القرینة فی غیر محلّه، و کذا قیاس صورة الانفصال علی صورة الاتّصال فی غیر محلّه.

الصورة الرابعة: فی المطلق و المقیّد المنفیّین مع عدم ذکر السبب: فهما مثل «لا تعتق رقبةً» و «لا تعتق رقبة کافرة»، فهما لا یتنافیان عند العرف و العقلاء، فلا یحمل المطلق علی المقیّد، و المنهیّ عنه عتق جمیع أفرادها.

الصورة الخامسة: فی المثبتین مع ذکر السبب فیهما، و لکن السبب فی أحدهما غیره فی الآخر: مثل «إن ظاهرتَ فأعتق رقبة» و «إن أفطرت أعتق رقبة مؤمنة»، فقالوا: إنّه لا یُحمل المطلق علی المقیّد فیه(1)، و إن أمکن أن یقال: إنّ السبب فی أحدهما و إن کان غیره فی الآخر، و مع ذلک لا یمکن تعلُّق إرادتین مستقلّتین: إحداهما بالمطلق، و الاخری بالمقیّد، کما ذکرناه فی القسم الثالث، لکنّه إنّما هو بمقتضی حکم العقل و الدقّة العقلیّة، و المرجع هنا هو نظر العرف و العقلاء، و لا ربط لأحدهما بالآخر عرفاً، و لا ریب أنّهما تکلیفان مستقلّان عند العرف، فلا یحمل المطلق منهما علی المقیّد؛ إذ لا تنافی بینهما.

الصورة السادسة: فی المثبتَینِ مع ذکر سبب واحد فیهما: مثل «إن ظاهرت فأعتق رقبة» و «إن ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة»، فلا إشکال فی أنّ الجمع العرفی بینهما هو حمل المطلق علی المقیّد.

و إنّما الإشکال فیما لو ذکر السبب فی أحدهما فقط، و هو القسم السابع، مثل:

«إن ظاهرت فأعتق رقبة»، و قال: «أعتق رقبة مؤمنة»:

فقال بعض الأعاظم- المحقّق المیرزا النائینی قدس سره-: إنّ حمل المطلق علی المقیّد فیه مستلزم للدور؛ لأنّ حمل المطلق علی المقیّد، یتوقّف علی إثبات أنّ التکلیف فیهما


1- مطارح الأنظار: 220، فوائد الاصول 2: 580.

ص: 446

واحد، متعلّق بموضوع واحد؛ لأنّهما لو کانا تکلیفین مستقلّین متعلّقین علی موضوعین، فلا تنافی بینهما کی یُحمل أحدهما علی الآخر، فحمل أحدهما علی الآخر یتوقّف علی إثبات وحدة الموضوع، و وحدة الموضوع تتوقّف علی وحدة الحکم، و الظاهر أنّه لا دافع لهذا الدور، و حینئذٍ فلا یحمل المطلق علی المقیّد فیهما(1).

أقول: و فیه أوّلًا: ما عرفت من أنّ المحکّم هنا نظرُ العرف و العقلاء، فیقدّم الأظهر فی المتفاهم العُرفی علی الظاهر، لا حکمُ العقل الذی ذکره.

و ثانیاً: لو أغمضنا عن ذلک، لکن ما ذکره من الدور مدفوع: بأن وحدة الحکم- و إحرازها- و إن تتوقّف علی وحدة الموضوع، لکن وحدة الموضوع بحسب الواقع و نفس الأمر- و لا إحرازها- لا تتوقّف علی وحدة الحکم؛ لأنّ وحدة الموضوع أمر واقعیّ وجدانیّ لا تتوقّف علی وحدة الحکم، فلا بدّ من ملاحظة أنّ الطبیعة و الطبیعة المتقیِّدة بقید، هل هما عنوانان متغایران، أو لا؟

و قد عرفت عدم تغایرهما عقلًا، فحکمهما واحد لیس إلّا، فیحمل المطلق علی المقیّد، لکن حیث إنّ المحکّم هنا هو نظر العرف و العقلاء، ففی المتفاهم العرفی هما تکلیفان مستقلّان، فلو لم یُظاهِرْ أحد من الناس مدّة عمره لا یجب علیه عتق الرقبة المؤمنة، لکنّه لا یُعذر فی ترک امتثال أمر المطلق بدون ذکر السبب، و لا یصحّ الاحتجاج بحمل المطلق علی المقیّد کما لا یخفی. هذا کلّه فی الأحکام التکلیفیّة.

و أمّا الأحکام الوضعیّة فالمطلق و المقیّد المتضمنان لها صورها کصور المتضمِّنین للأحکام التکلیفیّة؛ فی أنّه قد یُحمل المطلق منها علی المقیّد، کما لو قال: «اقرأْ فی صلاتک سورة»، ثمّ قال: «اقرأ فیها سورة طویلة» مثلًا، مع إحرازِ وحدة الحکم، و جعْلِ جزئیّة شی ءٍ واحد، فیحمل المطلق علی المقیّد، بخلاف ما لو قال: «لا تصلِّ فیما لا یؤکل لحمه»، و قال: «لا تُصلِّ فی الخزّ» مثلًا؛ لعدم المنافاة بینهما؛ لعدم المفهوم فی


1- انظر فوائد الاصول 2: 580- 581.

ص: 447

الثانی، و لو کان الحکمان استحبابیّین أو النهیان تنزیهیّین أو بالاختلاف، فإنّه و إن أمکن التفصیل بما ذکرناه فی الواجبین، لکن حیث إنّ بناءهم علی الحمل علی مراتب المحبوبیّة فی هذا الباب، فلا یُحمل المطلق علی المقیَّد.

و أمّا قضیّة التسامح فی أدلّة السُّنن- کما فی «الکفایة»- فهو إنّما یصحّ فیما لو کان هناک دلالة؛ لیتسامح فی السند، و الدلالة فیما نحن فیه موقوفة علی عدم حمل المطلق علی المقیَّد، و عدم الجمع العرفی بینهما بحمل المطلق علی المقیّد، و إلّا فلا دلالة لیُتسامح فی سندها.

هذا تمام الکلام فی مباحث الألفاظ؛ تقریراً لأبحاث سیّدنا الأفخم، و استاذنا الأعظم، آیة اللَّه العظمی، الحاج آغا روح اللَّه الموسوی الخمینی، حفظه اللَّه من الآفات و الشرور و الأسقام بحقّ محمّد و آله الطاهرین- صلوات اللَّه علیهم أجمعین- و الحمد للَّه ربّ العالمین.

قد وقع الفراغ من تقریره و تسویده بید العبد الفانی حسین التقوی الاشتهاردی سنة خمسٍ و ثلاثین و ثلاثمائة بعد الألف من السنین الشمسیّة الهجریّة.

ص: 448

ص: 449

الفهرس

ص: 450

ص: 451

فهرس الموضوعات

الفصل الثانی عشر: فی مقدّمة الواجب ... 5

الأمر الأوّل: فی تنقیح محطّ البحث: ... 5

الثانی من الامور: أنّ هذه المسألة هل هی من المسائل الاصولیّة،

أو من المبادی الفقهیّة، أو من المسائل الکلامیّة أو غیرها؟ ... 8

الثالث من الامور: المقدمة الداخلیة و الخارجیة ... 10

الرابع من الامور: ثبوت النزاع فی العلّة التامّة ... 14

الخامس من الامور: المقدّمة المتأخرة ... 15

المبحث الأوّل: فی الواجب المطلق و المشروط ... 24

المبحث الثانی: فی الواجب المعلَّق و المنجَّز ... 32

خاتمة ... 37

المبحث الثالث: فی الواجب النفسی و الغیری ... 43

مقتضی الأصل العملی ... 48

خاتمة ... 51

المبحث الرابع: فی التقرّب بالواجبات الغیریّة ... 63

ص: 452

المبحث الخامس: فی شروط وجوب المقدّمة و تبعیته لوجوب ذیها ... 65

فی أنحاء قصد التوصّل و أحکامها ... 71

المقدّمة الموصلة ... 73

الأقوال الراجعة إلی وجوب المقدّمة حال الإیصال ... 77

ثمرة القول بوجوب المقدّمة الموصلة ... 82

المبحث السادس: فی الواجب الأصلی و التبعی ... 87

خاتمة: فی الأصل عند الشکّ فی الأصالة و التبعیّة ... 89

المبحث السابع: فی ثمرة بحث مقدّمة الواجب ... 90

المبحث الثامن: فی الأصل عند الشّک فی الملازمة ... 92

المبحث التاسع: فی أدلّة وجوب المقدّمة ... 94

المبحث العاشر: الملازمة بین حرمة الشی ء و حرمة مقدّماته ... 99

الفصل الثالث عشر: فی اقتضاء الأمر بالشی ء للنهی عن ضدّه ... 103

فهنا مقامان من البحث:

المقام الأوّل: فی الضد الخاصّ ... 105

المقام الثانی: فی الضد العامّ ... 113

حول التفصیلات بین ضدّین لا ثالث لهما و غیرهما ... 116

بحث: حول ثمرة القول بالملازمة ... 118

مقالة الشیخ البهائی ... 119

بحث حول الترتّب ... 121

فی أقسام الترتّب ... 122

الخطابات القانونیّة ... 123

رجع إلی بیان استحالة الترتّب ... 128

ص: 453

حول أمثلة الترتّب ... 148

الفصل الرابع عشر: فی أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط ... 155

الفصل الخامس عشر: فی متعلَّق الأوامر و النواهی ... 159

الفصل السادس عشر: فی بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب ... 167

الفصل السابع عشر: فی الوجوب التخییری ... 173

خاتمة فی التخییر بین الأقلّ و الأکثر ... 175

الفصل الثامن عشر: فی الوجوب الکفائی ... 179

الفصل التاسع عشر: فی الواجب الموسَّع و المضیَّق ... 185

المبحث الأوّل: حول تعریفهما ... 185

المبحث الثانی: عدم إمکان صیرورة الموسّع مضیّقاً ... 188

المبحث الثالث: حول دلالة الأمر علی وجوب الإتیان خارج الوقت ... 189

مقتضی الاستصحاب ... 190

المطلب الثانی

فی النواهی

الفصل الأوّل: فی متعلَّق النهی ... 195

الفصل الثانی: فی منشأ الفرق بین مُرادَی الأمر و النهی ... 197

الفصل الثالث: فی اجتماع الأمر و النهی ... 203

الأمر الأوّل: بیان الفرق بین هذه المسألة و مسألة النهی فی العبادات ... 204

الأمر الثانی: فی کون المسألة اصولیة ... 205

الأمر الثالث: فی أنّ المسألة عقلیة ... 207

الأمر الرابع: عدم الفرق بین أقسام الوجوب ... 208

ص: 454

الأمر الخامس: عدم اعتبار وجود المندوحة ... 208

الأمر السادس: هل النزاع مبنیّ علی القول بتعلّق

الأوامر و النواهی بالطبائع أم لا؟ ... 209

الأمر السابع: اعتبار وجود المناطین فی المجتمع ... 210

الأمر الثامن: ثمرة بحث الاجتماع ... 213

صورة الجهل عن قصور ... 216

الأمر التاسع: شمول النزاع لعنوانین غیر متساویین ... 219

التحقیق فی جواز الاجتماع ... 221

حول بطلان العبادة علی القول بامتناع اجتماع المبادئ ... 228

بعض أدلّة جواز الاجتماع ... 233

بحث: فی مَن توسّط أرضاً مغصوبة بسوء الاختیار ... 238

الفصل الرابع: فی اقتضاء النهی فساد المنهیّ عنه ... 247

الروایات التی استدلّ بها لدلالة النهی علی الفساد ... 261

دلالة النهی علی الصحّة ... 264

تنبیه ... 266

المطلب الثالث

المنطوق و المفهوم

المقدمة ... 271

الأمر الأوّل ... 271

الأمر الثانی: أنّه هل المفهوم من الدلالات اللفظیّة أو العقلیّة؟ ... 271

الأمر الثالث ... 273

ص: 455

الفصل الأوّل: فی دلالة الجملة الشرطیة علی الانتفاء عند الانتفاء ... 275

ینبغی التنبیه علی امور:

التنبیه الأوّل: فی حقیقة المفهوم ... 284

التنبیه الثانی: فی تعدّد الشرط و اتّحاد الجزاء ... 286

التنبیه الثالث: فی تداخل الأسباب و المسبَّبات ... 291

مقتضی القواعد اللفظیّة ... 293

المقام الأوّل ... 293

المقام الثانی ... 302

الکلام حول التداخل فی المسبّبات ... 303

خاتمة ... 304

الفصل الثانی: فی مفهوم الوصف ... 307

الأمر الأوّل ... 307

الأمر الثانی ... 308

دلیل ثبوت مفهوم الوصف ... 309

الفصل الثالث: فی مفهوم الغایة ... 313

بحث: فی دخول الغایة فی حکم المُغیّا ... 315

الفصل الرابع: فی مفهوم الاستثناء ... 319

المطلب الرابع

العامّ و الخاصّ

الفصل الأوّل: تعریف العامّ ... 325

الفصل الثانی: الفرق بین بحث العامّ و المطلق ... 327

ص: 456

الفصل الثالث: هل یحتاج فی دلالة ألفاظ العموم علیه

إلی مقدّمات الحکمة فی مدخولها أو لا؟ ... 329

الفصل الرابع: فی أقسام العامّ ... 331

الفصل الخامس: فی دلالة بعض الألفاظ علی العموم ... 335

الفصل السادس: فی حجّیّة العامّ المخصَّص فی الباقی ... 337

الفصل السابع: الکلام فی المخصَّص بالمجمل ... 343

هنا مسائل:

المسألة الاولی: فی إخراج الأفراد بجهة تعلیلیّة ... 353

المسألة الثانیة: فی العامین من وجه ... 354

المسألة الثالثة: فی إحراز الموضوع بالأصل فی الشبهة الموضوعیة ... 355

المسألة الرابعة: فی التمسّک بالعامّ لکشف حال الفرد ... 364

المسألة الخامسة: فی التمسّک بالعامّ عند الشکّ بین التخصیص و التخصّص ... 366

المسألة السادسة: فی التمسّک بالعامّ إذا کان المخصّص مجملًا ... 369

الفصل الثامن: هل یجوز التمسُّک بالعامّ- بل فی جمیع الظواهر-

قبل الفحص عن المخصِّص و المعارض، أو لا؟ ... 371

الفصل التاسع: هل تختصّ الخطابات الشفاهیّة بالحاضرین

فی مجلس الخطاب أو تعمّ الغائبین عنه بل المعدومین؟ ... 381

الفصل العاشر: هل تعقُّب العامّ بضمیر یرجع إلی بعض

مدلوله یُوجب تخصیصه أو لا؟ ... 391

الفصل الحادی عشر: فی تخصیص العامّ بالمفهوم ... 395

المقام الأوّل: التخصیص بالمفهوم الموافق ... 395

المقام الثانی: التخصیص بالمفهوم المخالف ... 399

ص: 457

الفصل الثانی عشر: فی تخصیص الکتاب بالخبر ... 401

الفصل الثالث عشر: فی الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة ... 403

المقام الأوّل: فی إمکان الرجوع إلی الجمیع ... 403

المقام الثانی: فی مقام الإثبات ... 406

تذنیب ... 408

المطلب الخامس

المطلق و المقیّد

الفصل الأوّل: فی تعریف المطلق و المقیّد ... 413

الفصل الثانی: فی الفرق بین الإطلاق و أقسام الماهیة ... 415

تتمیم: فی اسم الجنس و عَلم الجنس ... 425

الفصل الثالث: فی مقدّمات الحکمة ... 429

الفصل الرابع: فی أقسام المطلق و المقیّد و أحکامهما ... 437

الفهرس ... 449

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.